يحفل المشهد الثقافي اليمني بعديد من الكتاب
والمبدعين الذين يحفرون في الصخر، ويكافحون من أجل أن تبقى شمعة مّا مضاءة تبدد
بعض الظلام الذي يغطي حياة اليمنيين بسبب الحرب.
وتمثل القاهرة مركزا حاضنا لتجليات هذا المشهد
إبداعيا وثقافيا وفكريا.. والشاعر والباحث اليمني علوان مهدي الجيلاني على رأس
هؤلاء المستميتين الذين تحتضنهم القاهرة من أجل أن تبقى اليمن حاضرة بنتاجها
الأدبي والثقافي والفكري والتراثي.
ولعل ما يميز اشتغالات الباحث اليمني، أنها تتم في
العمق فهي اشتغالات على الهوية المهددة اليمنية في أهم مفرداتها وتجلياتها؛
واشتغالات على الثقافة كحامل للهوية وصمام أمان للمجتمع الذي يعاني تمزقاً مريعاً
في نسيجه الاجتماعي جراء الحرب وجراء التجاذبات المصاحبة للحرب، وكنتيجة حتمية
للعب الإقليمي والدولي داخل اليمن؛ حيث يستخدم اللاعبون التيارات الدينية
والمذهبية الوافدة لتدمير هياكل الثقافة اليمنية القارّةوطمس رموزها الإبداعية
والجمالية والروحية.
خلال السنة الماضية أصدر "الجيلاني"
خمسة كتب هي (مفاتيح الأدراج مقاربات في إبداعات سردية)، (بنوحشيبر إرث العلم وبذخ
الولاية)، (منثور الِحكم) للصوفي العارف بالله محمد بن عمر حشيبر – دراسة وتحقيق،
(ملامتية قراءات في تجارب ثقافية وإبداعية)، (أحمد نشم أزمنة الفارس ومآثره) ديوان
شعر وهي تضافعديد الكتب التي أصدرها سابقاً والتي تتوزع على الشعر والتصوف والتراث
الشفاهي والنقد الأدبي، وفي هذا الحوار سنحاول الاقتراب من تجربته لنعرف ماهيتها
ومُؤَسِّسّاتها، ثم لنتعرف من خلالها على مشروع الجيلاني خاصة وعلىما يحدث في
المشهد الثقافي اليمني بشكل عام.
-أصدرت كتابين موضوعهما "بنو حشيبر"
ماهي حكاية بني حشيبر؟
هناك سمة مميزة في التاريخ الثقافي لليمن هو أن
غالب المنتج العلمي والصوفي والأدبي تصدت له أسر علمية توارثت العلم وأخلاق
العناية من خلال الخانقاوات والأربطة والزوايا والمساجد والمدارسكما؛ تركزت الحركة العلمية
في معاقل بعينها تميزت باستقطاب طلبة العلم ونُظر إليها دائماً بوصفها مناطق مقدسة
وهذا التقديس كان هدفه لقرون طويلة تجنيب هذه الحواضن ويلات الحروب والصراعات، وقد
تبادلت الجغرافيات اليمنية الأدوار في الازدهار العلمي والثقافي حسب الظروف التي
كانت تمر بها اليمن كبلد صراعات أكثر من كونه بلد استقرار.
وكانت "تهامة" أكثرها استقرارًا
واكتنازًا بمدن العلم ومعاقله؛ وامتلاء بأُسره من مثل الأهادلة وبني حشيبر
والقديمين وآل الأشخر وبني جعمان وآل الهتار وآل المزجاجي وآل الزيلعي وآل
الجبرتي، وبني سود وآل الناشري، وآل الحكمي، وآل الحضرمي وآل العجيل وآل البجلي،
وآل زكريا، وغيرهم، وهي من الأسر التي قدمت الكثير في مجالات العلم والفقه
والتصوف والأدب وأخلاق العناية وهي أسر انداح معظمها من معاقله إلى سائر أرجاء
اليمن والجزيرة العربية وشرق إفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا حاملين معهم الكثير من
الضوء والوهج الإنساني.
"بنو حشيبر" هي شريحة أو عينة أو مثال
من هذا كله، قررت أن أضعها تحت المجهر وأن أدرس دورها وحركتها في التاريخ، أثرها
وتأثيرها بين منتصف القرن السابع الهجري أي قبل منتصف القرن الثالث عشر الميلادي
وحتى اليوم.
لقد حاولت من خلال هذه الفصول أن أبني سيرة، إن لم
تكن متكاملة فهي شبه متكاملة لتاريخ الأسرة الحشيبرية، فاستقصيت قدر الإمكان كل ما
استطعت الوصول إليه من المصادر التاريخية، متكئاً على السرد التتابعي لرؤية
المؤرخين لها في حقب التاريخ المتلاحقة، ثم حاولت ربط المتأخرين بالمتقدمين مع
إلقاء مزيد من الأضواء على واقع الأسرة وأعلامها في الحاضنة الأم، وامتداداتها
خارج موطنها الأصل من خلال بعض مشاهير الأسرة الذين نبغوا في مجالات مختلفة، وفي
سبيل توضيح الصورة أكثر حاولت استيعاب كل شاردة وواردة وصلني علمها، حتى المعلومات
الهامشية التي كان يمثل سردها حالات استطراد؛ إلى حد ما تعاملت معها بوصفها
مكمِّلات ضرورية للصورة العامة التي أحاول رسمها.
كانت الغاية هي رسم صورة لجانب من تاريخ الأسرة
تناثرت الأخبار والمعلومات عنه في بطون الكتب بشكل لا يلفت القارىء العادي، أو
أهملته واستخفّت به الذاكرة الشعبية تحت طائلة الجهل بأهميته، أو في سياق استنقاصه
والسخرية منه ضمن حملة التجريف والتخريب والتهميش التي تستهدفه، وإما مقاربة ما
أهمله المؤرخون السابقون وتغطية ما استجد بعدهم.
لقد كانت فصول الكتاب في معظمها تشكِّل بانوراما
للتاريخ الحشيبري تجعل القارىء أشبه ما يكون براكب قطار ينظر من النافذة إلى
الشوارع والأبنية والأشجار وهي تنقذف أمام عينيه في مشاهد متتابعة، وتلك غاية
حقيقية تعمدتها، وتلمست نجاحها وأثرها.
-تحقيق "منثور الحكم" إذن هو التكملة
لـ"بنو حشيبر"؟
"منثور الحكم" هو تكملة لـ"بنو
حشيبر" بحكم أن مؤلفه محمد بن عمر حشيبر المتوفى (718ه الموافق 1318م) هو أول
مشاهير هذه الأسرة من جهة؛ كما أن منتجه الصوفي بوصفه منتجاً يقع ضمن نطاق
التجليات العليا للمنتج الصوفي الاسلامي يمكن تقديمه كنموذج مميز لتراث الأسرة
الحشيبرية، وأيضاً فإنفضاء الاشتغال على "منثور الحكم" مثله مثل فضاء
الاشتغال على "بنوحشيبر" فهو نموذج للمنتج الصوفي اليمني عموماً؛ إنه
عينة لما اشتغل عليه صوفية آخرون لا تزال مؤلفاتهم طي مخطوطاتها وعلى رأسها "مرقوم
الحقائق" لشيخه شمس الشموس أبو الغيث بن جميل، و"اللباب" لمحمد بن
حسين البجلي و"ثمرة الحقيقة" للعقيلي و"معارف
الجبرتي"و"لطائف الهتار"؛ وغيرها من المؤلفات العديدة للمزجاجي
والراداد وعديدين آخرين فلم يسبق الاشتغال على المنتج الصوفي اليمني إلا في حالة
الباهوت الكبير أحمد بن علوان فحسب.
إن تقديم كتاب "منثور الحكم" اليوم
للقارىء في اليمن والعالم كله يعدّ حدثاً استثائياً من وجهة نظري، لأهميته من جهة،
ولكونه نموذجاً مميزاً للكتابة الإشارية في التصوف اليمني من جهة أخرى، ثم هو من
جهة ثالثة ردٌ آخر على سؤال طرحته عليّ مجموعة من الكتاب والمثقفين اليمنيين بعد
صدور "جدي على ثدي" وهو مختارات نثرية صوفية قدمها أدونيس في العدد 74
من كتاب في جريدة أكتوبر 2004م.
وكان السؤال: لماذا لم يختر "أدونيس"
شيئاً من شذور المتصوفة اليمنيين؟
كان ردي يومها بكل بساطة: "لأن التراث الصوفي
اليمني قد ظُلم وهمّش ولم يتم الاشتغال به تحقيقاً ودرساً وتقديماً، ولأنه بقي
حبيس أدراجه ومعتماً عليه، ناهيك عن الحرب الشعواء التي طالته ولا تزاله تطاله،
فإنه لم يصل إليكم أنتم هنا كمثقفين يمنيين فكيف سيصل إلى أدونيس أو غيره، في
البلاد العربية والعالم.
بعد ثلاثة أعوام من ذلك السؤال قدمّت محاضرة في
الجمعية الفلسفية اليمنية بصنعاء، حضرتها مجموعة من أساتذة الفلسفة وعلم الاجتماع
والتاريخ والأدب إلى جانب مجموعة من الكتاب والمثقفين وكان موضوع المحاضرة
"شذرات صوفية يمنية"، ما فاجأني يومها أن كل الحاضرين دون استثناء كانوا
إما متفاجئين بما يسمعون، وإما متسائلين: من أين جئت بهذا؟.
وكانت ردة فعلهم جميعاً تعبر عما حاق بهذا التراث
من تهميش واستبعاد، كما تعبر عن جهل أجيال المثقفين اليمنيين عند مطلع القرن
الواحد والعشرين بالتصوف اليمني وتاريخه، فعند إطلالة هذا القرن كان العارفون بهذا
التراث -حتى في الحدود الدنيا- يعدون على أصابع اليد بين دوائر النخب اليمنية
المثقفة، وكان لذلك أسباب كثيرة غير التي ذكرتها هنا، وهي أسباب بينتها بوضوح في
مقدمة كتابي "بنو حشيبر، إرث العلم وبذخ الولاية" ومقدمة دراستي عن
العارف الكبير "أحمد بن موسى عجيل".
إن تقديم كتاب "منثور الحكم" على
الخلفية التي ذكرتها، هو تُدشين ليقظة إزاء هذا التراث لا أظنها ستقف عند حد، وهي
من جانب آخر دعم لجهود مشكورة قدمها المؤرخ عبدالله الحبشي والمحقق عبد العزيز
المنصوب، إضافة إلى جهود بحثية تحاول الولوج بجدية إلى هذا المناخ المكتنز
بالمفاجآت، أقصد هنا ما يجترحه الباحث الشاب علي إبراهيم العقيلي من اشتغالات
أنتظر ثمارها بشوق وشغف كبيرين.
أنت تشتغل كل هذه الاشتغالات ونصب عينك عدو ما
يتربص بك وتحاول أن تقول له لا؟
ما أفعله هو محاولة لإعادة الاعتبار للجوهري من
تراثنا الروحي الذي يشكِّل الجانب الأكثر عمقاً وإيجابية في تاريخنا وفيما ورثناه
من قيم وآداب وسلوكيات وطبائع وعادات، كما أنني أقصد من خلاله تقديم دعوة صريحة
لرفض التنميط والمسخ الذي تعرَّض له تراثنا على أيدي دارسين وأكاديميين ومؤرخين
تماهوا مع الاستهدافات المؤسسية الموجهة بالسياسة لهذا التراث، أو وقعوا في حبائل
الخداع والتضليل المبهرج الذي دأبت مجموعة من التيارات المعادية على بثه حوله،
أريد أن أقول لهؤلاء وأولئك لابد من تغيير زاوية النظر.
لقد حولت تلك الاستهدافات المجحفة بيئات الضوء
وحواضنه في ماضينا إلى عار لا سبيل إلى محوه إلا بالإدانة المتواصلة له وصب
اللعنات عليه، حتى لقد صارت إدانته ولعنه بديهية من البديهيات، ولازمة من لوازم
الدارسين والمحققين بلغت سماجتها حد الارتجال وعدم التحقق، وصار يمارسها الأغبياء
ومن لا دراية لهم ولا علم بمباهاة وجرأة مبتذلة.
وبتحويل بيئات الضوء وحواضنه إلى عار؛ حيث دخلت في
غياهب التهميش مناطق كثيرة من تاريخنا وأقصيت أجزاء مهمة؛ بل جوهرية من مكونات
هويتنا كان لها الدور الفاعل في تطور المجتمع وثراء حياته العلمية والثقافية
والتربوية، وتناغم سُلَّم القيم الاجتماعية فيه، كما كان لها الأثر البالغ في
استراتيجيات المكان وناسه تجاه التحديات التي يواجهانها، خاصة في حالات انفراط
الدول واختلال الأمن والحروب والتمردات والمجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية.
-مقدمة كتاب "بنوحشيبر إرث العلم وبذخ
الولاية" تتجاوز المطروق في الكتاب بشكل كبير إنها بيان بطريقة مّا أو
"مانفستو" ألست معي في ذلك ؟
معك تماماً فهي تصلح مقدمة لكل اشتغالاتي على
التصوف والموروث الشفاهي والفنون المتصلة به وتقديم الشخصيات الثقافية والابداعية
اليمنية فذلك كله في رأيي هم واحد تقع عليه مفاعيل الاستهدافات الموجهة قتلا
وتهميشاً وإقصاءً أؤمن بقوة أن علينا أن نفعل شيئا مّا لقد عبَّر هيردوت (أبو
التاريخ) عن الحاجة إلى وصف عادات الليديين والفرس والمصريين القدامى ليفسر الصراع
الذي يعيشه الإغريق مع غيرهم وذلك حسب قوله (حتى لا يمحو الزمن أعمال الإنسان).
لقد كان هيرودوت في منحاه ذاك يستشف ما يمكن أن
يحدث لحياة ما، أو فكر أو وجود، أو تاريخ معين، حين تهيمن على مجاله الترابي، أو
جغرافيته المكانية، أمم أخرى، أو دول ناشئة بأيديولوجيا مختلفة أو مضادة، فتعيد
صياغة الذاكرة الجماعية بشكل يبرر هيمنتها الحاضرة، وطريقة تنظيمها للمجتمع، وعبر
مناهج ومسالك يتم فيها إقصاء عناصر تلك الحياة الأولى وتدمير شواهدها مكتوبة وغير
مكتوبة، بحيث إنها فيما بعد لا تكاد تذكر إلا من خلال صور مشوشة.
بمعنى آخر علينا تدشين محاولات لقراءات جديدة
وجادة؛ تهتم بكل الناس وبالبنى النّفسية والذهنية المتحكمة في السلوك البشري
لإنسان المكان، اعتماداً على الموروث المتراكم في التدين والإنتاج العلمي والفكري
والأدبي والتاريخي بتجلياته المختلفة، دون إغفال الطقوس والعادات والتقاليد
الشعبية والفنون والإبداعات الشعرية الشفاهية وتجليات الذاكرة وغيرها، بتركيز
واستفادة قصوى من الجانب الأنثروبولوجي والزمن الاجتماعي؛ ناهيك عن دور التاريخ
البيولوجي المرتبط بطرق المعيشة والسكن والبيئة وجيراننا فيها، والأمراض والأوبئة
والجوائح الطبيعية من قحط وسيول مدمرة وعواصف وبروق وسائر ما يمكن أن يشكَّل دوافع
وروافع للوجود تعزز إمكاناته وتثري حضوره، أو ضواغط معوقة لذلك الوجود تستوجب ردود
فعل تكيفية.
هل نفهم أن كتابك "ملامتية" ينطلق من
نقطة الوعي نفسها؟
بكل تأكيد لقد كتبت هذا المعنى في مقدمة الكتاب
نفسه فاليمني كاتباً ومبدعا وفناناً ومثقفاً بشكل عام يمارس نشاطه في واقع أكثر
بكثير من أن نصفه بالصعب تهميشاً وإبعاداً قسرياً عن الأضواء والتكريم والحفاوة،
حيث المؤسسة الرسمية هشة ومتقطعة الحضور وتفتقر إلى الخطط والاستراتيجيات المنظمة
لعملها، وحيث المؤسسات الأهلية مرتهنة لمزاجية القائمين عليها، ناهيك عن كون
المؤسسات الرسمية والأهلية جميعها تمتثل في عملها غالباً لأمراض السياسة والتحيزات
الحزبية والمناطقية وينعكس عليها ما تعاني منه مؤسسات الدولة الرئيسة من فساد
وفوضى وتعوّد على الارتجال والاستسهال، وذلك كله يضاف إلى الفقر وعدم استقرار
البلاد والشعور بعدم الراحة وقلة الثقة في الحاضر والخوف من المستقبل وعليه،
واليمني المشتغل بالثقافة والابداع يكاد يكون الوحيد الذي ما يزال يحصل على الكتاب
بصعوبة في عالم اليوم، وهو يكتب للصحف والمجلات اليمنية بلا أمل في الحصول على
حقوق لما أنتجه، وإذا حصل على شيء فإن مكافأة كتابته لعشر مقالات لا تكفي مصروف
يوم واحد له ولأسرته
إن نفس الخطر الذي يواجهه مخطوط أو أثر تاريخي أو أغنية
شفاهية أو رقصة هو نفس الخطر الذي يعانيه المبدع حين تنهدر أيامه بلا طائل من
اهتمام أو تقدير أو تكريس أو تكريم.
واحد ممن كتبت عنهم في "ملامتية" كان قد
قضى 35 عاماً في يكتب في الصحافة وقد أصدر ثمانية كتب في الفلسفة والفكر وهو مثقف
رفيع وصاحب قلم غير عادي وقد حرصت على الاقتراب منه بعمق، وكتبت عن تجربته بشغف
بالغ، أذكر حتى الآن سعادته ثم شجنه وهو يصيح "خمسة وثلاثين سنة يا أولاد
الكلب استكثرتم علي جرة قلم".
-إذن ليست المؤسسة وحدها من
يقصي ويهمش؟
نعم ليست المؤسسة وحدها ولو رجعت إلى مقدمة "ملامتية"
أو أوغلت قارئاً فيه لوجدت نقداً وتفكيك لبيئة المثقفين اليمنيين،فالمثقفون
والكتاب والمبدعون اليمنيون مثل كائنات تعيش في صحراء شاسعة قاحلة، يقل فيها
الاعتراف بحق الآخر في الوجود، لاعتقاد كل واحد أن ذاته أحق بالبقاء وتوهمه أنه كي
يبقى فلابد أن يموت الآخرون،وهو بهذا المعنى يقتات بهم كما تقتات كائنات الصحراء
القاحلة بشركائها في المكان، وحين يتماهى كاتب يمني مع تراثه العتيد في الاستكثار
على زملائه، وغمط معاصريه، وتسخيف واحتقار أي جهد بغض النظر عن نصيبه من الجودة،
فعليك أن تتذكر كائنات الصحراء وسيتبين لك أنه لا يستكثر ولا يغمط ولا يسخف ولكنه
يقوم بعملية صيد وقتل بكل معنى الكلمة، لأن كل تلك الأحاسيس وما يتبعها من تلفظات
يترتب عليها في الغالب، مضايقة في الرزق،وحجب عن الفرص والأضواء والتناولات
النقدية، وحرمان من الترقي الوظيفي، إلى غير ذلك من أنواع القتل والتدمير الذي
ينتهي بعدد كبير من المبدعين فرائس للإحباط والعزلة وكذلك الجنون.
-لهذا السبب حمل الكتاب
عنوانا صوفياً؟
حين اخترت الـ"ملامتية" اسماً لكتابي لم
يكن يهمني من هذا الاسم "المصطلح" تلك التفاصيل الواسعة التي ترد عنهم
في كتب التصوف وكتب الطبقات أو كتب التعاريف والمعاجم والموسوعات، فما يهمني هنا
جزئية الأنس بالخمول والسلامة من آفة الجاه، وهي جزئية ليس المقصود في اشتغالي هذا
معناها الظاهر، إنما المقصود معكوس معناها، المقصود وجهها الآخر،وهو في حالة من
تتموضعهم هذه التناولات، عيش طويل في الهامش، ونضال غير عادي،وإبداع وأدب وفكر
وآراء نيرة وجهود كبيرة تبذل بعيداً عن الأضواء والتقدير الواجب والشهرة المستحقة
وما يترتب عليها من حقوق ومكاسب مادية ومعنوية.
وإذا كان الملامتية في المصطلح الصوفي قد لجأوا
إلى الهامش ونأوا بأنفسهم عن التقدير أو الشهرة والوجاهة برضا منهم واقتناع وسلامة
نفس، فإن العيش في الهامش كان في الغالب مفروضا على ملامتية هذا الكتاب بفعل ما
ذكرناه سابقاً من عيوب في واقعنا أبرزها قصور المؤسسة وانعدام تقاليد الرعاية
والإنصاف في مشهد ثقافي ضعيف تتساند أركانه على مشهد وطني هش ومخلخل طوال الوقت،
وفي حين يتبين لنا أن بعض من تناولناهم قد عاشوا في الهامش ملامتية غصباً عنهم
وبقرار سياسي نتيجة موقفهم من المؤسسة الرسمية أو موقف المؤسسة منهم، فإن البعض
الآخر قد عاشوا حالاً أسوأ لأنهم همَّشوا تهميشاً مركَّباً، فهم أبناء هوامش
جغرافية أو هوامش سياسية في الوطن لم يخرجوا منها، وهي بطبيعة الحال أكثر فقراً
وأقل إمكانات من المراكز ثم هم يشتغلون على مواضيع تتواطأ المؤسسة الرسمية بوجوهها
المختلفة مع بعض المتسلطين في المشهد الثقافي على استبعادها قصداً بذرائع لا تعلن
لكنها، تخبر عن نفسها في الأفعال والممارسات لذلك فإن من يتموضعهم الكتاب من هذا
النوع كانت ملامتيتهم أكثر قسوة لأنها مضاعفة ولأنها تتم غصباً عنهم، مع أن شعورهم
بوجعها كان أقل ثورية من شعور ملامتية المركز، والسبب أن ملامتية المركز يحتكَّون
يومياً بمصادر الاستفزاز ومثيرات النقمة في الفعاليات التي تقام أكثر ما تقام لغير
مستحقيها وفي السفريات التي يتحكم مزاج المؤسسة في الاختيار لها،وفي الوظائف
والمناصب والترشيح للأعمال، وغير ذلك، مضافاً إليه أن مفاعيل التهميش الواقع عليهم
هو موضوع دائم لمثاقفاتهم، وحاضر في كل حوار يدور بينهم، في حين يبقى ملامتية
الهوامش الجغرافية بعيدين عن هذه المثيرات. لذلك تكون ثورتهم قليلاً لأنفسهم
وكثيراً للجغرافيات المهمَّشة التي يعيشون فيها، فوجع تهميشها عندهم أوضح وأعلى
صوتاً من وجع تهميشهم، إنهم يتلاشون في مواجع أمكنتهم وذلك يجعلهم ملامتية ثلاثة
أضعاف وما أكثر من ماتوا منهم ملامتية منسيين ومحرومين من كلمة إنصاف تخفف من وطأة
التجاهل والنسيان.
-ماذا عن مفاتيح الأدراج؟
مفاتيح الأدراج يحمل نفس الهم الفارق أنه يحتفي
بمجموعة من الاصدارات الخاصة بالسرد لكنه لا يخلو من حرارة التقديم والتحيز بغية
رفع ما أراه حيفاً وظلماً يطال المبدع اليمني على الدوام تحيزاتي للنصوص ورغبتي في
الاحتفاء بها غير خافية؛ بل هي ظاهرة بيّنة ولا مجال لنكرانها، فليس صحيحاً أنني
كتبت هذه المقاربات بوصفي ناقداً يحمل أدواته ومناهجه ويتقدم إلى النص بدم بارد،
لقد كتبتها – على تباعد فترات الكتابة – بمحبة وحماسة، بروح هاوٍ يرغب في التعلم،
وشعور طاغ بضرورة ما أكتبه بوصفه واجباً تحتّمه احتياجات المشهد الثقافي الأدبي
بمقدار ما يحتمه حبي لهذه العوالم ورغبتي في الاستمتاع بمباهجها المدهشة.
سنخرج من الجانبين البحثي والنقدي لنقف مع
الابداع، "أحمد نشمأزمنة الفارس ومآثره"؟؛ إنها مجموعتك الشعرية السابعة
أين تضعها في سياق مشروعك الشعري؟.
أحمد نشم يختلف اختلافاً كلياً عن تجاربي في
المجموعات السابقةلقد ارتكزت مجموعاتي الخمس الأولى "الوردة تفتح
سرتها"، "اشراقات الولد الناسي"، "راتب الألفة"، كطغناء
في مقام البعد" و"كتاب الجنة" على التصوف لغة ومعمجاً وعوالم موحية
تتماهى في جانب العاطفة وحضور الأنثى واستكشافات الذات والوجود، فيما مثلت
المجموعة السادسة "يد في الفراغ" حالة قطيعة إلى حد كبير مع المجموعات
السابقة عليها إذ فيها احتفاء بالتفاصيل الحياتية وتوجس في الشعر نفسه وفي
الأصدقاء وفيها اعترافات بالارتكاس في وهدات الواقع الصعب، وفيها تأملات وجودية
فرضتها أحداث مابعد 11 سبتمبر 2001م ثم حرب العراق وغير ذلك كان النضج العمري
وبداية تخطي عتبات الشباب وفوراناته واضحا فيها،فقد تخلت عن الشبق الروحي ومالت
للهدوء وكان يفترض أن تليها مجموعة مخطوطة تحمل حتى الآن عنوان "نحن البشر"
وهي مجموعة مقطرة من جهة وتنعكس فيها ويلات الذات وويلات الوطن منذ 2011م مروراً
بالحرب التي تحرق اليمن منذ أربعة أعوام وتجربة الشتات والمنافي التي أعيشها، لكن
رحيل أبي في يناير 2018م، وهو لم يكن أبا عادياًوقد تحول رحيله إلى حالة شعرية لا
تتوقفوخلال الشهور التالية لرحيلة كانت مجموعة "أحمد نشم أزمنة الفارس
ومآثره" جاهزة وهي تجربة مختلفة.
كيف انكتبت المجموعة؟
المجموعة كانت هيجانات عاطفية متدفقة اجترحت نفسها
بنفسها عبر نثرية غنائية شفيفة كأنها الدموع والآهات والشجون نفسها، لكنها استدعت
عوالم أبي مجالسه وخيله وثيرانه وأراضيه وأطيانه واستدعت أصدقاءه وأسلحته ومكانته
ومشيخته، فاستدعت معجما كاملا من الألفاظ الخاصة والعبارات ذات الدلالات الشعبية،
حتى التصوفحضر بأسلوب آخر مختلف، وفيه استفادة من تقنيات المعزى أسلوب النساء في
بكاء موتاهن في اليمنإنه عمل حبيب إلى نفسي أعتز به كثيرا.