الأربعاء 26 يونيو 2024

اللامساواة فى التعليم .. اختيار سياسى

22-3-2017 | 13:26

بقلم: د. نادية جمال الدين

إن الحديث عن التعليم تحديدا يعنى الحديث عن أى مصر نريد، مصر العداله الاجتماعية، مصر المستقبل أم مصر التى يزداد فيها الأغنياء غنى وتقل أعدادهم لتكون فى مصر قريبا وبسرعة ١٪ ويبقى ٩٩٪ فقراء يزدادون فقرا بكل ما يأتى به هذا من مشكلات يظهر الحديث عنها فى كتابات رائجة ومشهورة صدرت فى المجتمعات التى تتزايد فيها الهجمة الرأسمالية وأظهر ملامحها باحثون كما فى كتاب توماس بيكيتي" رأس المال فى القرن الحادى والعشرين"، وكذلك كتب جوزيف ستجلتز مثل " ثمن اللامساواة " وكتاب " الفجوة الكبرى"، و"مجتمعات اللامساواة وماذا نفعل بشأنها" وعشرات من المقالات والأبحاث التى تكشف صراحة عما أصاب مجتمعاتها نتيجة للسماح بسيطرة رأس المال ونمو اللامساواة وضيق الفرص أمام البشر فى المجتمع الواحد والتى انتهت فى مجملها إلى اعتبار أن اللامساواة اختيار سياسى صنع بوعى، وأزمة أخلاقية حيث الانحياز للرأسمالية الليبرالية بكل ما جاءت به من متغيرات منها تزايد هبوط الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر نتيجة للسياسات الرأسمالية الجامحة فى المجالات المجتمعية المختلفة دون أن يتوقفوا للدعوة للتراجع عن توفير التعليم الجيد للجميع فى مجتمع يعرفون جيدا أن التعليم والبحث العلمى هما الأمل والحق الأساسى للمواطن فى مجتمعات يطلق عليها حقا مجتمعات المعرفة.

 

ولما كان التعليم هو الهدف من الحديث هنا فالملاحظ فى المجتمع المصرى حاليا هو عودة ارتفاع أصوات من ينظرون إلى التعليم من منظور طبقى منحاز لمن يملك ويقدر على الإنفاق فى مؤسسات التعليم الخاصه متعددة المستويات سواء أكانت مدارس أم جامعات. ويزداد التفاوت فى أنواع التعليم ومدارسه فى الوقت الذى استبشر المصريون خيرا فى قيادة جديدة رأت أن: "هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه"، وكم يكون الأمر قاسيا حين تتحول الأحوال، وبصورة شرسة غير مسبوقة فى قوتها وتعنتها حين يتصدى بعض قادة الرأى ومنهم الوزراء للهجوم على ما يزال يسمى:"مجانية التعليم" والسخرية من المواطنين الذين ما يزالون يقاومون التردى والهبوط إلى مستويات معيشة أدنى من خلال الأمل فى توفير تعليم أفضل لأبنائهم ... ويزداد الاتجاه إلى تزييف الوعى بالادعاء أن التعليم الفنى هو قاطرة التقدم!! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يرسل الوزراء أولادهم وأحفادهم إلى هذا التعليم؟ وإذا كان الذين يهاجمون "مجانية التعليم" لعدم الدراية بالتاريخ الاجتماعى والثقافى لهذا الوطن ونقص الاستبصار بمتطلبات المستقبل من أمن قومى فى مجتمع عالمى يطلق عليه مجتمع المعرفة ولا يبالون إلا بمصالحهم الضيقة ولا يرون لأبناء الوطن الحق فى الاستمتاع بحقهم فى التعليم والأمل فى مستقبل أفضل فى وطن يستمتع من فيه بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ويكون عماده الأساسى هو التعليم، والتعليم الجيد للجميع كما هو الحال فى مجتمعات تراجع نفسها باستمرار وتسعى للنهوض بالتعليم من أجل الجميع.

التعليم ليس خدمه بل هو من منظور اقتصادى أيضا استثمار فى البشر واستثمار فى المستقبل وصمام الأمن القومى والوسيلة الأساسية للحفاظ على ثقافة المجتمع المصرى واستمراره وتماسكه واستقراره. ومن الأمور المستقرة الآن وقبل الآن أن الثروة الحقيقية الطبيعية غير القابلة للنفاد إنما تكمن فى عقول البشر وليس فى باطن الأرض كما كان الحال فى عقود خلت.

والحق أن من يتصدون للهجوم على منجزات هذا الشعب يجهلون تاريخه ومحاولاته المستمرة والدائبة للخروج من دائرة الفقر والحرمان بواسطة هذه الثورة الصامتة المستمرة بكل ما تحملهم من تضحيات ألا وهى التعليم. وما الدروس الخصوصية التى يلجأ إليها الآباء إلا إحدى الوسائل الأساسية لرفض الحصار والاستبعاد الاجتماعى الناتج عن إهمال التعليم وعدم الحرص على التوسع فى التعليم العالى خاصه والذى هو فى نظرهم فرصة وباب أمل لتغيير الواقع إلى الأفضل رغم أن هناك مؤشرات كثيرة تعلن لهم تراجع الفرص الاقتصادية أمامهم ومع هذا فالتعليم ما يزال له قيمته وأهميته الاجتماعية التى تستحق المعاناة من أجل إتاحته لأبنائهم.

كتب كثيرون عن أن التعليم ومجانيته حتى المرحلة الثانوية ليس من مكاسب ثورة يوليو ١٩٥٢ بل حكومة الوفد وكان الرائد فى هذا نجيب الهلالى باشا والذى كان متأثرا ليس فقط بما نادى به الدكتور طه حسين ولكن أيضا ما حدث فى إنجلترا بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن أصبح من حق المواطن الإنجليزى الذى ا حتمل ضريبة الدم والدموع فى الحرب أن يحصل على إتاحة حق التعليم لأبنائه. إن حقوق الشعوب لا تعرف المساومة وعدم اتقاء غضبهم نتيجة لحرمانهم من الأمل فى مستقبل أفضل لأبنائهم له ثمنه الصعب ولعل هذا هو ما أدى بالباحثين المشار إليهم فى صدر هذا المقال إلى اعتبار أن التعليم وسيلة أساسية لكسر دائرة اللامساواة فى المجتمع والتى رأوا أنها اختيار سياسى وليس بالضرورة مشكلة اقتصادية وهى لهذا مشكلة ديمقراطية وليست ناجمة عن الرأسمالية بذاتها.

وإذا كانت المجانية فى التعليم تعنى تحديدا فى مصر الآن: "إزالة الحاجز المادى الذى يحول بين المواطن وبين الالتحاق بمؤسسات الدولة التعليمية"، فإن الهجوم لم يعد يقتصر عليها بل يتزايد الهجوم فى اتجاهات أخرى تسهم فى الحصار وتشديد الحصار على الإنسان فى مصر مثل "مكتب التنسيق للقبول فى الجامعات" حيث رأى كثير من المسئولين أنه ليس الوسيلة المثلى للقبول فى الجامعات، والحق أقول إنه :"أعدل المعايير الظالمة" فكل معيار أو وسيلة تستخدم مهما كانت لابد وأن يكون لها ضحايا ولكن "العدالة العمياء" التى يطبقها مكتب التنسيق إلى حد ما الآن بعد اختراقه بخريجى الشهادات الدولية الأجنبية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، هى الوسيلة أو الطريقة التى ارتضاها أفراد المجتمع بالإضافة إلى أن ما يقال عن الاختيار على أساس القدرات لدى الطلاب قول مرفوض فالقدرات تبرز حقا بعد الدراسة فى الجامعة التى هى المسئولة عن التعليم الذى يطلق هذه القدرات ويبلورها وليفتش كل منا فى نفسه ليقرر حالته قبل الالتحاق بالجامعة وبعدها.

وهنا أيضا تظهر المقولات المضللة من أن المجانية فى التعليم الجامعى مع التجاوز وقبولها إلا إنها لابد وأن تصبح من حق الطالب المتفوق فقط أما من يرسب فعليه أن يدفع المصروفات. هذه قضية تبدو قضية ظاهرها الحق إلا أن البحوث التربوية فى العالم كله حول عوامل الرسوب والتسرب فى كافة مستويات التعليم رأت أن العوامل المؤدية لهذا الرسوب ليست عوامل تعليمية بقدر ما ترجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية وليس لها سبب أوحد أو وحيد هو تقصير الطالب.

أرجو أن يأتى اليوم الذى نعيد فيه التفكير فيما نقول خاصة المسئولين الذين تعلموا فى زمان لم تعايرهم فيه الدولة بما تقدمه لهم من تعليم مجانى حتى حصلوا على أرقى الدرجات العلمية. كما أرجو أن أعيش إلى ذلك اليوم الذى لا يقفز فيه المسئولون على نصوص الدستور الذى تم استفتاء الشعب عليه عام ٢٠١٤. وأتمنى أن ينعم أبناء وطنى جميعا فى مجتمع العدل والمساواة والتماسك الاجتماعي.