الأربعاء 26 يونيو 2024

النساء وعملية تصحيح المسار

30-3-2017 | 11:14

بسمة عبد العزيز - طبيبة وكاتبة مصرية

 تُمثّل الحقوقُ المُهدرة وشواهدُ اللامساواة ومؤشراتُ القمع المجتمعيّ، مدخلا ثابتا عند الحديث حول أوضاع النساء في بقاع تتميز بكونها ذكورية الهوى والطابع، وفي بلدان عالقة في طور النمو، بمنأى عن التحقُّق الاقتصاديّ والتقدُّم الحضاريّ، والأخير على وجه التحديد يُقاس بحال النساء والأطفال والأقليات، والفئات المُستضعفة بوجه عام.

    لا يبلي المجتمع بلاء حسنا على تلك المقاييس، وبالنسبة للمرأة المصرية فإنها تعاني ضروبا شتّى مِن التفرقة المبنية على أساسِ النوع، والحقيقة أن الملحوظات المُتعلقة بقهرِ النساء والتغوُّل على حقوقهن كثيرة حتى ليصعب حصرها، ويستعصى على كل مُنصِف تجاوزها، هي ثابتة، مُتكررة، بل ومُتمتعة بقدر مِن القبول والاستحسان بين نسبة معتبرة مِن المواطنين وكذلك المواطنات؛ فمِن حاملات تاء التأنيث من هنّ أمضى أبوية وأشد انحيازا لسيادة الذكورة.

    قد يمتد الحديث عن الانتهاكات المُتعلقة بالمساواة والإنصاف وحرية العقل وسلامة الجسد الأنثوي دون انقطاع، وربما يكون سرد مئات وآلاف الحكايات المؤلمة أمرا طبيعيا لا يدعو إلى دهشة أو يحرك ساكنا، مع ذلك، وبرغم المعاناة الظاهرة والأوجاع الخافية، لا يمكن القفز إلى نتائج تلقائية، تحصر النساء في خانة الضحايا المستحقات للشفقة والرثاء، وتحذف وجودهن وتحرمهن الاحتفاء بما يحققن مِن إنجاز، وتمحو بصماتهن التي انطبعت هنا وهناك، وتكاثفت بصورة لافتة، خاصة مع بداية الحراك الثوريّ في يناير عام ألفين وأحد عشر؛ هنّ حاضرات ولا شكّ في المشهد العام، لا يمكن إنكار حضورهن الطاغي ولا التهوين مِن شأنه.

حول المسار السياسيّ

  على مدار السنوات السِت الفائتة، لعبت النساء -ولا يزلن- دورا رئيسا في التحركات الشعبيّة؛ خرجن إلى الشوارع وبتن في الميادين وهتفن وحملن الرايات وتلقين الغاز والرصاص وتلقين الطعنات، دون أن يثنيهن الاضطهاد عن المطالبة بالخبز؛ وهن إليه الأكثر حاجة، ولا عن السعي نحو الحرية؛ وهن إليها الأشد توقا والأعظم تقديرا وإجلالا، لا لشيء إلا أنهن يكافِحن في مجتمع دائم التشبث بمظاهر السلطوية وطقوسها، قليل التحقُّق، يدفعه سقف الآمال المنخفض إلى جذب أفراده دوما لأسفل، وكلما كان الفرد في احتياج للدعم والمساندة، ضاقت فرصه في الترقي والصعود.

    مثّلت النساءُ كتلة مؤثرة في عديدِ المناسبات سياسية الطابع، فقد اصطففن أمام اللجان غير ذات مرة ينتخبن ويستفتين ويرفعن أصواتهن لجذب آخرين وأخريات، لا يوقفهن طقس سيء ولا مخاوف من عنف محتمل ولا تبعدهن عن أماكنهن ساعات الانتظار الطويلة، فشكلن بمسلكهن هذا رقما مُهما في معادلات قاسية، شديدة الوعورة، ومثلن كتلة تصويتية مؤثرة، وربما صنعن فارقا حقيقيا وملموسا في بعض المواقف التي غاب عنها الرجال، تدفعهن رغبة عارمة في التعبير عن آمالهن وإثبات الوجود، وقبل هذا وذاك تأمين المستقبل الذي بدا مع تقلُّبات الحال وتبدُّل الحُكّام غائما مُضببا؛ لا يبشر بخير ولا ينبئ بقادم مُشرِق.

لا شك أن حركة النساء التي تولدت في السنوات الماضية مثلت جزءا أصيلا من حركة المجتمع ككل، لكن المتابع المدقق يرى كم كانت حماستهن فائقة، غير مسبوقة، وهن يؤدين أدوارا طال غيابهن عنها ربما لقرن من الزمان؛ منذ خرجن ثائرات، يهتفن من وراء أغطية الوجه مناديات بالاستقلال.

حول الميل المجتمعي لتهميش النساء

  ثمّة دوافع وأسباب تحيط بكل انطلاقة استهدفت إحداث تغيير في المشهد السياسي؛ فمِن فساد وظلم إلى ركود وموات إلى محاولات إقصاء تبلورت مع صعود خطاب دينيّ مُتّسِم بالانغلاق الشديد. في المراحل كافة ورغم رحيل حاكم ومجيء آخر، يمكن القول بوجود ميل ثابت لتحجيم دور المرأة المصرية واستبقائها في حيز ضيق، لا يسمح لها بممارسة تأثير عميق في المجتمع.

    يمكن عزو هذا الميل إلى عدد من العوامل، في مقدمتها بطبيعة الحال أعراف وعادات وقواعد جرى ترسيخها لحسم الصراع على سلطة الأب، لا بالمعنى الحرفيّ للتعبير، بل بمعنى حقّ قيادة العائلة وما في حكمها؛ قيادة العمل، قيادة المؤسسات المختلفة، وقيادة الحركات الاجتماعية وحتى الأحزاب السياسية. النساء قادرات على ممارسة الدور الأبوي، وعلى الاضطلاع بمسئوليات جسام، ربما بأكثر مما يفعل عديد الرجال في وقتنا هذا، والإحصاءات التي تُبرِز عدد النساء المعيلات في الطبقات الدنيا خير دليل. هُن في العادة أكثر حماسة ومعاندة ومثابرة، هن أيضا أكثر مرونة بطبيعتهن وأعظم قدرة على التكيف مع تقلبات الأجواء؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ربما أن حيازة النساء المهارات اللازمة لإدارة الحياة بكفاءة وتفوُّق، مسألة مؤرقة تجعل سطوع نجم امرأة واحدة، خطرا مُحدِّقا بمنافسيها، خطرٌ تنبغي محاصرته في مجتمع لا يزال يمتلك نعرة ذكورية واضحة -وإن آخذة في التراجُع- وخاصة في ضوء عدم استقرار المشهد السياسيّ.

    حين يضيق المجتمع بأفراده بوجه عام وتتدهور الحال الاقتصادية ويتأزم الواقع، يتقلص هامش الحريات ويلجأ كل طرف لقمع من يليه في سلسلة القوة والتمكين، ومن ثمّ يقمع الرئيس مرؤوسيه، ويقمع الرجل المرأة، وقد تقمع المرأة أطفالها بدورها. متوالية خبيثة لا فكاك منها إلا بكسر حلقة من الحلقات ورد آليات القمع لمنتجيها. لا ينحصر الأمر بالتأكيد في طرف واحد، فعادة ما يكون للمفعول به دور سلبي أتاح للفاعل أن يمارس سلوكه دون رادع، وكما تكالبت الأنظمة على انتهاك حقوق النساء، فمن النساء من تقاعسن عن الدفاع عن حقوقهن ومن تنازلن عنها ومن رضين بنصيب أقل من المأمول وبشراكة مجتمعية غير عادلة على خلفية مواءمات سياسية لم يكن لها أن تتم.

   على كل حال يلاحظ في الفترة الأخيرة ومع محاولات إخماد الصحوة النسوية الوليدة والتلاعب بمكتسباتها، أن ثمة نزوعا عند بعض نساء الطبقات الاجتماعية الميسورة نسبيا، يحبذ الراحة والاستكانة في كنف أب أو زوج، ولا ينافي هذا الميل مسألة التحصيل العلميّ والحصول على الشهادات الجامعية، لكنه يحجم من الطموحات العملية في المستقبل. صادفت شابات عشرينيات، جلسن في بيوت الأهل ينتظرن الزواج ولا يرغبن في شيء آخر، كانت قراراتهن واضحة؛ البيت أفضل، والخروج لعمل لا يأتي بالثمار المرجوة أمر مستبعد، وإذا لم يكن هناك اضطرار فكفى الله المؤمنين شر القتال. على كلّ، تلك ملحوظة تستأهل الدراسة على مهل وتأن، إنما تؤخذ بالضرورة في الحسبان لدى الحديث عن أوضاع النساء، إذ تشير إلى انهيار متنام في البيئة الصالحة لازدهار حضورهن ومشاركتهن في مناحي الحياة كافة.

الحركة للأمام

  في الآونة الأخيرة تآكل الدعم الذي حازته السلطة واندثر، تراجعت الشعبية الساحقة، وعلت نبرة السخط، وتكاثفت السخرية بأشكالها المتنوعة المبتكرة؛ سلاحا فاعلا تتفوق فيه الجماهير المصرية بجدارة، أما النساء اللاتي عرفتهن سائرات إلى الصناديق عازمات على إنجاح مرشحهن الأثير، فغالبيتهُن اليوم في طليعة الشاكيات مما آلت إليه الأوضاع، الحانقات على مسار لم يأت إلى أبوابهن بأمنية ولو متواضعة، بل جار عليهن وانتزع البقية الباقية من الجلد والقدرة على التحمُّل.

    قابلت في الأسابيع الماضية امرأة صعيدية طاعنة في السن، لا تعترف بكبر ولا شيخوخة ولا تضج من العمل اليوميّ، أعرفها منذ زمن بعيد وأعرف تواضع حالها. في أعقاب السلام والترحاب ودون أن أستفسر منها عن سبب اكفهرار وجهها؛ قالت لي إنها ضجت وفاض بها الكيل، ولو صادفت المتظاهرين الذين تسمع عنهم من التليفزيون دون أن تراهم، فستنضمُّ إليهم فورا كي تعترض على ما صارت فيه هي نفسها، لا يهمها شيءٌ آخر ولا شخصٌ آخر. احتدت وانعقد جبينها وضاقت عيناها اللامعتان وهي تخبرني أنها لم تتمكن للمرة الأولى في حياتها من شراء الطعام الذي تتناوله في العادة، فقد تجاوزت أسعاره ما في منديلها من نقود، عادت إلى بيتها خالية الوِفاض، غاضبة مُهانة.

    المرأة التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة كانت في مُقدمة الطوابير الانتخابية منذ سنتين، ثم أمام الصناديق في انتخابات مجلس النواب (2015)، وقد تعاركت مع رجل أراد أن يعطيها ورقة مالية نظير انتخاب مرشح بعينه؛ زعقت وأسمعت القاصي والداني أن هناك من يريد شراءها، بصقت عليه ثم راحت تشكو ما جرى إلى رئيس اللجنة الذي لم يعبأ كثيرا، حتى تجمّع حولها الناس، ولم تترك الرجل سوى بفضيحة لا راد لها. خلاصة القول أن هذه المرأة ومثلها كثيرات، اكتشفت -رغم أبواق الدعاية وألاعيب الإعلام ومخادعة الخطاب- أن شيئا لا يسير على ما يرام وأن ثمّة احتياجا لتصويب المسار، وهي على استعداد لمعاودة الكرة، رغم عبء العُمر وآلام الظهر وضعف النظر.

    لا تبدو مطالبها صعبة ولا عصيّة على التحقُّق، بل هي أبسط ما تكون، فالحدود الدنيا التي ترضى بها عديدُ الشرائح المجتمعية المقيمة حول خطّ الفقر، لا يمكن أن تُعجِز نظاما يحتضن منتجعات وقصورا وبحيرات وملاعب جولف مُترامية الأطراف، وإلا وجب التساؤل حول شرعيته، خاصة وقد جاء بإرادة الجماهير وعلى أعناقها، وتعهد بتصحيح المسار وادعى انحيازه للطبقات الأكثر فقرا والفئات الأقل حظا، بحيث أحيا في الأذهان فكرة الأب العطوف، المفقود في الوقت ذاته. يبدو الأمر مدهشا من هذه الزاوية تحديدا؛ فعديد النساء اللاتي جاهدن باستماتة للخروج مِن عباءة المجتمع الأبويّ، قد استسلمن بفرحة غامرة ودون أدنى مقاومة لإعادة إنتاجه، اخترن العودة إلى الطاعة الواجبة، حيث فرض السيطرة وصكّ القواعد المجحفة وسنّ القوانين ذات الميزان المائل. جاء الاستسلام سريعا ماحقا ولم تكن المنظومة السلطوية الراسخة قد انهارت بعد، ولا فقدت كامل بهائها، ولم يكن المجتمع قد استوعب حقّ المرأة غير المنقوص في المعاملة المنصفة كمواطنة، ولا هضم مسألة وجودها ندا مكافئا للرجل.

    على كلّ، ذاك مسار يستدعي في جوهره الدراسة والتحليل، مع التسليم بأن التعميم مُخلٌ، وأن إصدار الأحكام المطلقة يظل قاصرا عن تقديم صورة دقيقة للواقع، فثمّة نساء قاومن بكل تأكيد، وثمّة من دفعن أثمانا كبرى، وثمّة من لا يزلن يناضلن مِن أجل الكرامة والحرية دون أن يعبأن بمصير قد يكون كارثيا وأليما.

    لا شكّ أن النساء قد أكّدن ظهورهن على الساحة في الفترة الماضية، وارتدين ثوب اللاعب الأساسيّ ورحن يمارسن تدريبات الإحماء ويسدّدن الركلات؛ منها ما خاب ومنها ما أصاب المرمى بتمكُّن واقتدار. كسرن حواجز كثيرة كانت فيما مضى عصيّة على الكسر وحطمن حوائط صدّ، ولايزال الطريق طويلا، عامرا بالعراقيل. ربما اختلف المتابعون والمراقبون على طبيعة الدور الذي أدينه والضوابط التي حكمته، ربما اختلفوا أيضا، تبعا لنظرة أوسع وأشمل، على تقييم ما أسفر هذا الدور عنه مِن نتائج وتبعات؛ إيجابية كانت أو سلبية، مع ذلك يبقى الأمر لافتا للانتباه وباعثا على الأمل. الأمل في أن تقود النساء حركة جديدة أكثر تحررا، وأن تُعِدن صياغة الأوضاع الراهنة، وأن يُسفِر استيقاظهُن عن بعث جديد.

    الاكثر قراءة