من لم يسمع كركرة ضحكة الكبيرة « بثينة البيلى « لم يعرف كيف تكون الضحكة من القلب، قلبها كان أبيض زى اللبن الحليب، لا يعرف السواد إليه طريقا، عرفتها أختا تحمل حبا لكل من يدب بقدميه على أرض مؤسسة « دار الهلال « العريقة، كان تحب الحب فى أهله وتبغض الكره من أهله، مؤهلة فقط للحب ولا يعرف الحزن مطرحها ولا يجيها.
يوم قررت اعتزالنا وأفرغت مكتبها طمع فيه أحباء كثر، لكنها آثرت بفضل، أن تترك مكتبها لشخصى وكنت سعيدا جدًا، لأول مرة سيكون لى مكتب واسع مستقل، اكتشفت أن مكتبها الواسع جدًا ضيق بالكاد يسع شخصا واحدا، المكتب الذى كان يتسع لنا جميعا كان أقرب لقلاية راهب، يكفى شخصا واحدا، حار جاف صيفا، بارد ثلجى شتاء، عرفت أن البيوت بسكانها، وأن سعة البيوت من سعة أهلها، كان قلبها يسع أحلامنا جميعا.
من فضائلها الله يرحمها أنها كانت تقدر المواهب جيدا، ولم تأنف أبدا أن تعرض شغلها فى التحقيقات قبل النشر على شاب موهوب فى الديسك المركزى، والموهوبون كثر، وفى وقت كان البعض يعتبر المساس بكتابته من المحرمات وتثار الأزمات وتندلع الحروب الصغيرة، كانت «هى» وبأريحية تعتبر لأدبيات المهنة، وترعوى للملاحظات، وتفتح قلبها قبل عقلها لأفكار وتصورات جيل جديد، لم تكن يوما محل أزمة جيلية، كانت على يقين دائم بالشباب، تراهم جيدا، وتتعطف بعطفها على الموهوبين منهم، كان مكتبها على ضيقه متسعا لنا جميعا.
عاصرت تألقها كمحققة، كانت قدرتها عجيبة فى تحقيق الوقائع، لا تخمد شعلتها أبدا، وكم من تحقيقات أثرت بها هذه المطبوعة «المصور»، ونالت جوائزها أغلفة ملونة تسر الناظرين، لم تذهب إلى كتابة المقالات والهواجس، ولم تجرِ وراء رأى زائف، ولم تبحث عن صورتها على عمود صحفى، مفطورة على التحقيقات، مكنة تحقيقات، منتجة بلا تعب، ولا كلل ولا ملل، والصفحات خير شاهد.
بثينة كانت محققة معتبرة من قبل رئيس التحرير الكبير مكرم محمد أحمد، كان يقدرها كثيرا، الأستاذ كان يعتبر للمواهب، ويمتلك قدرة هائلة على تحريك البشر فى اتجاه المهنة، وتحريضهم على الإنتاج، وكانت بثينة واحدة من طاقات المجلة الجبارة والمنتجة حتى أيامها الأخيرة، التى غادرت فيها الدار حزينة على أيام مضت وشعيرات بيضاء تغزو مفرق شعرها الأصفر.
خارج الدار «دار الهلال» لم تفقد بثينة حيويتها ولم تشحب ابتسامتها، وكنت حريصا على التواصل مع من أحببت من سيدات هذه الدار الطيبة، وعندما قرأت نعيها منشورا على صفحة شقيقتى الكبرى «ليلى مرموش» على فيس بوك، لم أستطع أن أمسك دمعة طفرت حزنا على من كانت حنونا على شخصى، غمرتنى بكل الحب الذى فاضت به على جيل كامل، لم يرَ منها سوى ابتسامة واسعة تنسيك آلام المهنة وعنت الزمان وقسوة المكان.
بنت ناس، من الكمل الفضليات، كانت بحق وردة «المصور» اليانعة، كانت تفوح عطرا، ولم أرَ منها سوى كل الخير، ولم يحدث أن رأيتها نكدة إلا نادرا، وإذا غضبت ودمدمت كانت كلمة صغيرة تحولها إلى جدول من السعادة، كانت تحب اللمة، وتكره الوحدة، وتتفنن فى ابتكار المناسبات لتلمنا ولو على جبنة بيضاء وعيش ناشف، المهم أن تجلس وسط اللمة، اجتماعية بالفطرة، وكريمة بالكلية، كانت تفيض عذوبة.
يرحمها الله، حادثتنى قبل شهور إذ فجأة فقط لتطمئن على الحال والأحوال، ولتخبرنى برحيل زوجها الطيب «عادل»، وكم سعدت بهذا الاتصال الذى ترك فى نفسى ذكريات عبرت، ذكريات الكبيرات الفضليات فى هذه الدار العريقة، الكمل ليلى القيسى يرحمها الله، وأطال الله فى عمر الكبيرات سكينة السادات وليلى مرموش وسلوى أبوسعدة، وسميرة شفيق، ومنى الملاخ، اختفين عن الأنظار، ولم نعد نعرف الأخبار، ذكرى رحيل بثينة يفتح خزانة الذكريات الطيبات، أمومة سكينة السادات، وطيبة ليلى مرموش، ورقة ليلى القيسى، وعذوبة سميرة شفيق، وحنان منى الملاخ، وصفاء رجاء عبد الله، قطعن بنا، كل فى طريق.
كن كبيرات مقدرات، من التقدير، وهنّ أهل له، والحديث عن سيدات الدار وأفضالهن يطول، ولكن اليوم قلبى جدّ حزين، أن أقرأ نعى أختى الكبيرة «بثينة البيلى « على صفحة أختى التى أترجاها من الدنيا « ليلى مرموش»، أخت تودع أختا، وتكتب بمداد الحزن، «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية، فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى».. انتقلت إلى رحمة الله اليوم الأستاذة بثينة البيلى الزميلة والصديقة والأخت الغالية بمؤسسة دار الهلال على مدى نصف قرن، رحمها الله رحمة واسعة وغفر لها ولنا جميعا وأسكنها فسيح جناته وألهمنا وأهلها الصبر على فراقها».
كنّ كبارا وكنا صغارا، ها هو المشيب يغزو رءوسنا، وتشيخ قلوبنا قبل الأوان، ولكن ضحكتها الصافية، من القلب، ولكنتها المحببة إلى النفس، ورغبتها فى تجاوز محنة الألم كانت أكبر من احتمال قلب ضعيف وعين دامعة، آسف.. دمعتى قريبة على فراق الأحباب، أخشى أن مكالمتها الأخيرة كانت مكالمة الوداع، ولم أفطن إلى أنها سترحل قريبا، البهجة ترحل، وبالدم جودى يا عين.. الله يرحمك يا بثينة ويبشبش الطوبة اللى تحت راسك تتوسدينها.