بقلم – د. صفوت حاتم
أكتب هذا المقال وأنا فى سباق مع الزمن.. قبل أن يصدر قانون التأمين الصحى الجديد وبه من الثغرات والفجوات ما يجعله إصلاحا شكليا لا يستفيد منه غير «القادرين» من الفئات الفقيرة والمتوسطة.
وأخشى.. ما أخشاه..أن يصدر القانون فتستفيد منه فئات محددة من أصحاب المستشفيات الخاصة أو سلاسل الصيدليات الكبرى.
حكايات من الواقع:
حكاية ١:
ظاهرة بدأت تتصاعد فى الشهور الفائتة.. قدوم عدد لا بأس به من المرضى لعيادتى بالتأمين الصحى.. معظمهم من أرباب المعاشات.. الذين انهارت قدراتهم الشرائية بسبب تعويم الجنيه ورفع أسعار الأدوية لثلاثة أضعافها قبل التعويم.
يبدأ المريض بشرح حالته الطبية.. ثم يختمها بعبارة: لقد ذهبت للطبيب الفلانى فى عيادته.. وكتب لى هذه الأدوية.. ولكن مع ارتفاع أسعار الأدوية لم أعد قادرا على شرائها..بالمعاش الضئيل الذى أحصل عليه!!!
ويطلعنى المريض على «روشتة أدوية» متنوعة..لمرض واحد من أمراضه.. فإذا هى تتجاوز الألف أو الألفين من الجنيهات فى الشهر الواحد..ولمرض واحد!!
وأبدأ كطبيب مسئول عن حياة مريضه فى تقييم «روشتة» الطبيب الزميل.. والبحث عن أى مخرج لمساعدة المريض فى توفير ما يمكن من الأدوية القليلة المتاحة لى فى صيدليات التأمين الصحي.. وأحيانا أضطر مرغما على سؤال المريض عن قدرته على شراء نفس الدواء من التأمين الصحي.. حيث يساهم التأمين الصحى فى دعم بعض الأدوية الموجودة بالصيدليات الخاصة بنسبة قد تصل إلى خمسين أو ستين فى المائة من سعرها.. لكى أوفر على المريض أى تكلفة مالية.. قد تساعده فى شئون حياته.
ملحوظة: عندما أشعر بحرج المريض أو تردده فى الإجابة.. أضطر أن أكتب له ما يعينه فى مرضه.. بقدر ما تتيحه لى صلاحياتى وإمكانيات التأمين الصحى «غير الكافية».
حكاية ٢:
كثيرا ما يقصدنى بعض الأصدقاء لمساعدتهم فى إيجاد دكتور مناسب لأطفالهم أو معارفهم الذين لا يملكون أى قدرة مادية على العلاج الصحى.
وتبدأ رحلة مضنية للبحث فى قائمة الأصدقاء من الزملاء الأطباء الذين يمكنهم من خلال تخصصاتهم ومبادراتهم الإنسانية مساعدة هؤلاء المرضى بما يملكون من قدرات مهنية أو وظيفية تتيح لهم المساعدة.. وننجح أحيانا.. ونفشل فى أكثر الأحيان !!
وهو ما يملأ الروح إحباطا وحزنا..بل وضيقا من الإحساس بالفشل والعجز.
ليس سهلا على النفس أن ترى طفلة تحتاج لعلاج خاص بسرطان الدم.. وهى تتردد.. لمدة سنتين.. مع أسرتها على كل العيادات والمراكز الطبية المتخصصة..دون جدوى.. رغم التدخلات الشخصية والمبادرات؟؟!!
هل يجب أن تستمر هذه الأوضاع؟؟!!
وما جدوى مهنتنا مادام العجز والفشل يكلل جهودنا؟؟!!
وهل العلاج الطبى لا يتوفر إلا للقادرين ماديا أو لهؤلاء الذين يملكون علاقات خاصة تمكنهم من حل بعض مشاكلهم الصحية؟؟!!!
هذا وضع غير مستقيم.. ويجب أن يزول.
وقد عالجت الأسبوع الفائت بعض الإشكاليات والعوائق التى قد تعترض تطبيق القانون الجديد ليصبح شاملا لكل المصريين.. القادر وغير القادر.. بشكل يضمن الحد الأدنى من العناية الصحية للجميع دون افتئات لطبقة على طبقة أخرى.
مشكلة الموارد الخاصة بالتأمين الصحى
لا يمكن إنكار أن تأمين موارد مناسبة للتأمين الصحي، هو الإشكالية المحورية التى ستحدد نجاح أو فشل النظام الجديد.
وقد تم فعلا إقرار رفع نسبة مشاركة بحيث أصبحت تشمل الزوجة بنسبة ١.٥ ٪ وأن تكون نسبة المشاركة عن كل طفل من الأبناء بين ٠.٥ ٪ و ٠.٧٥.
وهى بالفعل نسبة ليست كبيرة من دخل أى عامل.. خصوصا وأن مصممى المشروع..يقدمون مبررا منطقيا لذلك هو تحسين ورفع الخدمة الصحية لكل أفراد الأسرة.
وهو مبرر منطقى من الناحية النظرية.. ولكن ما أخشاه أن يتحول ذلك إلى مبرر وهمى ترتفع معه مشاركة المنتفعين وتظل الخدمة متردية «عمليا ».. ولنا فى قانون رسوم «القمامة» التى أضيفت على فواتير الكهرباء.. وتدهورت خدمة رفع القمامة مع استجلاب الشركات الأجنبية..وتحول رسم «القمامة» إلى إتاوة وجباية للمواطن تقوم به الدولة..دون خدمة حقيقية.
موارد جديدة
وضمن الاقتراحات التى قدمت لزيادة موارد التأمين الصحى.. اقتراح باستقطاع نسبة من الضرائب والجمارك المفروضة على بعض السلع التى تشكل خطرا على الصحة كالسجاير والخمور.. وذلك مشروع.
ولكن حتى هذه اللحظة تبدو أن هناك مقاومة لإضافة مصادر جديدة.. ولا نعلم سببا مقنعا لهذه المقاومة.. رغم أنها مصادر مشروعة..وستمد خزينة التأمين الصحى بموارد «معتبرة ».. مثلا:
رسوم الطرق السريعة
١- استقطاع نسبة معقولة من رسوم المرور على الطرق السريعة.. تستقطع من دخل هذه الطرق.. لصالح التأمين الصحي..بغرض إنشاء وتطوير خدمة الإسعاف على الطرق السريعة.. بحيث إن المدة بين الإبلاغ ووالوصول لمكان الحادث لا يجب أن تتعدى خمس دقائق.. ولن يحدث هذا إلا بتعدد مراكز الإسعاف على الطرق.. بل والاستعانة «بالإسعاف الطائر ».
وإذا كانت رسوم المرور على الطريق الصحراوى قد بلغت عشرة جنيهات.. فلا أقل أن يكون هناك مساهمة للتأمين الصحى جنيها أو جنيهين.. فصيانة حياة الإنسان على الطريق مهمة كصيانة الطريق ذاته.
٢- تراخيص السيارات ورسوم التأمين الإجبارى على السيارات
نعلم جميعا أن مصر تأتى فى مقدمة الدول التى تعانى من حوادث السيارات.. وما يعنيه هذا من ضغط على أقسام الطوارئ وخدمات الإسعاف.
لذلك يبدو مشروعا أن تذهب نسبة من رسوم ترخيص السيارات والمخالفات لصالح التأمين الصحى.
وبصراحة: كلنا نتساءل عن الجدوى العملية «للتأمين الإجبارى «على السيارات والمركبات.. وكيف يتم إنفاقها أو تعويض الضحايا فى حالة الحوادث.. وكم تربح شركات التأمين من هذه «الإتاوة» التى تحصل عليها من كل سيارة ومركبة ؟؟!!
وبغض النظر عن مدى منطقية هذا «التأمين الإجبارى» الذى تحول لحق شكلى تنتزعه الدولة أو تنتزعه شركات التأمين..
لكننا فى الواقع لا نلمس فائدته العملية..ولا نعلم جدواه الحقيقية.
لكن.. وعلى كل حال..يجب استقطاع نسبة من رسوم «التأمين الإجبارى» على المركبات..لصالح التأمين الصحى لتعظيم موارده ولتحسين خدمته.
المحاجر والمناجم والصناعات الملوثة للبيئة.
٣- استقطاع نسبة من رسوم المحاجر والمناجم ومصانع الأسمنت والسيراميك والصناعات الكيميائية التى لها آثار على البيئة وصحة الإنسان.. أو تترك مخلفات ملوثة للبيئة.
وهنا أحب أن أقول إن دخل المحاجر يقوم على ما يسمى نظام «الإتاوة» للقطاع الخاص.. وبأسعار تنتمى لعام ١٩٥٦ وقت صدور القانون.. والواضح أن الدولة لا تستفيد بإمكانياتها المحجرية والمعدنية بشكل سليم.. والمستفيد الأول هو «معلمو القطاع الخاص «وصناديق المحليات فى المحافظات.
أيا كان وضع هذه «الثروة العامة» الآن..فيجب أن يكون هناك رسوم عليها تستقطع لصالح التأمين الصحى.
مصير الوحدات الصحية ومستشفيات الدولة
يفترض القانون الجديد رفع مستوى الخدمة الصحية..مقابل رفع نسبة الاشتراك بالنظام الجديد..
وهذا يطرح سؤالا: كم من الزمن سيحتاج النظام الجديد ﻹعادة تأهيل الوحدات الصحية والمستشفيات التكاملية من حيث الأبنية والأجهزة والكادر الطبى من أطباء وتمريض وإداريين حتى تتمكن من أداء الخدمة الصحية المناسبة؟؟!!
كم من السنوات نحتاج لإعادة التأهيل والإنشاء؟؟!
على هذا السؤال يجيب رئيس هيئة التأمين الصحى الدكتور «على حجازى» فى عدد مجلة المصور بتاريخ ٢٩ مارس ٢٠١٧: أن النظام سينفذ على ست مراحل قد تحتاج من ١٠ إلى ١٢ سنة ».
والسؤال: من هنا وحتى عشر سنوات أو ١٢ سنة.. كيف سيتم استيعاب كل المصريين المؤمن عليهم فى الوحدات الصحية القائمة فعليا؟؟!!
فإذا علمنا أن أحد مبررات ودوافع النظام الجديد منع التكدس وتقديم خدمة صحية مناسبة والقضاء على قوائم الانتظار الطويلة فى مستشفيات الدولة.
وفى ظل القصور العددى والكيفى لهذه المنشآت فى الوقت الحالي..فإن ذلك يعني..بالضرورة..دخول القطاع الخاص.. لتقديم الخدمة الطبية للمواطنين.
وهنا مربط الفرس!!
هل سيتم تقييم مستوى الخدمات فى منشآت الدولة بنفس المعايير التى يتم بها التعامل مع القطاع الخاص؟؟!!
وكيف يمكن خلق منافسة شريفة بين القطاعين..منافسة لا تعتمد على وسائل الواسطة والمحسوبية والرشوة.. فتذهب أموال الشعب للقطاع الخاص..وتتحول منشآت الدولة الصحية «لخرابات» تعيث فيها البيروقراطية والإهمال والفساد؟؟!!
أنا لست ضد القطاع الخاص.. على العكس أنا مع دخوله وتشجيعه للدخول فى مجال الصحة.. وهو ما يحدث منذ سنوات وبنجاح مع المستشفيات والمستوصفات الخيرية.. والتى تمتص جانبا مهما من المرضى بأسعار معقولة..مقابل خدمة صحية معقولة...
رغم أن بعضها كان يعمل لصالح بعض الجماعات الدينية ولأهداف سياسية.. لكن ينبغى الاعتراف أنها جذبت قطاعا واسعا من المصريين من الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة.. وبخدمة أعلى من بعض الوحدات الصحية التى يمتلكها التأمين الصحى الحالى ووزارة الصحة.
قانون المنشآت الصحية
هذا يقتضى إعادة النظر فى القوانين التى تنظم تراخيص إنشاء وحدات صحية قديمة وجديدة لتشمل القطاعين العام والخاص..وإزالة العقبات الموجودة بالقانون الحالي.. والتى نعلم أن المستفيد منها دهاليز الفساد الإدارى فى وزارة الصحة.. والفساد المتراكم فى المحليات والذى لا يترك أى نشاط تجارى أو مهنى دون أن يضع «ختم الفساد» عليه.
وإذا كانت الدولة تتكلم ليل نهار عن تسهيل إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة..فذلك يعني..ضمن ما يعني.. تشجيع المشاريع الصحية الصغيرة والمتوسطة من مستوصفات وعيادات مشتركة ومعامل تحاليل ومراكز أشعة صغيرة ومتوسطة..
وتشجيع البنوك على الإقراض..وتسهيل الحصول على التراخيص لكى تدخل الخدمة فى القرى والمدن بأسرع وقت والمشاركة فى تحمل أعباء الخدمة الصحية.. فأخشى ما أخشاه أن يتحول النظام الجديد إلى عملية نهب جديدة لمقدرات الدولة لصالح القطاع الخاص..كما حدث من قبل مع قوانين «الخصخصة» لشركات الدولة.. أو كما حدث مع ثروة مصر العقارية التى استفاد منها «المحاسيب».. أو أن يتحول القانون إلى مجرد «جباية «جديدة..وتبقى الخدمة الصحية متردية..كما حدث مع قرار «رفع القمامة «بواسطة الشركات الأجنبية.. أو أن يصدر القانون «مسلوقا» مملوءا بالثغرات والفجوات..نكتشف بعدها أننا لم نغير شيئا..كما حدث مع قانون المرور الذى تم تعديله ثلاث مرات فى عشر سنوات!!
قانون التأمين الصحي.. سيتوقف على نجاحه وقف الحلقة الشيطانية التى تمنع كثيرا من المصريين من الحصول على خدمة طبية إنسانية ومعقولة.
لذلك يجب أن يهتم كل المصريين والمثقفين بمناقشة هذا القانون قبل صدوره فى حوار مجتمعى رشيد..بعيدا عن الشعارات والمزايدات.
فالعلاج حق للإنسان.. وليس تسولا!