الإمام الأكبر:
- ليس هناك موضوع بلغ من تأثيره وخطره على حياة
الشعوب ما بلغ موضوع «المياه»
- ملكية الموارد الضرورية لحياة الناس هي ملكية
عامة لا يصح أن تترك ملكا لفرد أو دولة تتفرد بها
- الإسـلام ضبط مصالح العباد بأحكام تحميها من
التضييع أو العبث أو الإسراف
وجه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ
الأزهر، اليوم الأحد، كلمة مسجلة إلى المؤتمر الرابع لوزراء المياه بمنظمة التعاون
الإسلامي، الذي عقد اليوم الأحد في القاهرة، شدد خلالها على أنه ليس هناك موضوع بلغ
من تأثيره وخطره على حياة الشعوب ما بلغ موضوع «المياه»، في حياتنا المعاصرة، بعد ما
نشبت أظفاره في كل مجالات السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وما خلفته من أزمات
وصراعات تبعث الحروب بين الشعوب وتتربص بها هيمنة وإفقارا وإذلالا.
وأوضح فضيلته "أننا - نحن الشرقيين- نمتلك
ثقافة دينية راقية، فيما يتعلق بالماء وحرمته وقدسيته، وأن هذه الثقافة أمدتنا بها
كتبنا المقدسة على مدى قرون غابرة، تعلمنا منها أن الماء أصل الحياة، وحفظنا من قرآننا
الكريم قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" [الأنبياء:
30] لافتا إلى أن فلسفة الإسلام في هذا الموضوع تدور على محور ثابت غير قابل للتأويل
أو التشكيك، ذلكم هو أن ملكية الموارد الضرورية لحياة الناس هي ملكية عامة، ولا يصح
بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، أن تترك الموارد الضرورية ملكا لفرد، أو أفراد،
أو دولة تتفرد بالتصرف فيها دون سائر الدول التي تشترك في هذا المورد العام أو ذاك.
وأشار شيخ الأزهر إلى أن "الله تعالى لما
جعل الماء هو أصل الحياة والأحياء على اختلاف أنواعها خص نفسه –سبحانه!- بتفرده بملكيته،
وبإنزاله من السماء إلى الأرض، وجعله حقا مشتركا بين عباده؛ وأن أحدا من عباده لم يصنع
منه قطرة واحدة حتى تكون له شبهة تملك تخوله حق تصرف المالك في ملكه، يمنحه من يشاء
ويصرفه عمن يشاء"، موضحا أن الإسـلام، وهو بصدد تشريعات ترتبط بالمصالح العامة
للعباد - فإنه يتحسب لها ويضبطها بأحكام تحميها من تضييعها أو العبث بها أو الإسراف
في استعمالها، أو أي تصرف يؤدي إلى نضوبها أو قلة كفايتها، وهو ما يعبر عنه اليوم بكلمة
«الترشيد»، والاقتصاد في استخدام المياه.
وفيما يلي النص الكامل لكلمة فضيلة الإمام
الأكبر شيخ الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
معالي أ.د/ محمد عبد العاطي – وزير الموارد المائية
والري!
أصحاب المعالي السادة الضيوف وزراء المياه في العالمين:
العربي والإسلامي!
الحفــل الكــريم!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبالأصالة عن نفسي، ونيابة عن علماء الأزهر وطلابه:
جامعا وجامعة، أرحب بحضراتكم جميعا في مصر العزيزة، مصر النيل، مصر الحضارة، مصر الأزهر
والمساجد والكنائس والأهرامات.
وأشكر معالي الوزير أ.د/ محمد عبد العاطي، لدعوتي
للمشاركة في هـذا المؤتمر الكبير، وهي دعوة كريمة سررت بها، وسارعت باستجابتها، وتمنيت
لو اكتملت سـعادتي بإلقاء هذه الكلمة بين أيديكم، لولا ارتباطات سابقة، ليس لي بتعديلها
أو الاعتذار عنها، حول ولا طول.
السيدات والسادة!
إذا كانت العلـوم -نظرية وعملية- تستمد ترتيبها
وأهميتها في لوحـة الشرف، من أهمية موضوعاتها التي تدور عليها مسائل هذه العلوم، والقضايا
التي ينتهي إليها البحث إثباتا أو نفيا - فإن المؤتمـرات الدولية هي أيضا تكتسب خطرها
من خطر موضوعاتها ونقاشاتها وقراراتها..
ولا أعرف -اليوم- موضوعا بلغ من تأثيره وخطره على
حياة الشعوب ما بلغ موضوع «المياه»، في حياتنا المعاصرة، بعد ما نشبت أظفاره في كل
مجالات السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وما خلفته من أزمات وصراعات تبعث الحروب
بين الشعوب وتتربص بها هيمنة وإفقارا وإذلالا.
ومن هنا فإن مؤتمركم اليوم هو -بلا أدنى ريب- مؤتمر
بالغ الخطر؛ لأنه يبحث عن وسيلة جادة لحل التحديات الإقليمية والدولية، والتي تبدو
اليوم وكأنها «أزمة الأزمات»، أو عقدة العقد في المفاوضات الدولية، وفي سبيل نهضة الأمة
العربية والإسلامية، واستعادة قوتها واللحاق بقطار التنمية والتقدم والرخاء.. وذلك
رغم ما يؤكده الخبراء من أن «أزمة المياه في الشرق الأوسط، والأقطار الأخرى ليست أزمة
كمية بقدر ما هي أزمة سوء توزيع»، مما يعني أن هذه القضية باتت تستخدم -اليوم- كورقة
ضغط في صناعة أزمة الشرق الأوسط..
السيدات والســادة!
ما أظن أني بمستطيع أن أضيف إلى مؤتمركم في هذا
الموضوع شيئا يذكر، فأنا بثقافتي الإسلامية وتخصصي الدراسي بعيد، بل غريب على موضوع
«المياه» وما يتعلق به من دراسات وأبحاث علمية ونظرية، وتخصصات هندسية وكهربية وميكانيكية..
ولكني – على ذلك - مواطن يتأثر بمشكلات وطنـه ومجتمعـه وإقليمه، ويحاول أن يفهمها في
إطار الواقع وما يحدث على الأرض، وينظر إليها ضمن طابور المشكلات المعقدة التي يختنق
بها عالمنا المعاصر، كمشكلات البيئة، ومشكلات ندرة المياه، وارتفاع الحرارة، وأزمة
التصحر، وظاهرة تآكل الأراضي الخصبة، وتحدي الانفجار السكاني، وقلة الغذاء.. إلخ هذه
المشكلات التي إن ترك حلها لـ «اسـتراتيجيات» غريبة، لا تعرف العدل ولا تفهم إلا لغة
القوة وقعقعة السلاح فإنها –لا محالة-ستعود بإنسان القرن الواحد والعشرين إلى قرون
تشبه قرون الظلام وحياة مثل حياة الكهوف والمغارات..
ومع ذلك فقد تجد كلمتي هذه صدى في هذا المؤتمر
الكبير لو أفلحت في لفت الأنظار إلى حقيقة أننا - نحن الشرقيين- نمتلك ثقافة دينية
راقية، فيما يتعلق بالماء وحرمته وقدسيته، وأن هذه الثقافة أمدتنا بها كتبنا المقدسة
على مدى قرون غابرة، تعلمنا منها أن الماء أصل الحياة، وحفظنا من قرآننا الكريم قوله
تعالى: ▬وجعلنا من
الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون♂
[الأنبياء: 30]، وقوله تعالى: ▬والله
خلق كل دابة من ماء♂ [النور:
45]، وأن لفظ الماء تكرر في أكثر من ستين موضعا في القرآن الكريم، وفي كثير منها يرتبط
الماء بمفهوم الحياة على الأرض، وفي بعضها يرتبط الماء بالطهارة الشرعية التي هي شرط
صحة العبادات: وضوءا واغتسالا، وأن النبي ﷺ كان يصف الماء علاجـا لحـالات التوتر العصبي،
وكان يقـول: «إذا غضبت فتوضأ».
ويشير إلى جلال «الماء» وعظم شأنه أن القرآن عول
عليه كثيرا في جدله مع الوثنيين، ودعوة المشركين إلى الإيمان بالله تعالى، واتخذ منه
برهانا يأتي في مقدمة البراهين الكبرى للاستدلال على وجود الله تعالى:
- أفرأيتم
الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون" [الواقعة: 68-69].
- بل
يرتفع الماء هيبة وجلالا في ضوء ما يقوله الله تعالى في شأن عرشه، وأنه حين خلق العرش
خلق الماء ليكون العرش عليه. وهو
الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [هود: 7].
وفي صحيح الإمام البخاري قال: «جاء وفد من اليمن
فقالوا للنبي ﷺ: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر [أي: عن بداية الخلق]،
فقال النبي ﷺ: كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء
وخلق السموات والأرض».
ويطول بنا المقام -أيها الحفل الكريم- لو ذهبنا
نحصي الحكم والمقاصد الدينية والإنسانية التي تثيرها كلمة «الماء» في أكثر من ستين
سياقا من سياقات القرآن الكريم.. وفي أحاديث كثيرة من سنة النبي ﷺ، ويكفي – حرصا على
وقتكم – أن نذكر منها مثالا واحدا يدلنا على تفرد عنصر الماء من بين سائر العناصر الطبيعية
الأخرى، بحضوره القوي في قلب قسم العبادات، من كتب التفسير والحديث والفقه، وهو: باب
الصلاة الذي يشتمل على صلاة الاستسقاء، وهي صلاة يستمطر بها الماء في أوقات القحط والجدب،
ولها أحكام خاصة ومناسك معينة تتفرد بها عن باقي الصلوات..
وثمة حكمان شرعيان يتعلقان بالماء أراهما من أمس
الموضوعات بما تدور عليه مناقشاتكم، في هذا المؤتمر الدولي الإسلامي الكبير:
الحكم الأول: أن فلسفة الإسلام في هذا الموضوع
تدور على محور ثابت غير قابل للتأويل أو التشكيك، ذلكم هو أن ملكية الموارد الضرورية
لحياة الناس هي ملكية عامة، ولا يصح بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، أن تترك
الموارد الضرورية ملكا لفرد، أو أفراد، أو دولة تتفرد بالتصرف فيها دون سائر الدول
التي تشترك في هذا المورد العام أو ذاك.. ويأتي «الماء» بمفهومه الشامل الذي يبدأ من
الـجرعة الصغيرة وينتهي بالأنهار والبحار-يأتي في مقدمة الموارد الضرورية التي تنص
شريعة الإسلام على وجوب أن تكون ملكيتها ملكية جماعية مشتركة، ومنع أن يستبد بها فرد
أو أناس، أو دول دون دول أخرى. لأن هذا المنع أو الحجر أو التضييق على الآخرين، إنما
هو سلب لحق من حقوق الله تعالى، وتصرف من المانع فيما لا يملك، وفقهاء الإسلام وأئمته
على اختلاف عصورهم يطبقون على هذا الحكم، ويستندون في إجماعهم هذا إلى وصية النبي ﷺ
التي تنص على حق الناس في أن يشتركوا في: الماء، والمرعى والنار، وإلى توعد الله تعالى
لمانع الماء بأن يحرمه يوم القيامة من فضله ورحمته، وهو عذاب ما بعده عذاب، يقـول النبي
ﷺ: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار»، ويقول في حديث آخر يرويه الإمام البخاري:
«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، منهم: رجل منع فضل ماء، فيقول الله:
اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك».. ونلاحظ في هذا الحديث الشريف أنه
ربط الحكم بعلته المعقولة، ونص عليه مع بيان سببه وهو أن الله تعالى لما جعل الماء
هو أصل الحياة والأحياء على اختلاف أنواعها خص نفسه –سبحانه!- بتفرده بملكيته، وبإنزاله
من السماء إلى الأرض، وجعله حقا مشتركا بين عباده؛ وأن أحدا من عباده لم يصنع منه قطرة
واحدة حتى تكون له شبهة تملك تخوله حق تصرف المالك في ملكه، يمنحه من يشاء ويصرفه عمن
يشاء، والوعيد الوارد في الحديث ليس خاصا برجل يمنع الماء، بل يعم الرجل والرجال والهيئة
والجماعة والدولة والدول، لأن العلة التي استوجبت الوعيد، وهي منع الماء، متحققة في
هؤلاء الظالمين المعتدين، ومعلوم أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما كما يقول علماء
الأصول.
أما الحكم الثاني، الذي أنهي به كلمتي، فهو أن
الإسـلام، وهو بصدد تشريعات ترتبط بالمصالح العامة للعباد - فإنه يتحسب لها ويضبطها
بأحكام تحميها من تضييعها أو العبث بها أو الإسراف في استعمالها، أو أي تصرف يؤدي إلى
نضوبها أو قلة كفايتها، وهو ما يعبر عنه اليوم بكلمة «الترشيد»، والاقتصاد في استخدام
المياه..
ويلفت النظر هنا أن شريعة الإسلام نهت عن الإسراف،
بحسبانه رذيلة من الرذائل، نهيا عاما يشمل الإسراف في كل شيء، إلا أنها ركزت على مسألة
«الترشيد في استخدام الماء» بشكل خاص، ووضعت لها ضوابط شرعية تدخل جزءا في أحكام الوضوء
وأحكام الغسل، ودونكم كتب الفقه في مختلف مستوياتها، طالعوها في باب الوضوء وأحكام
الغسل، وغيرهما لتجدوا أن الفقهاء بعد أن يذكروا فرائض الوضوء وفرائض الغسل وسننهما
يذكرون مندوباتهما، والمندوب فعل يطلبه الشارع ويثيب عليه، وإن كان لا يعاقب على تركه،
والفعل المطلوب هنا هو: تقليل استعمال الماء في الوضوء والغسل، و «بلا حد في التقليل»،
كما ينص الفقهاء، ويقولون: إن المطلوب الشرعي في هذا الأمر هو: «أن يكون الماء المستعمل،
الذي يجعله المتوضئ على العضو قليلا، وليس بلازم أن يتقاطر عن العضو المغسول، بل يكفي
مجرد ملامسة الماء للعضو».
ولا يقال إن هذا الحكم لا يردع المسرف في استعمال
الماء في العبادات، لأنا نقول: إنه حكم مختص بتقليل الماء بلا حد، أما التجاوز بالكثرة
فيردعه النهي العام عن الإسراف في استعمال الماء في العبادات حتى لو كان المسلم يتوضأ
على نهر من الأنهار.. وقد ورد أن النبي ﷺ مر بسـعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف يا
ســعد؟ قال: أفي الوضـوء سـرف يا رسول الله؟ قال: نعـم، وإن كنت على نهــر جـار».
الحضـور
الكــريم!
لو قارنا بين هذه التشريعات الإسلامية المتعلقة
بالماء حفظا وترشيدا وبين سلوك المسلمين في عباداتهم التي تدخل المياه شرطا في صحتها
فسوف يروعنا فاقد المياه المهدرة ، وهو أمر لا يحسن السكوت عليه بحال، وبخاصة في هذه
المرحلة البالغة الحساسية والتي بلغت مبلغ الأزمة: سياسيا واقتصاديا، الأمر الذي يجب
معه وجوبا شرعيا أن تكون له الأولوية القصوى على موائد المختصين من المسـؤولين والخـبراء
في معالجـة هـذه الأزمـة.. وما أظن الصور والرسائل التي تبثها شاشات الإعلام بكافية
في تثقيف المسلمين وتوعيتهم بهذا الموضوع الخطير، ولا الوعظ والإرشاد الذي يتأثر به
المصلون ثم ينسونه على أبواب المساجد وهم خارجون.
وقد يكون من المفيد فيما أتمنى في هذا الأمر تصنيع
الصنابير التي لا تسمح إلا بالقليـل وبكمية إثـر أخـرى. والتـزام وزارات الأوقاف في
عالمنـا العــربي والإسلامي بتزويد المساجد بها، بل التزام المسـؤولين باستخدامها في
دواوين العمل الرسمية والمنشآت العامة والحكومية، على غرار ما نراه في مطارات أوروبا
ومعظم منشآتها العامة والخاصة، رغم أن مواردهم المائية هناك لا تعاني ما تعانيه مواردنا
هنا من مشكلات الندرة والتصحر والجدب..
شــكرا لحســن اسـتماعكـم وعـذرا للإطالة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.