الأربعاء 27 نوفمبر 2024

حجاب النساء من الجهة الدينية

  • 30-3-2017 | 11:01

طباعة

من تراث : الإمام محمد عبده

لو أن فى الشريعة الإسلامية نصوصا تقضى بالحجاب، على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين، لوجب على اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة فى ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة.

لكننا لانجد نصا فى الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هى عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التى تمكنت فى الناس باسم الدين والدين براء منها. ولذلك لا نرى مانعا من البحث فيها، بل نرى من الواجب أن نلم بها، ونبين حكم الشريعة فى شأنها، وحاجة الناس إلى تغييرها.

جاء فى الكتاب العزيز: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن”.

أباحت الشريعة فى هذه الآية للمرأة أن تظهر بعض أعضاء من جسمها أمام الأجنبى عنها، غير أنها لم تسم تلك المواضع. وقد قال العلماء : إنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفا فى العادة وقت الخطاب. واتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء فى الآية، ووقع الخلاف بينهم فى أعضاء أخرى كالذراعين والقدمين.

جاء فى “ابن عابدين” : “وعورة الحرة بدنها حتى شعرها النازل جميعه فى الأصح، خلا الوجه والكفين والقدمين على المعتمد، وصوتها على الراجح، وذراعيها على المرجوح. وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه (لا لأنه عورة) بل لخوف الفتنة، كمسه وإن أمن الشهوة لأنه أغلظ، ولذلك ثبتت به حرمة المصاهرة كما يأتى فى الحظر، ولا يجوز النظر إليه بشهوة كوجه أمرد، فإنه يحرم النظر إلى وجهها ووجه الأمرد إذا شك فى الشهوة، أما بدونها فيباح ولو جميلا”.

وذكر فى كتاب “الروض”، فى المذهب الشافعى: “نظر الوجه والكفين عند أمن الفتنة من المرأة للرجل وعكسه جائز، ويجوز نظر وجه المرأة عند المعاملة وعند تحمل الشهادة، وتكلف كشفه عند الأداء .

وجاء فى “تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق” لعثمان بن على الزيلعى: “وبدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها، لقوله تعالى : “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها” والمراد محل زينتهن وما ظهر منها : الوجه والكفان، قاله ابن عباس وابن عمر. واستثنى فى “المختصر” الأعضاء الثلاثة للابتلاء بإبدائها، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب. ولو كان الوجه والكفان من العورة لما حرم سترهما بالمخيط. وفى القدم روايتان والأصح أنها ليست بعورة للابتلاء بإبدائها”.

وحكم الوجه والكفين، أنها ليست بعورة معروف كذلك عند المالكية والحنابلة، ولا نطيل الكلام بنقل نصوص أهل هذين المذهبين.

ومما يروى عن عائشة، رضى الله عنها، أنها قالت: “إن أسماء بنت أبى بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فقال لها: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه”.

وورد أيضا فى كتاب “حسن الأسوة” للسيد محمد صديق حسن خان بهادر: “وإنما رخص للمرأة فى هذا القدر لأن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا فى الشهادة والمحاكمة والزواج، وتضطر إلى المشى فى الطرقات، وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن”.

خولت الشريعة للمرأة ما للرجال من الحقوق ، وألقت عليها تبعة أعمالها المدنية والجنائية، فللمرأة الحق فى إدارة أموالها والتصرف فيها بنفسها، فكيف يمكن لرجل أن يتعاقد معها من غير أن يراها ويتحقق شخصيتها؟!

ومن غريب وسائل التحقق أن تحضر المرأة مغلفة من رأسها إلى قدميها، أو تقف من وراء ستار أو باب، ويقال للرجال: ها هى ذى فلانة التى تريد أن تبيعك دارها أو تقيمك وكيلا فى زواجها مثلا، فتقول المرأة: بعت، أو : وكلت، ويكتفى بشهادة شاهدين من الأقارب أو الأجانب على أنها هى التى باعت أو وكلت، والحال أنه ليس فى هذه الأعمال ضمانة يطمئن إليها أحد. وكثيرا ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغش والتزوير فى مثل هذه الأحوال، فكم رأينا أن امرأة تزوجت بغير علمها، وأجرت أملاكها بدون شعورها، بل تجردت من كل ما تملكه على جهل منها، وذلك كله ناشئ من تحجبها وقيام الرجال دونها يحولون بينها وبين من يعاملها.

كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتخذ صناعة أو تجارة للتعيش منها إن كانت فقيرة؟ كيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة بمنزل فيه رجال؟ كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال؟ كيف يتسنى لزارعة محجوبة أن تفلح أرضها وتحصد زرعها؟ كيف يمكن لعاملة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجرت نفسها للعمل فى بناء بيت أو نحوه؟

وبالجملة.. فقد خلق الله هذا العالم، ومكن فيه النوع الإنسانى ليتمتع من منافعه بما تسمح له قواه فى الوصول إليه، ووضع للتصرف فيه حدوداً تتبعها حقوق، وسوى فى التزام الحدود والتمتع بالحقوق بين الرجل والمرأة من هذا النوع، ولم يقسم الكون بينهما قسمة أفزاز، ولم يجعل جانبا من الأرض للنساء يتمتعن بالمنافع فيه وحدهن وجانبا للرجال يعملون فيه فى عزلة عن النساء، بل جعل متاع الحياة مشتركا بين الصنفين، شائعا تحت سلطة قواهما بلا تمييز. فكيف يمكن مع هذا لامرأة أن تتمتع بما شاء الله أن تتمتع به مما هيأها له، بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينهما وبين الرجال إذا حظر  عليها أن تقع تحت أعين الرجال، إلا من كان من محارمها؟ .. لاريب أن هذا مما لم يسمح به الشرع ولن يسمح به العقل..

لهذا رأينا أن الضرورة أحالت الثبات على هذا الضرب من الحجاب عند أغلب الطبقات من المسلمين، كما نشاهده فى الخادمات والعاملات وسكان القرى. حتى من أهل الطبقة الوسطى، بل وبعض أهل العلياء من أهل البادية والقرى، والكل مسلمون، بل قد يكون الدين أمكن فيهم منه فى أهل المدن!!

إذا وقفت المرأة فى بعض مواقف القضاء خصما أو شاهدا، كيف أنه يسوغ لها ستر وجهها؟ مضت سنون والخصوم وقضاة المحاكم أنفسهم غافلون عما يهم فى هذه المسألة، متساهلون فى رعاية الواجب فيها، فهم يقبلون أن تحضر المرأة أمامهم مستترة الوجه، وهى مدعية أو مدعى عليها أو شاهدة، وذلك منهم استسلام للعوائد، وليس بخاف ما فى هذا التسامح من الضرر الذى يصعب استمراره فيما أظن، ذلك لعدم الثقة بمعرفة الشخص المستتر، ولما فى ذلك من سهولة الغش.

كل رجل يقف مع امرأة موقف المخاصمة من همه أن يعرف تلك التى تخاصمه، وله فى ذلك فوائد كثيرة، من أهمها صحة التمسك بقولها، ولا أظن أنه يسوغ للقاضى أن يحكم على شخص مستتر الوجه ولا أن يحكم له. ولا أظن أنه يسوغ له أن يسمع شاهدا كذلك. بل أقول: إن أول واجب عليه أن يتعرف وجه الشاهد والخصم، خصوصا فى الجنايات. وإلا فأى معنى لما أوجبه الشرع والقانون من السؤال عن اسم الشخص وسنه وصناعته ومولده؟ وماذا تفيد معرفة هذه الأمور كلها إذا لم يكن معروفا بشخصه؟

والحكمة فى أن الشريعة الغراء كلفت المرأة بكشف وجهها عند تأدية الشهادة، كما مر، ظاهرة، وهى تمكن القاضى من التفرس فى الحركات التى تظهر عليه ، فيقدر الشهادة بذلك قدرها.

لا ريب فى أن ما ذكرنا من مضار التحجب يندرج فى حكمه إباحة الشرع الإسلامى لكشف المرأة وجهها وكفيها، ونحن لا نريد أكثر من ذلك.

واتفق أئمة المذاهب أيضاً على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى المرأة التى يريد أن يتزوجها، بل قالوا بندبه، عملاً بما روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، حيث قال لأحد الأنصار: وكان قد خطب امرأة - “أنظرت إليها؟” قال : لا ، قال : “انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما”.

هذه هى نصوص القرآن وروايات الأحاديث وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جلية فى أن الله تعالى قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها، وذلك للحكم التى لا يصعب إدراكها على كل من عقل.

هذا حكم الشريعة الإسلامية، كله يسر لا عسر فيه، لا على النساء ولا على الرجال، ولا يضرب بين الفريقين بحجاب لا يخفى ما فيه من الحرج عليهما فى المعاملات والمشقة فى أداء كل منهما ما كلف به من الأعمال، سواء كان تكليفاً شرعياً أو تكليفا قضت به ضرورة المعاش.

أما دعوى أن ذلك من آداب المرأة فلا إخالها صحيحة، لأنه لا أصل يمكن أن ترجع إليه هذه الدعوة، وأى علاقة بين الأدب وبين كشف الوجه وستره؟ وعلى أى قاعدة بنى الفرق بين الرجل والمرأة؟ أليس الأدب فى الحقيقة واحدا بالنسبة للرجال والنساء؟ وموضوعه الأعمال والمقاصد لا الأشكال والملابس؟

وأما خوف الفتنة الذى نراه يطوف فى كل سطر مما يكتب فى هذه المسألة تقريباً فهو أمر يتعلق بقلوب الخائفين من الرجال وليس على النساء تقدير، ولا هن مطالبات بمعرفته، وعلى من يخاف الفتنة من الرجال أن يغض بصره، كما أنه على من يخافها من النساء أن تغض بصرها، والأوامر الواردة فى الآية الكريمة موجهة إلى كل من الفريقين بغض البصر على السواء، وفى هذا دلالة واضحة على أن المرأة ليست بأولى من الرجل بتغطية وجهها.

عجباً ! لم يؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟! هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه؟ واعتبرت المرأة أقوى منه فى كل ذلك، حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال، ومنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعا مطلقا خوف أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط فى الفتنة بأى امرأة تعرضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخلق؟

إن زعم زاعم صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافاً منه بأن المرأة أكمل استعدادا من الرجل، فلم توضع حينئذ تحت رقه فى كل حال؟ فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحا فلم هذا التحكم المعروف؟

على أن البرقع والنقاب مما يزيد من خوف الفتنة، لأن هذا النقاب الأبيض الرقيق الذى تبدو من ورائه المحاسن وتختفى من ورائه العيوب، والبرقع الذى يختفى تحته طرف الأنف والفم والشدقان ويظهر منه الجبين والحواجب والعيون والخدود والأصداغ وصفحات العنق.. هذا الساتر فى الحقيقة من الزينة التى تحث رغبة الناظر وتحمله على اكتشاف قليل خفى بعد الافتتان بكثير ظهر. ولو أن المرأة كانت مكشوفة الوجه لكان فى مجموع خلقها ما يرد فى الغالب البصر عنها.

ليست أسباب الفتنة ما يبدو من أعضاء المرأة الظاهرة، بل من أهم أسبابها ما يصدر عنها من الحركات فى أثناء مشيها، وما يبدو من الأفاعيل التى ترشد عما فى نفسها. والنقاب والبرقع من أشد أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة، لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول : فلانة أو بنت فلان أو فلان أو زوجة فلان كانت تفعل كذا؛ فهى تأتى كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية ذلك البرقع وهذا النقاب. أما لو كان وجهها مكشوفا فإن نسبتها إلى عائلتها أو شرفها فى نفسها يشعرانها بالحياء والخجل ويمنعانها من إبداء حركة أو عمل يتوهم منه أدنى رغبة منها فى استلفات النظر إليها.

والحق أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده، ويدلنا على ذلك أن هذه العادة ليست معروفة فى كثير من البلاد الإسلامية وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التى لم تتدين بدين الإسلام.

وإنما من مشروعات الإسلام ضرب الخمر على الجيوب، كما هو صريح الآية، وليس فى ذلك شىء من التبرقع والانتقاب، هذا ما يتعلق بكشف الوجه واليدين. أما ما يتعلق بالحجاب بمعنى قصر المرأة فى بيتها والحظر عليها أن تخالط الرجال، فالكلام فيه ينقسم إلى قسمين: ما يختص بنساء النبى صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بغيرهن من نساء المسلمين، ولا أثر فى الشريعة لغير هذين القسمين.

أما القسم الأول فقد ورد فيه ما يأتى من الآيات:

“يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم” ... “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما” (سورة الأحزاب - الآية : 53).

“يا نساء النبى لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى” (الأحزاب : 32 و 33) .

ولا يوجد اختلاف فى جميع كتب الفقه من أى مذهب كانت ولا فى كتب التفاسير فى أن هذه النصوص الشريفة هى خاصة بنساء النبى صلى الله عليه وسلم، أمرهن الله سبحانه وتعالى بالتحجب وبين لنا سبب هذا الحكم وهو أنهن لسن كأحد من النساء. ولما كان الخطاب خاصا بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت أسباب التنزيل خاصة بهن لا تنطبق على غيرهن، فهذا الحجاب ليس بفرض ولا بواجب على أحد من نساء المسلمين.

وأما القسم الثانى، فغاية ما ورد فى كتب الفقه عنه حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، نهى فيه عن الخلوة مع الأجنبى وهو : “لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذى محرم”. قال “ابن عابدين” : “الخلوة خربة أو كانت عجوزا شوهاء أو بحائل- وقيل : الخلوة بالأجنبية مكروهة كراهة تحريم. وعن يوسف ليست بتحريم” .. وقالوا : إن الخلوة المحرمة تنتفى بالحائل وبوجود محرم أو امرأة ثقة قادرة، وهى تنتفى أيضاً بوجود رجل آخر لم تره” .

ربما يقال : إن ما فرضه الله على نساء نبيه يستحب اتباعه لنساء المسلمين كافة، فنجيب : إن قوله تعالى : “لستن كأحد من النساء” يشير إلى عدم الرغبة فى المساواة فى هذا الحكم وينبهنا إلى أن فى عدم الحجاب حكما ينبغى لنا اعتبارها واحترامها، وليس من الصواب تعطيل تلك الحكم مرضاة لاتباع الأسوة. وكما لا يحسن التوسع فيما فيه تيسير أو تخفيف، كذلك لا يجعل الغلو فيما فيه تشديد وتضييق أو تعطيل لشىء من مصالح الحياة. وعلى هذا وردت آيات الكتاب المبين، قال تعالى : “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر “(البقرة : 185)، قال: “ما جعل عليكم فى الدين من حرج” (الحج : 78)، وقال أيضاً : “يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم” (المائدة : 101) .. ولو كان اتباع الأسوة مطلوبا فى مثل هذه الحالة لما رأينا أحد المشهورين بشدة التقوى والتمسك بالسنة يجرى فى عائلته على ما يخالف الحجاب. واستدل على ذلك بذكر الواقعة الآتية:

بعث سلمة بن قيس برجل من قومه يخبر عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بواقعة حربية، فلما وصل ذلك الرجل إلى بيت عمر قال : “فاستأذنت وسلمت، فأذن لى، فدخلت عليه، فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من آدم محشوتين ليفا، فنبذ إلى بإحداهما، فجلست عليها. وإذا بهو فى صفة فيها بيت عليه ستير فقال : يا أم كلثوم، غداءنا. فأخرجت إليه خبزة بزيت فى عرضها ملح لم يدق. فقال : ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا؟ قالت : إنى أستمع عندك حس رجل. قال : نعم، ولا أراه من أهل البلد. قالت : فذلك حين عرفت أنه لم يعرفنى، ولكن لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتنى كما كسا ابن جعفر امرأته وكما كسا الزبير امرأته وكما كسا طلحة امرأته. قال : أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت على بن أبى طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر؟! فقال : فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا!! .

الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده: في الكتابات الاجتماعية. تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة: «جاء هذا الفصل في كتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين، وهو من الفصول التي حققنا نسبتها إلى الأستاذ الإمام. (تحرير المرأة، ص 57 ـ 70 طبعة سنة 1928 م

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة