السبت 18 مايو 2024

مجانية التعليم المفترى عليها

22-3-2017 | 13:25

بقلم: أ.د. شــبل بـدران

«إن للفقراء حقاً فى مختلف مراحل وأنواع التعليم، فهو أولاً حق لهم، وهو ثانياً مصلحة للأمة، وهو بعد ذلك تحقيق للديمقراطية...»

(طه حسين)

هكذا آمن طه حسين بأهمية وضرورة التعليم للفقراء، ويعود إيمان واعتقاد طه حسين بذلك منذ عام ١٩٣٨ حينما طرح مشروعه الفكرى والثقافى « مستقبل الثقافة فى مصر» وكان ذلك قبل إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام ١٩٤٨، أى أن طه حسين المفكر الوطنى كان سباقاً للدفاع عن حق التعليم للفقراء، ثم تلا ذلك اتفاقية حقوق الطفل عام ١٩٥٦، ثم الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل عام ١٩٨٩، وكلها نصوص ومواثيق دولية تؤكد حق الإنسان فى التعليم وعلى الدول أن توفره لمواطنيها أينما وجدوا دون تفرقة بسبب المكانة الاقتصادية والاجتماعية أو الجنس أو العقيدة أو اللون، فالتعليم حق للإنسان تسعى جميع الدول والحكومات إلى تحقيقه لمواطنيها بصورة تحفظ كرامة الإنسان وحريته.

إلا أن الواقع الذى نعيشه وبعد أكثر من سبعين عاماً ينضح بأفكار وآراء تؤمن بأن المجانية هى السبب المباشر فى تدنى مستوى التعليم وأنها سبب كل الشرور والتدهور للتعليم المصرى منذ عقود الخمسينيات والستينيات.

والسؤال الذى يطرح نفسه علينا بإلحاح هو: هل يمكن لنا أن نتقدم خطوة إلى الأمام فى مجتمع ثلث مواطنيه من الأميين على مستوى القراءة والكتابة، وأكثر من ٤٠٪ منهم فقراء؟ والإجابة بالطبع كلا، إذن نحن فى أشد الحاجة إلى بناء المجتمع المتعلم القادر على مواجهة مشكلات وتحديات العصر الذى نعيش فيه، ولعل الخبرة التاريخية والإنسانية لخير دليل على ذلك، فمصر فى مطلع القرن التاسع عشر فى عهد محمد على كان التعليم الحديث هو بوابة التقدم وبناء مصر الحديثة، وكان تعليماً بالمجان، وكذلك التجارب المعاصرة فى دول العالم الثالث وتحديداً دول جنوب شرق آسيا لم تحقق أية تنمية إلا عبر تعليم جيد ومجاني، حتى الدول الرأسمالية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا التعليم بها مجانى من الحضانة إلى الجامعة وما بعدها، وكذلك الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى حين انتقلت من مرحلة المجتمع الزراعى البسيط إلى المجتمع الصناعى المتقدم لم يكن أمامها من سبيل سوى التعليم، والتعليم المجانى الذى وفر القوى العاملة المؤهلة والمدربة للانتقال من المجتمع الزراعى إلى المجتمع الصناعى المعقد.

هذا فضلاً عن موقف الهيئات والمؤسسات والمنظمات الدولية، وعلى رأسها « اليونسكو» التى أطلقت عام ١٩٩٠ فى مؤتمر جومتيين / تايلاند دعوة «التعليم للجميع» ثم «التعليم للتميز» و «التميز للجميع»، وواصلت « اليونسكو» جهودها خلال الألفية الثالثة بالإصرار على تحقيق ذلك الهدف الذى التزمت به جميع الدول الموقعة على الاتفاقيات الدولية ومنها مصر بالطبع، كل ذلك يتم فى سياق دولى وإنسانى من أهداف التنمية التى لا يمكن لها أن تتحقق فى دولة من الدول إلا عن طريق التعليم الجيد والمجانى والذى هو حق للمواطنين على الدول أن توفره لهم دون تميز بين الناس.

ولقد ترتب على ذلك أن دولة كالولايات المتحدة الأمريكية بكل قوتها وسطوتها تجعل التعليم بها حتى المرحله الثانوية مجانياً ودون تمييز أيضاً، وحينما اكتشفت أن هناك قطاعاً كبيراً من المواطنين الفقراء والملونين لا يلتحقون بالتعليم الابتدائى أو لا يتمكنون من الاستمرار فيه بسبب ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، أصدرت الحكومة الفيدرالية عام ٢٠٠٤ قانون: No Child left Behind) لا طفل يترك فى الخلف ) هذه هى الولايات المتحدة الأمريكية التى يتغنى بها الجميع ليل نهار ويسعون جاهدين إلى الاستفادة من نظام التعليم الأمريكى بوصفه تعليماً متقدماً، ويتغافلون عن حقائق التاريخ، أن التعليم حق للإنسان، وهذا الحق يوفر للدولة فى ذات الوقت بناء الشخصية الوطنية القادرة على الفعل والإنجاز وتحقيق أهداف التنمية الوطنية، مما يجعل الدول تتقدم إلى الأمام...

نأتى إلى القضية الثانية، وهى تدنى وتدهور مستوى التعليم ومستوى الخريجين، وتلك حقيقة ساطعة كالشمس لا ينكرها أحد، ولكن السؤال هو: ما العلاقة بين تدنى وتدهور مستوى التعليم والمجانية؟ وهل الجودة ترتبط بقلة المتعلمين دون كثرتهم؟ لو كان ذلك صحيحاً كما يعتقد البعض، فانظر حولك شرقاً إلى الهند والصين، ملايين الطلاب يتعلمون تعليماً جيداً مجانياً ولم تؤثر الأعداد الكبيرة المنخرطة فى التعليم على جودته، وانظر أيضاً إلى تقارير «اليونسكو» السنوية عن التعليم والتى تؤكد أن : جودة التعليم فى الإتاحة وليس فى الاستبعاد والإقصاء.

إن جوهر الأزمة فى التعليم المصرى إنه ليس تعليماً بالمرة، فهو معلومات ومعارف قديمة لا صلة بها بحياة المتعلم ومفارقة للواقع المعيش تُقدم للطلاب عن طريق التلقين، ليحفظها الطلاب ثم تُعاد مرة أخرى على ورقة الامتحان كما هى دون فهم أو إدراك أو تغيير وفق نموذج للإجابة . فهو تعليم لا يبنى الشخصية الوطنية الواعية الناقدة، ولا ينمى المهارات الأساسية للحياة وللتعامل مع مستجدات العصر، لذلك فقدت المدرسة دورها ووظيفتها الأساسية والجوهرية فى بناء الإنسان والمواطن المشارك الفعَال، ولقد أدى ذلك بالضرورة إلى وجود «تعليم موازٍ»، مدرسة موازية فى المنزل أو فى مراكز الدروس الخصوصية التى استطاعت أن تلعب هذا الدور البسيط فى تحفيظ الطلاب بعض المعارف والمعلومات القديمة واسترجاعها مرة ثانية فى ورقة الإجابة، ومع تنامى ظاهرة التعليم الموازى – المدرسة الموازية- الدروس الخصوصية، فقد التعليم والمدرسة الدور المناط القيام به وتراجع دور المدرسة إلى الخلف تاركة الساحة والعملية التعليمية برمتها إلى التعليم الموازي.

هذا فضلاً عن أن المعلم لم يعد على المستوى المطلوب فنياً، وذلك للإهمال الشديد الذى عاش فيه لعقود طويلة، كما أن المناهج الدراسية لا تعبر عن احتياجات المتعلمين أو المجتمع، وجعلت كل وزير جديد يأتى إلى الوزارة يصرح فى أسابيعه الأولى بأنه سوف يقوم بحذف الحشو من المناهج والمقررات الدراسية، وكأن تلك المناهج (كيس مخدة) وخلال أكثر من ثلاثين عاماً نسمع تلك التصريحات؛ لكن الأكيد أن الحشو كما يقولون مازال قائماً ولم يستطِع وزير للآن من الانتهاء من تلك المهمة القومية.

إن جودة التعليم لا ترتبط بقلة المتعلمين ولا بكثرتهم، بل بالتعليم نفسه، فلسفته وأهدافه وسياساته وغايته، ومناهجه الدراسية واستراتيجيات التدريس وأولوياته على الأجندة الوطنية للدولة من حيث الاهتمام والتمويل وبناء بيئة تعليم جيدة وصالحة لتحقيق أهداف التعليم.. ولو نظرنا إلى الخلف قليلاً خمسة عقود مثلاً فسنجد أن التعليم المصرى قد خرج القادة والمفكرين والسياسيين وأصحاب الرأي، وأصحاب «نوبل» والعديد من الجوائز الدولية فى مناحى الحياة كافة، لقد كان تعليماً مجانياً فى جوهره وأساسه، ولكنه كان هدفا واضحا فى ذهن الدولة المصرية كرست من أجله الأموال والسياسات والشخصيات التى كانت تقود مسيرة هذا التعليم، والقول الآن إن التعليم متدنٍ ومتدهور، فإن التدنى والتدهور ليس فقط فى التعليم ولا بسبب المجانية، ولكن تدنيا فى مناحى الحياة كافة، فى السياسة والاقتصاد... إلخ.

إن الصياح المستمر حول ضرورة إلغاء مجانية التعليم، وأنها سبب تدهور وتدنى التعليم، هو التمسك والنظر إلى العرض وليس المرض وأصل الداء. إن نظام التعليم فى مصر فى أشد الحاجة إلى إعادة بناء وإعادة هيكلة فى فلسفته وأهدافه وسياساته وبرامجه، نحن فى حاجة إلى نظام تعليمى يحقق مطالب الشعب المصرى التى ناضل وضحى من أجلها والتى تجلَت فى مطالب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ والتى كان من أهم مطالبها: العيش والحرية والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية ولا شك أن مجانية التعليم والتوزيع العادل للفرص التعليمية دون تميز طبقى أو جنسى أو عرقى أو عقائدي، وإتاحة فرص التعليم والتعلم للجميع وفق الجدارة والاستحقاق والكفاءة، وهى من معالم العدالة الاجتماعية الغائبة، والتى غابت أكثر فى زماننا هذا...

إن مجانية التعليم ليست منحة من أحد، ولكنها فى الأساس ومنذ عقود طويلة هى حق للمواطنين، لأنه من خلالها تُبنى الأمم وتتقدم بمجتمع من المتعلمين وليس الجاهلون فاقدو القدرة على القراءة والكتابة؛ لأنه لا يمكن لنا أن نتصور لأمة من الأمم أن يكون لها مكان تحت الشمس وثلث مواطنيها أميون، فى عصر تحكمه وتديره التكنولوجيا والمعرفة المتقدمة، إن مجانية التعليم تحقق بلا أدنى شك المواطنه الحقة، التى تقوم على المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وعدم التميز تحقق تقدماً دوماً على كافة الأصعدة ... وإذا كنا قد بدأنا تلك المقالة بإيمان طه حسين بأن للفقراء حقاً فى التعليم، فإننا ننهيها بقول رفاعة رافع الطهطاوى فى مطلع القرن التاسع عشر .... حيث يقول: ... ليكن الوطن محلاً للسعادة المشتركه بيننا .. نبنيه بالحرية والعلم والمصنع.

    الاكثر قراءة