من أجل المجهود الحربي المصري ودعم الفدائيين من منظمة فتح كانت الرحلة السابعة لأم كلثوم إلى ليبيا الشقيقة، وقد سردنا بالأمس الجزء الأول من الرحلة وقد أقامت فيه حفلها الأول بطرابلس في 12 مارس 1969، واليوم نستكمل الجزء الثاني والأخير في تلك الرحلة الحافلة بالنجاح ونسرد فيه ما تعرضت له من مخاطر ومفاجأت.

 

مندوب الرئيس جمال في الحفل

لم يذكر أي مصدر إيفاد مندوب من رئاسة الجمهورية بمصر بملازمة أم كلثوم في رحلتها إلى طرابلس، ولكن فوجئ الجميع بوجود السيد حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر في الصف الأول في حفل طرابلس، وبعد أن شدَت بقصيدة "هذه ليلتي" في وصلتها الأولى صعد مندوب الرئيس إلى المسرح وحياها أمام الجماهير، ثم جلس فترة طويلة معها حتى حانت وصلتها الثانية ونزل ليجلس في مكانه بالصف الأول ليستمع إلى "الأطلال".

 

دموع أم كلثوم

ظلت أم كلثوم في طرابلس خمسة أيام بعد الحفل، فقد زارت في اليوم التالي مدرسة الصنايع وهي مخصصة للأطفال اليتامي والفقراء، ورغم النظام الذي اتبع عند قدومها إلى المدرسة، إلا أنهم هرولوا إليها ملتفين حولها ليرحبوا بها، وعلى مسرح الترحيب ألقى طفل من اليتامى كلمة عن الأمومة فانسابت دموع أم كلثوم من خلف نظارتها وقدموا لها الورد، ولن ينسى الأطفال أن أم كلثوم كانت بينهم وغمرتهم بمشاعر العطف والأمومة .. وفي المساء لبَّت أم كلثوم دعوة دكتور "العجيلي" في منزله بطرابلس، والتف حولها لفيف من سيدات المجتمع بملابسهن الحديثة والتقليدية.

 

وفي اليوم الثالث أقامت العائلة السنوسية حفل استقبال في مزرعتهم، وقضت أم كلثوم اليوم كله بين المزارع والأشجار، وفي المساء حضر الحفل لفيف من السفراء والوزراء. وفي اليوم الرابع لبَّت أم كلثوم دعوة الجمعية النسائية بطرابلس وارتدت لأول مرة العباءة الليبية، وأحاطتها نساء الجمعية بمشاعر البهجة والقبلات، واستعرضت أم كلثوم ملابسهن التقليدية مع الرقص والفلكلور الشعبي الليبي.  

وفي اليوم الخامس زارت كلية الهندسة وكان في استقبالها أساتذة الكلية وكان معظمهم من المصريين وقد رحب بها الجميع، وأقامت سفارات العرب حفل ترحيب بأم كلثوم برعاية سفير الكويت الذي دعا سفراء ووزراء ليبيا للحفل، ووجدت أم كلثوم مفاجأة في انتظارها حيث قدم لها السفير صورة لها بالحجم الطبيعي من تصوير محمد كرازة كبير المصورين الليبيين الذي وقف بجانبها وطلب منها توقيعها على الصورة.

 

فزع وإغماء في الطائرة

في الثامنة من مساء يوم 17 مارس استقلت أم كلثوم الطائرة من طرابلس إلى بنغازي مع الوفد المرافق لها، وبعد فترة تعرضت الطائرة لمطبات هوائية هددتها بخطر حقيقي، وبدأ العديد من الركاب في الصراخ والخوف من الغرق إن سقطت الطائرة في البحر، وأصيب العديد منهم بالإغماء وقد ظهر المضيف الأجنبي وعلى وجهه علامات الذعر، وشعر الجميع أن النهاية وشيكة في جوف البحر، فقد استمرت المخاطر لمدة نصف ساعة، وقد جلست أم كلثوم في مقعدها ثابتة دون أية حركة أو رد فعل، وقد أسبغت على نفسها هدوءًا وجدانيًا، فقد شعرت أنها اللحظات الأخيرة، وظلت متماسكة تتلو آيات القرآن الكريم، وبعد أن كانت الطائرة على شفا الهاوية التي لا نجاة منها استقامت في طريقها وتخلصت من الاضطراب وظل الجميع يرددون الأدعية والشكر لله.

 

عبد الوهاب في الحفل الثاني

قضت أم كلثوم يوم الثامن عشر من مارس بقصر السيد عبد الله عابد السنوسي، وكانت قد نزلت به وأقامت فيه طول تواجدها في بنغازي، وفي مساء اليوم التالي أقيم حفل أم كلثوم الثاني على مسرح بملعب 24 سبتمبر بمنطقة البركة في بنغازي وشدت فيه بأغنيتين وهما "أمل حياتي" ثم "بعيد عنك"،  وقد تميز الحفل بحضور وفود أدباء المغرب العربي وقد فوجئت أم كلثوم بحضور الموسيقار محمد عبد الوهاب حفل بنغازي وزوجته، وقد صعدت السيدة نهلة القدسي إلى المسرح بعد وصلة أم كلثوم الأولى وظلت معها خلف الكواليس حتى نزلت قبل أن تنفرج الستارة لتشدو أم كلثوم بوصلتها الثانية.

 

زيارات وحفاوة بعد الحفل

تلقت أم كلثوم في اليوم التالي للحفل دعوة من النادي المصري ببنغازي وحضر الحفل أيضاً الموسيقار عبد الوهاب وزوجته، وقوبلوا بالترحاب الشديد، وقبل العودة إلى مصر أقامت عائلة "السنوسي" حفل عشاء فاخر بقصرهم الفخم، وحضر "عبد الوهاب" الحفل وزوجته، ولمس الجميع الحفاوة البالغة من السيد عبد الله عابد السنوسي راعي الرحلة والحفلين.

 ووجب أن نؤكد نجاح الحفلين الذي بلغ إيرادهما قرابة المائة ألف جنية ليبي لصالح إعادة التسليح في مصر، ودعم منظمة فتح الفلسطينية، وأتمت أم كلثوم 13 يوماً في ليبيا كانت فيها دائمة الاتصال بالقاهرة مع الاستماع للراديو لمعرفة أخبار مصر.

 

كواليس الرحلة

حضر حفلي أم كلثوم وزير الاقتصاد المصري حسن عباس زكي حيث كان متواجداً في ليبيا ومسؤولاً عن معرض مصر في طرابلس، وعرض بعض الشخصيات على أم كلثوم أن تعود إلى القاهرة من بنغازي بالسيارة؛ بعد المخاطر التي تعرضت لها طائرتها، لكنها رفضت الاقتراح وأصرت على العودة بالطائرة. وكان قائد فرقتها محمد عبده صالح يبدو عليه الإعياء في الرحلة وقد علم أحمد الصالحين وزير الإعلام الليبي بمرضه فعرض عليه أن يبقى شهرين في ضيافة الحكومة الليبية، لكنه اعتذر ووعدهم أنه سيعود إلى ليبيا لاحقاً ليقضي فيها بعض الوقت. وطلب العديد من شعراء المغرب من أم كلثوم أن تغني من أشعارهم، وقد سجلت مع مصطفى المصراتي رئيس اللجنة العليا للفنون والآداب حديثاً مطولاً أخبرها أنه سيكون فصلاً في كتابه الجديد "حوار معهم".  

 

بقي أن نشير إلى أن أغنيتي حفل بنغازي لم يسمعهما أحد في مصر بعد رحلة أم كلثوم إلى ليبيا إلى أن قام الإعلامي إبراهيم حفني بمفاجأة الجمهور العربي وإذاعة أغنية بعيد عنك في شهر مارس 2010 أما الأغنية الثانية المفقودة أمل حياتي فقد رفعتها السيدة سلوى السنوسي لأول مرة في أكتوبر 2011 بمنتدى سماعي؛ لتسعد بها جمهور وعشاق أم كلثوم.