لاشك أن هناك جوانبا كثيرة خفية في
حياة الزعيم جمال عبد الناصر، فالرجل كان يعمل في صمت وهناك الكثير خلف الكواليس،
منها الطرق العبقرية لتوطيد العلاقات مع الدول العربية والإفريقية، فهو الداعم
لحركات التحرر من الاستعمار والداعي للوحدة الإفريقية.
وفي ذكرى رحيله نسرد ما
قام به لتوطيد العلاقات مع غانا حتى تبدلت الصداقة بين البلدين إلى نسب وأصبحت
سيدة غانا الأولى مصرية.
في صيف عام 1957 زار رئيس الوزراء
الغاني كوامي نكروما القاهرة، وهو من المناضلين الأفارقة ضد الانتداب البريطاني، وقد
انتمى نكروما دينيا إلى الإسلام وتلقى علومه الدينية على يد أحد شيوخ الطرق
الصوفية التيجانية في غانا وهو الشيخ إبراهيم نياس، وفي إحدى لقاءات نكروما به
أخبره الشيخ بأنه رأى له رؤيا بأنه سيتزوج فتاة من مصر .
ظل كلام الشيخ يداعب قلب ووجدان
المناضل نكروما وعند زيارته إلى مصر أخبر الرئيس جمال عبد الناصر برغبته في الزواج
من فتاة مصرية، سعد ناصر برغبة نكروما وظهر معدنه الأصيل، فلم يشر على نكروما
بفتاة معينة أو يساعده في الاختيار، بل طلب منه أن يطوف في أي مكان بالقاهرة
ليختار منها شريكة حياته، وسار نكروما في العديد من الشوارع والأماكن
العامة حتى وقعت عيناه في أحد البنوك على عروس النيل.
اقترب نكروما من الفتاة التي احتلت
مشاعره وقد امتلكت كل مقومات الجمال وجها وقواماً، وعرفها بنفسه وصارحها برغبته في
الزواج منها، والفتاة تدعى فتحية رزق تنتمي لأسرة مسيحية، ولدت بحي الزيتون وتفرغت
والدتها لتربيتها وإخوتها بعد رحيل الأب، وعلى الفور روت فتحية لوالدتها ما حدث
ولكن الأم رفضت الزيجة، وعلم نكروما بموافقة العروس ورفض الأم، فأخبر الرئيس جمال بما
حدث.
تدخل الرئيس جمال في الأمر ودعى
الآنسة فتحية رزق لفنجان شاي في بيته، وعلى الفور لبت الدعوة، وبحضور قرينة
الرئيس سأل فتحية عن رأيها وأخبرته عن موافقتها ورفض أمها، وهنا طلب الرئيس من الأم
أن تحضر إلى القصر الجمهوري كي يقف على أسباب الرفض، ولبت الأم دعوة الرئيس جمال
وقالت أنها تشعر أنها ستفقد ابنتها ولن تراها مرة أخرى لو تزوجت نكروما، فقد تزوجت ابنتها الكبرى وهاجرت مع زوجها وتخشى أن يحدث نفس الأمر مع ابنتها فتحية.
طمئن الرئيس جمال الأم وأخبرها أن ابنتها ستصبح زوجة زعيم إفريقي، وأخبرها بأنه سيفتتح سفارة مصرية في غانا وسيكون
هناك خط طيران مباشر، ويمكنها أن ترى ابنتها في أي وقت تشاء، ووافقت الأم وبعد أشهر
قليلة سافرت فتحية مع نكروما لتتم هناك مراسم الزفاف في أول يناير 1958، وتصبح بنت
النيل سيدة غانا الأولى، ومن الطريف أن كل من في غانا اعتقد أن فتحية رزق سيدة
أوربية، فقد كانت فائقة الجمال وتشبه إلى حد كبير الفنانة ليلى طاهر.
أصبحت فتحية رزق سفيرا غير رسمي لمصر
بما أنجزته من توطيد الروابط بين مصر وغانا، وفي مارس 1960 نالت غانا استقلالها
وفي 19 أبريل طرح نكروما استفتاء على دستور جديد للبلاد، وأصبح أول رئيس لغانا في
يوليو من نفس العام ، وأصبحت فتحية رزق قرينة الرئيس وقد رزقهما الله بثلاثة أولاد،
أصر نكروما أن يطلق على مولوده الأول "جمال" حباً في الرئيس جمال عبد
الناصر، وأطلق اسم "سامية" على المولود الثاني وكان الأخير
"سيكو" وتعني " الشيخ" تيمنا بشيخه الصوفي.
عاشت بنت النيل في غانا وطوعت جهودها
لعمل الخير ورفعة البلاد ومن الطريف أن محتكري صناعة الأقمشة في غانا كانوا من
النساء، وكن يستقبلنها بالقبلات وأطلقوا على أغلى أنواع الأقمشة التي يتخللها خيط
من الذهب اسم "جمال فتحية"، وكانت تأخذ منهن الهدايا من الأقمشة
وتوزعها على الفقراء، وقد سافر نكروما إلى الصين عام 1966 ، حتى سمعت فتحية صوت
طلقات المدافع والرصاص بالقرب من القصر في الرابعة فجراً، وكان ذلك انقلاب عسكري
على حكم الزعيم نكروما.
اتصلت بنت النيل بالرئيس جمال وروت له
ما سمعته وبثت له مخاوفها على أولادها، فطمأنها الرئيس بأنه سيوفد إليها طائرة
لتنقلها وأولادها إلى مصر، وبعد ساعتين أخبرها المقربون منها أن المتمردين استولوا
على غانا، واقترحوا عليها أن يدبروا لها مخرجاً إلى مصر وتترك أولادها في غانا،
لكنها أبت أن تفعل ذلك، وبعد ساعة كانت قد حزمت حقائبها، وسمعت أزيز طائرات في
سماء غانا تحوم حول القصر، فقد كانت ثلاثة طائرات مصرية أرسلها لها الرئيس جمال، هبطت
إحداها لتنقل بنت النيل وأولادها وظلت طائرتان تحومان فوق القصر حتى استقلت فتحية
وأولادها الطائرة وعادت بسلام إلى مصر.
أقامت فتحية نكروما وأولادها عدة شهور
في قصر الطاهرة إلى أن تم بناء فيللا لها ولأولادها على أرض كان نكروما قد اختارها
واشتراها على كورنيش المعادي، وفي العام التالي حلت بمصر نكبة 67 وعلى الفور تبرعت
فتحية نكروما بما استطاعت من أموال ومجوهرات مساهمة منها في إعادة تسليح الجيش، وعكفت على تربية أولادها وإكمال دراستهم حتى تخرجوا في الجامعات وأصبح جمال نكروما ابنها الأكبر مفكراً وكاتباً سياسياً ويعمل حتى اليوم بالأهرام ويكلي، ورحلت بنت
النيل بعد أن صراع مع المرض في عام 2007 ونقل جثمانها لتدفن بجوار قبر زوجها في
غانا، وقد مكث سامية وسيكو في غانا بعد ذلك واستقبلت وزير الخارجية سامح شكري وصحبته العام الماضي في جولة زارا فيها قبر والدها الزعيم نكروما وأمها بنت النيل.