الثلاثاء 4 يونيو 2024

فى الكواكب منذ 25 سنة .. أحاديث وذكريات كتبها عبدالحليم

2-4-2017 | 10:15

بقلم : عاطف مصطفي

كانت الكواكب من أولي المجلات العربية التي تنبأت للفنان الراحل عبدالحليم حافظ بالمجد والشهرة وتحققت هذه النبوءة بالفعل فنجد أنها قدمته في عدد الموسم في 17 نوفمبر 1953 ضمن الوجوه الجديدة التي تنبأت لها بالمستقبل العظيم والانطلاقة في عالم الفن والغناء وقد نشرت الكواكب في باب «وجوه جديدة» نص هذه العبارة أن مشكلة البحث عن وجوه جديدة قد أزصبحت مشكلة مزيفة، فالمخرجون لا يجرءون علي إظهار الوجوه الجديدة والمنتجون يفضلون اصحاب الوجوه القديمة الذين اكتسبوا الشهرة تضمن لأفلامهم النجاح المؤكد والوجوه الجديدة في الحقيقة تملأ السوق ولكنها لا تجد الأيدي التي تمتد لتلتقطها وتقدمها للجمهور و في العام الماضي رأت الشاشة بعض هذه الوجوه التي شاء لها الحظ أن تظهر رغم كل شيء.

وعلي الرغم من الاهتمام الشديد من جانب الكواكب بالوجوه الجديدة في ذلك الوقت فإنها أفردت صفحاتها للنجم الصاعد عبدالحليم حافظ ليكتب علي صفحاتها من حين لآخر يتحدث عن بداياته الفنية وعشقه للموسيقي والمعاناة التي صادفها في أوائل عمله في السينما وقصة ألحانه الأولي التي أعجب بها الجمهور وبعض الطرف والنوادر التي صادفته في حياته.. تلك المقالات التي كتبها عبدالحليم في الكواكب نعتز اليوم بنشرها لكي يعرف الجيل الجديد الذي يحب عبدالحليم حافظ الجوانب الكثيرة التي أهتم بنشرها في الكواكب بعنوان «صنع مستقبلي حادث مشئوم» كتب عبدالحليم حافظ:

كان حادثا مشئوما لزمت الفراش بعده بسبعة أشهر كاملة أتكلم بصعوبة ولا أتحرك ورغم هذا فقد تركت المستشفي لأسير في طريق جديد كان في نهايته ميكرفون وقفت لأغني أمامه...

لم أكن وأنا في التاسعة من عمري أقلد المطربين وأثير الإعجاب بهذا التقليد لم أكن أتصور أنني سأصبح مطربا فقد كانت أسرتي وأنا في تلك السن تحرص علي أن توجهني لأكون طبيبا أو محاميا أو مهندسا لأنها - أي أسرتي- وجهت شقيقي «إسماعيل شبانة» إلي معهد فؤاد للموسيقي ليكون بعد ذلك مطربا ولم يكن في نيتها أن تتركني أحذو حذوه..

وكان أخي إسماعيل يعلمني ما يعلمونه في المعهد وبهذه الطريقة استطعت أن أكون رئيس فريق الموسيقي في المدرسة!

وحدث وأنا في السنة الرابعة أن كنت ألعب مع بعض أصدقائي في بيتنا وسقطت من الدور الثاني إلي أرض الطريق فكسرت ساقي..

ونقلوني إلي القاهرة لأعالج في أحد المستشفيات التي زودت باستعدادات خاصة لمثل حالتي الخطيرة وتجمع حول فراشي أطباء كثيرون وقالوا إنني سأمكث في الفراش سبعة أشهر كاملة وساقي في الجبس ولم يكن هناك مفر من أن أقبل هذا الحكم في سبيل الشفاء!

وفي القاهرة كان أخي إسماعيل يجئ لزيارتى في المستشفي كل يوم.

ومضت الأسابيع والشهور ولم يبق علي خروجي من المستشفي إلا أسبوعان حين جاء أخي إسماعيل يقول إنه قدم لي طلبا لالتحق بمعهد الموسيقي لأنه لاحظ شغفي بها وتأكد له أنني لن أرفض أن أختار أن تكون مستقبلي والحقيقة أنني فرحت وأحسست إنني أريد أن أقفز من فراشي وجاءت الأسرة من الزقازيق لزيارتي فتولي إسماعيل اقناعها بما فعل ورحت أنا أرقب النقاش في لهفة واستطاع إسماعيل أن يكسب تأييدهم لنا...

ومكثت في معهد فؤاد للموسيقي ثلاث سنوات ثم التحقت بالمعهد العالي للموسيقي المسرحية فرسبت في امتحان القبول ولم أفقد الأمل بل تقدمت للالتحاق مرة ثانية ونجحت..

وفي المعهد العالي تعرفت علي زميلي كمال الطويل والحقيقة أن كمال الطويل مهد لي سبلا كثيرة فقد سمع صوتي وقال إنني سأصير مطربا ثم اسمعني ألحانه التي يضعها بنفسه فقلت له إنه سيكون موسيقارا..

ثم تخرجنا في المعهد وعينت مدرسا للموسيقي في طنطا وانتقلت من طنطا إلي الزقازيق ثم سعيت لانتقل من الزقازيق إلي القاهرة.. وفي اليوم الأول الذي جئت فيه إلي القاهرة ذهبت لاسلم علي صديقي كمال الطويل وكان قد عين في محطة الإذاعة ووجدته في لجنة لسماع الاصوات الجديدة ولكنه قرأ البطاقة التي ارسلتها له فأسرع ليستقبلني ويدخلني لاعضاء اللجنة ويقول لهم «عبدالحليم شبانة سيغني لكم»

واعتقدت أنه يضحك ولكن ألح فغنيت.. واستعادوني مرة ثانية وثالثة واجمعوا علي الاعجاب بي...

وهكذا وقفت أمام الميكرفون كان السبب حادثا مشئوما وضعني علي أول طريق وجدت في نهايته ميكرفوناً.

ولم تكن كتابات عبدالحليم حافظ في الكواكب تتناول الجوانب المأساوية في حياتي الألم ، المرض، ثم صعود نجمه ووصوله إلي أمنيته في الحياة في أن يصبح مطربا معروفا فشغفه عظيم للموسيقي وحبه لها طغي علي كل شيء في حياته منذ كان طالبا بالمدارس الابتدائية نراه يكتب في الكواكب مقالا طريفا في رمضان 1373 الموافق مايو 1954 يقول فيه بعنوان «البحث عن اللغة الذهبية» كانت أزمة «قمر الدين» في العام الماضي علي أشدها وكان السعيد المحظوظ هو الذي يستطيع الحصول علي لفة .. لفة واحدة ..

كنت قد ذهبت إلي الموسكي لاشتري حاجيات رمضان برفقة شقيقي المطرب إسماعيل شبانة وركبنا سيارة أجرة من البيت وطلبنا إلي سائقها أن ينتظرنا حتي نفرغ من شراء ما نحتاجه ومررنا ببائع التين والقراصيا واللوز والجوز والبندق وسألت كل محل دخلته عن لفة قمر الدين فكانوا جميعا يجيبوني بعبارة واحدة يبدو أنهم اتفقوا عليها «ياريت»

وقابلت بطريق الصدفة أحد الاصدقاء فقال لي إنه يعرف تاجرا يبيع قمر الدين للاصدقاء والمقربين وأنه يستطيع ان يضعني في قائمة المحظوظين عند هذا البقال وسمع سائقي التاكسي حواري مع الصديق فسأله قائلاً: مش ممكن أن آخد لفة كمان» فقال له ضحاكاً «والله مش ممكن».

وذهبنا إلي البقال وقدمني إليه الصديق فقال لي إنه يحب الفن والطرب وأن هذه المسوغات الوحيدة التي سيعطيني بناء عليها لفة القمر الدين وأخفيت اللفة كما يخفي المهربون الحشيش ووضعتها في التاكسي في رعاية شقيقي وأكملت جولة السوق وعدت إلي البيت ووضعت يدي في جيبي لاعطي السائق أجره ولكني لم أجد المحفظة وتذكرت أن أكثر من واحد قد احتك بي في شارع الموسكي وطلبت إلي شقيقي أن يدفع الحساب فقال لي «انت مش واخد كل الفلوس» وخشيت أن استقل التاكسي لاذهب إلي أحد الاصدقاء فلا أجده فيتضاعف الموقف الحرج وأخيرا اهتديت إلي حل قلت للسائق «خد الكرت بتاعي وتعالي بالليل» فقال بعصبية «لا يا أفندي إلعب غيره» وآلمتني طريقة الاعتراض فوقفت برهة أفكر ثم قلت له «طيب تاخد اقتين لوز أو جوز أو قراصيا اللي يعجبك» فقال لا يا أفندم ما يلزمش» وكانت في عينيه نظرات ذات مغزي فهمتها علي الفور كان يرغب في لفة قمر الدين ولكنها كانت عزيزة علي وفكرت في طريقة أهون في الخروج من المأزق فلم أجد وأخيرا وفي يأس قلت له «تاخد لفة قمر الدين» فقال «بكل ممنونية» وأخذها وانصرف ومعه احشائي المتلهفة علي اللفة النادرة..

وتتوالي كتابات عبدالحليم حافظ في الكواكب وكل مقالة تحمل طابعاً أخاذا مليئا بالإثارة والدهشة فقد كان تناوله جميلا واقعيا يروي فيه الوقائع التي تحدث له وهو المطرب الصاعد المغمور الذي تلاحقه المعجبات في كل مكان يذهب إليه ونراه في مقال بعنوان «قصص حائرة في حياتي» يقول:

لقد قلت للجميع إنني مخلص لحبي الأول وأن عهد الوفاء له أقوي من أن يدعني ألين لنظرة أو ابتسامة واخترت أن أضع بنفسي نهايات قصص بدلا من أن اتركها للاقدار.

الأولي رقيقة العود ذهبية الشعر ورقيقة النبرات وحلوة اللفتات يبدو أنها تلميذة مدرسة جاءت ذات ليلة لتصافحني وكنا وراء الكواليس في أحد المسارح وقدمت لي «أوتوجرافا» لأوقعه ووقعت الصفحة الأولي لأنني وجدت كل صفحاته بيضاء.

وقرأت العبارات التي كتبتها وهي عبارة تقليدية عن التمنيات وما يناسب المقام وأحسست أنها تريد أن تقول شيئا لكنها خرجت مسرعة ولم يشغل الأمر من تفكيري شيئا إلا حين عادت الفتاة في الليلة التالية ومعها نفس «الاوتوجراف» وطلبت مني أن أوقعه ووقعت الصفحة الثانية وسألتها:

«لماذا لم يوقع أحد غيري» فأجابتني قائلة « لأني لسه ما قابلتش حد من الفنانين» والذي يثير الدهشة أنها جاءت في الليلة الثالثة وطلبت مني أن أوقع علي الصفحة الثالثة وقبل أن أفتح فمي بسؤال قالت لي «ما تحاولش تسألني عن حاجة .. أنا جبت الاوتوجراف علشان تمضيه إنته كله..

قلت لها وأنا اضحك طيب أمضيه كله دلوقت وأريحك من المشاوير.

فقالت: غاضبة محنقة «يعني مش عايزني آجي علشان أشوفك» وقبل أن اجيبها ولت هاربة!

أنني أراها كثيرا وهي تحاول الاقتراب مني بل تنظر إلي من بعيد لبعيد وكلما حاولت أن اتحدث إليها لأزيل ما علق بنفسها من غضب أسرعت وأفلتت أريد أن أقول لها إني أحب وأن لي حبيبا لن أنساه أحب الفن واحب بناء مستقبلي أولاً.

والثانية مجنونة من بورسعيد لتسمح لي أن أصفها بمجنونة فالذي فكرت فيه ليس علي الاطلاق من بنات افكار عاقلة كنت أغني في مسرح الإذاعة وكانت الاغنيات تسجل ليلة نغني ثم تذاع في الليلة التالية وقد علمت فتاة بورسعيد أنني أغني في المسرح العائم فتحدثت إلي مدير الإذاعة وطلبت إليه أن يوصل إليها اغنياتي عن طريق التليفون وهي علي استعداد لأن تدفع كل تكاليف المكالمة وحولها المدير إلي المذيع المختص فأفهمهما الأخير أن من المحال أن تسمع عبدالحليم وهي في بورسعيد وقال لها أن تنتظر إلي اليوم التالي لتسمعني في الإذاعة ولكنها أصرت وألحت وإزاء الاصرار والإلحاح اقفل المذيع السكة!

وبحثت عنى «المجنونة» في نقابة الموسيقيين ونقابة الممثلين ومكاتب الإذاعة.. ولم تجدني وذات ليلة وقبل أن ابدأ الغناء في المسرح العائم تلقيت برقية طويلة روت لي فيها المجنونة ما فعلت لكي تسمعني واستحلفتني أن اسعي لدي المسئولين لتسمعني في تلك الليلة بالذات ولكني لم استطع أن أفعل شيئا وفي اليوم التالي تلقيت برقية أخري كل كلمة فيها تقع تحت طائلة قانون العقوبات في مادة القذف.

أرجو لها وقتا طيبا وعقلا راجحاً..

والثالثة قابلتها علي الشاطئ كنت في الإسكندرية ذات صيف وأنا اعتمد علي أن الناس لا يعرفونني لأني لم أظهر علي الشاشة بعد هذا عدا من رآني علي المسرح وعلي هذا فأنا استمتع بالبحر دون أن يلتف الناس حولي كما يفعلون مع المشاهير من نجوم السينما.

وكانت هي في الكابينة المجاورة لا تنزل إلي الماء ولا تترك من يدها الكتب ولها تأملات طويلة يخيل إلي أنها تنسي فيها كل شيء حولها.

وكانت لا تعرفني وناداني أحد اصدقائي باسمي كاملا ذات يوم وسمعت عن الاسم فتلفتت ورأيتها تبتسم للمرة الأولي منذ رأيتها واختفي صديقي في الكابينة ووجدتها تترك الكتاب وتغادر المقعد وتسألني.

- أنت عبدالحليم حافظ؟

- أيوه

ووقفت حائرة لا تجد ما تقول

فقلت لها وأنا أشير إلي مقعد:

- اتفضلي اقعدي

فقالت: «لا ... أنا راجعة علشان أقرأ القصة»

وتركتها تعود أدراجها وبعد دقائق جاءت اختها الصغيرة تحمل خطابا رقيقا تعرض فيه جارتي الصداقة البريئة واجبتها في خطاب آخر إنني أحب وأن لي حبيبا لن أنساه أحب الفن.. وأحب بناء مستقبلي أولاً..

ولم أعد أراها بعد ذلك فقد اختفت من علي الشاطئ بكتابها ومقعدها وتأملاتها الطويلة.

ولي من بين المعجبين بي اصدقاء أعزاء

لي صديق من سوريا تحدث إلي الآنسة سامية صادق المشرفة علي برنامج ما يطلبه المستعمون وقال لها «أنا عاوز عبدالحليم حافظ».

فسألته: عاوز أنهي أغنية له:

قال «عاوزه هو شخصيا» وأمام إلحاحه قدمته لمن يعطيه عنواني وجاء يحمل لي هدية فاخرة كتاب من شعر الغناء للخيام ورامي ومجموعة من الشعراء..

وعندي معجب صعيدي أنه يقول إنه معجب بصوتي كتابا سيزداد إعجابا به لو أنني غنيت له بالصعيدي وهو ثري ذو مال وضياع وقد عرض علي أن أكون مغنيا خاصا له وسيضمن لي مرتبا شهريها ويزوجني ويورثني وهو الآن يعتقد أنني نسيبه المنتظر وعريس الغفلة الذي وضعه في جيبه ولكنني أقسم لكم أنني أحببت الفن ولن أرضي بسواه فتاة.. قلب.. أو زوجة.. عش جميل صوتي وقال إنني سأصير مطربا هكذا كان فناننا الراحل عبدالحليم حافظ محبا لفنه فقط وظل هكذا طوال حياته راهبا في محرابه... يعطي من صحته يعطي بسخاء يسعد الملايين ويطربهم مخاطبا أرق مشاعرهم مضيفا ألوان الحب والجمال والبهاء.

العدد 1343 - 26 أبريل 1977