بقلم: د. جابر نصار
من المؤكد أن الزعيم الخالد جمال عبدالناصر قد صنع له تاريخا ومجدا لايضاهيه أحد فى تاريخ مصر المعاصرة، إذ إنه فى فترة وجيزة حول المجتمع المصرى من شعب الـ «نصف فى المائة» إلى شعب تمددت فيه الطبقة الوسطى حتى أمسكت بأطرافه وصنعت مجده فى كل المجالات. هذا الإنجاز الكبير لجمال عبدالناصر جعله زعيمًا شعبيًا يتربع على القلوب ليس فى مصر وحدها وإنما فى كل دول العالم العربى بل والعالم الثالث باعتبار ما تمثله مصر من أهمية وتأثير حضارى فيما حولها من دول وثقافات.
كان التعليم أهم أدوات جمال عبدالناصر وأسلحته فى المواجهة الشرسة مع موروث نظام تآكلت فيه الطبقة الوسطى لصالح مجتمع ونظام ينهض على فئة غنية تتداول الحكم والحلم والثروة فيما بينها، وهم عبارة عن مجموعة من العائلات التى تعد على أصابع اليدين تختزل الدولة والشعب والنظم والحكم والثورة وشعب يشكو من الحفاء والجهل والمرض والفقر، شعب يئن تحت وطأة الحاجة.
لقد رأى جمال عبدالناصر وهو يسعى لتأسيس الجمهورية الجديدة أن تفكيك عدم المساواة ذلك أمر هام ومواجهته أمر لازم وهنا لعبت فكرة المجانية رأس الحربة فى هذا الإطار على اعتبار أن التعليم هو المحرك الأساسى لمربعات المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا.
توافق مع ذلك العزم السياسى رغبة ملحة من المجتمع المصرى والمثقفين وهو ماعبر عنه عميد الأدب العربى حين نحت مقولته الشهيرة «التعليم كالماء والهواء».
وبدأ إيمان المجتمع المصرى بأهمية التعليم وقدرته على قيادة الحراك الاجتماعى فى مصر .. تقارب ثم وازن ثم ساء واتسع رويدا رويدا نطاق تأثير التعليم المجانى فى المجتمع المصرى، فأصبح ابن العامل والفلاح يمسك بتلابيب السلطة والحكم، وفى هذا الوقت ضمنت الدولة تعليمًا جيدًا وجادا يشهد له كل من تعلم فيه أو درس تجربته. وقتها كانت الدولة قادرة على بناء المدارس وإدارتها. بل إن التعليم المصرى المجانى أفاض على الدول المجاورة بمدرسين أكفاء ومناهج متطورة، فكان التعليم المصرى مضرب المثل فى انضباطه وفى مناهجه ومخرجاته وظل تعليمًا مجانيا فى كافة مراحله ومستوياته، لم تبخل الدولة المصرية فى الإنفاق عليه وقت أن كانت تستطيع ذلك، وفى هذا الإطار كانت مجانية التعليم مكفولة لكل المصريين وضمنتها نصوص الدساتير المصرية، حيث كانت هذه الدساتير تفرد نصا يؤكد مجانية التعليم بكافة صوره وأشكاله باعتباره حقا من حقوق الإنسان، وكما هو الماء والهواء وفق ماعبر عنه عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين.
على أن تردى الأوضاع الاقتصادية وقصور التمويل الحكومى للتعليم لأسباب عديدة، ليس محل تفصيلها هنا، انسحبت الدولة المصرية رويدا رويدا من تمويل التعليم واقتصر التمويل فى الجانب الأكبر منه على تدبير مرتبات العاملين والمدرسين ومكافآتهم حتى أصبحت تلتهم مايقرب من ٩٠٪ من مخصصات موازنة التعليم الآن.
وأصبح الأمر يتطور إلى انحدار شديد وازداد وضع المعلم سوءًا وأصبحت المدارس بلا صيانة أو أدوات وتجمدت المناهج بصورة أصبحت معها العملية كما نرصدها ونراها الآن شكلا بلا مضمون وبلا جدوى، وقام على هامش التعليم الحكومى أصناف وألوان من التعليم الموازى وهو التعليم الخاص، ورصد تطور العلاقة بين التعليمين العام والخاص تغيرًا فى الدور والمعنى والمغزى على الوجه الذى لا يخفى على أحد.
حدثت هذه الصورة على مسار التعليم ما قبل الجامعى والتعليم الجامعى على السواء، ونشأت ممارسات وأنشطة على هامش تعثر العملية التعليمية الحكومية وانزواء الدور الحكومى فى تمويله ممارسات ضارة ساهمت فى تسارع وتيرة الانهيار ومن ذلك هجرة المعلمين داخليا إلى مهن أخرى وخارجيًا، وخاصة بالسفر إلى دول الخليج العربى والذى عاد منه بثقافة مختلفة وبفكر مختلف يميل إلى السلفنة والتطرف.
فى ظل الانهيار برز الحديث عن منظومة المجانية فى التعليم وانقسمت الآراء بشدة حولها ما بين مدافع عنها بمنطق لا مساس والاقتراب باعتبارها حقًا وميراثًا لا يجوز الاقتراب منه على أى وجه كان. وبين فريق آخر يحملها كل مساوئ التعليم ومسئولية تدنيه إلى الدرك الأسفل الذى أصبح قناعة الآخرين أنه تعليم لا يؤدى إلى شىء نافع أو منتج صالح وأنه قد أدخل المجتمع فى منظومة انهيار فى كل شىء وفى كل جوانب المجتمع باعتبار أن التعليم هو أساس نهظة المجتمع.
واستتبع ذلك بالتأكيد مطالبات بالغاء المجانية وتفرقت الحلول فى هذا الإطار شيعًا وأحزابًا.
هذا هو الوجع الذى نحياه فى حاضرنا للخروج منه يجب أن نشخص هذا الوجع حتى نستطيع أن نصل إلى العلاج الصحيح للمشكلة.
وفى البداية نؤكد أن المجانية فى حد ذاتها ليست سببًا أو مبررًا لانهيار التعليم الذى حدث فى مصر. وإن السبب الرئيسى فى ذلك هو ضعف التمويل الحكومى للتعليم أو بمعنى آخر عدم قدرة الدولة على الوفاء بتكاليف عملية تعليمية جيدة وإنما استحال الأمر إلى عملية تعليمية شكلية لا تقوم فيها المدارس بدور المدرسة ولا المعلم بدوره المنشود ولا حتى التلميذ أو الطالب لم يعد ذلك.
فنحن أمام عملية تمثيلية والأساس فيها مبنى يسمى مدرسة وهو فى حقيقته بعيد عن ذلك، ومدرس لم يعد يعلم شيئًا وتلميذ يسعى إلى حسم سباق لتجميع الدرجات فى ماراثون يؤدى إلى منظومة تنسيق يعلم الجميع مدى الإشكاليات التى تتصل بها.
فكل عملية تعليمية تحتاج إلى تمويل فهذا التمويل قد يقدمه متلقى الخدمة أو تقدمه الدولة.
وعلى ذلك فإن المجانية فى حد ذاتها ليست سبب تدنى التعليم وإنما منظور التمويل، ويؤكد ذلك أن دولًا متقدمة تطبق مجانية التعليم ولديها نظام تعليمى راق متقدم والأمثلة كثيرة.
هذه الصورة ترسم كيف بدأت المجانية وكيف كانت ضرورة من ضرورات التحول الاجتماعى من مجتمع فى غالبيته العظمى غير قادر ينتشر فيه الجهل والمرض إلى وجع فى حاضرنا يتمثل فى انسحاب الدولة من تمويل التعليم المجانى حتى أصبح شكلًا بلا مضمون وأصبحت مصر فى ذيل قائمة دول العالم تسبقها فى ذلك دول لم يكن لها فى الوجود حدود جغرافية أو جذور زمنية.
إن استشراف المستقبل لآفاق جديدة تنطلق من التوفيق بين ضرورة وجود المجانية كحق طبيعى وإنسانى ودستورى لمن لا يستطيع وبين أن يساهم القادر بجزء أو كل تكلفة تعليمية هو التحدى الأكبر أمام الإدارة المصرية الحالية.
إن التخبط الشديد فى ملف وفاتورة الدعم الحكومى الذى فشلت الحكومة أكثر من مرة فى تنظيمه لكى يذهب إلى مستحقيه أمر بالغ الغرابة ويستدعى دومًا ضرورة التفكير فيه بمواجهة شاملة بإصلاح إدارى ومالى شامل للمنظومة الحكومية ومحاربة دوائر الفساد فيها ليست فقط بتتبع الجرائم وضبطها وإنما بإصلاح إدارى ومالى شامل يقوم على مربعات الشفافية والنزاهة والعدالة.
إن ضرورة هذا الإصلاح أصبحت مسألة حياة أو موت كما يقولون فى أمثالنا الشعبية وهو، أى هذا الإصلاح، المخرج الأساسى من الأزمة الاقتصادية وبالتبعية الأزمة الاجتماعية والسياسية.
فما حدث فى جامعة القاهرة على سبيل المثال من خطوات إصلاحية وأدى إلى توفير أربعة مليارات جنيه من مواردها الذاتية كانت تستنزفها أطر فاسدة وبمعنى آخر مبسط أنه إذا حدث ومائة مؤسسة حكومية حذت حذو جامعة القاهرة وطبقت إجراءاتها فإن الدولة سوف تتخلص بكل بساطة من عجز الموازنة الذى يبلغ ٤٠٠ مليار جنيه ونكون قد تخلصنا من مشكلة مزمنة ومعقدة تلقى بظلالها على المجتمع كله.
والسؤال الذى يطرح هنا كيف يكون مستقبل المجانية؟
إن الإجابة على هذا السؤال هامة، لأنه علينا أن نتذكر كما بينا أن المجانية فى عهد عبدالناصر كانت ضرورة لكل الشعب باعتبار أن كل الشعب أو أغلبه كان فقيرًا لا يملك ولم يكن لدينا طبقة وسطى فكان من اللازم أن يقود التعليم الحراك المجتمعى تجاه تشكيل هذه الطبقة فى مجتمع كان أكثر أمانى حكامه قبل ثورة يوليو أن يحجموا مشكلة الحفاة، ولذلك أرى أن دواعى استمرار المجانية فى المستقبل بشكلها الذى عرفته مصر بعد ثورة يوليو عبث كبير ويجب أن تتطور وفقًا لحدين أساسيين.
الحد الأول: هو كفالة المجانية بكفاءة وكرامة لكل من يستحقها ولا يستطيع أن يساهم كليا أو جزئيًا فى تكلفة تعليمه. وفى ظنى أنه لا يمكن ربط المجانية بالتفوق فتكون حكرًا على المتفوق فقيرًا أو غنيًا، وإنما يجب أن ترتبط بالقدرة المالية. بمعنى أنه من لا يستطيع أن يدفع تكلفة تعليمه يجب أن يتاح له بكفاءة وكرامة وفق أطر قانونية محددة.
الحد الثانى: هو رفع المجانية وإمساكها عن القادرين فمناط تطبيقها غير متوافر فالقادر يجب أن يساهم جزئيًا أو كليًا فى تكلفة تعليمه وهو لن يمانع فى ذلك إذا ما ضمن له ذلك تعليما جيدًا، فمازال المصريون لديهم استعداد جيد للانفاق على التعليم لقناعاتهم أن التعليم هو السلاح الأهم فى مواجهة المستقبل.
كيف يكون ذلك فهو أمر يحتاج إلى شرح وتفصيل، ولكن لابد لنا أن نتفق على المنطلقات الأساسية ويبقى سهلًا بعد ذلك تحديد الأطر والسبل التى تحقق ذلك، ولكن من المؤكد أن استمرار الحال على ماهو عليه أمر بالغ الخطر والخطورة على مستقبل هذا الوطن.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن دستور ٢٠١٤ كان واعيًا لهذا الأمر وقدم صياغة عبقرية لنص المجانية ففوضها فى التعليم الأساسى أى ما قبل الجامعى ونص على أنه دون ذلك «التعليم الجامعى وما فوق الجامعى» فإن الدولة تكفل مجانيته والكفالة تكون وفق الطاقة ووفق القدرة شأنه شأن حقوق أخرى كثيرة كحق العمل.
نحن أمة فى مأزق حقيقى وتحيط بنا المشكلات والتحديات من كل جانب لها حلول وأخطر هذه المشكلات هو عدم التفكير فى حلول جادة وجدية لمشاكلنا. فمما لاشك فيه أن بقاء الحال على ما هو عليه هو ضرب من الانتحار الجماعى لأمة كانت سباقة فى كل المجالات.