السبت 15 يونيو 2024

عذابات وآلام وآمال

6-4-2017 | 11:50

بقلم – نجوان عبد اللطيف

كان والدى من رجال هذا الزمان الذين لا يحبون الذهاب للطبيب، عاش حياته معتمداً على كل ما هو طبيعى، يقطر فى عينيه الليمون يومياً، يتناول العسل بالليمون كل صباح كمضاد حيوى طبيعى، يشرب اللبن الساخن قبل النوم، ويعتمد على الكركديه فى تظبيط ضغط الدم، ومشروب الينسون والنعناع لتهدئة المعدة، يمضى على طريق الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقسم معدته إلى ثلاث: ثلث للطعام وثلث للشراب والثالث فارغ للراحة.

لا يحرم نفسه من نوع من الطعام ولكن كله بمقدار، ويعتبر المشى هو أفضل وسيلة للوصول إلى مشاويره، ويعمل بكد دون أن يضع السن فى اعتباره، كان محاسباً مشهوداً له بالخبرة والتميز ولكنه سعد كثيراً حين يدعو المحاسبين الصغار إلى مباراة فى العمليات الحسابية هو بعقله المجرد وهم بالآلة الحاسبة، وكان يتفوق عليهم دائماً فى السرعة والدقة.

مرض والدى وهو على مشارف الثمانين بسرطان البروستاتا وأجبرناه على الذهاب إلى الأطباء، وكان العلاج الذى تم إقراره هو العلاج “بالكوبالت” أو بالإشعاع وذهبنا إلى طبيب من أهم الذين يعالجون بالإشعاع “د. محسن برسوم” سليل عائلة برسوم الشهيرة بالتفوق فى مجال الطب، والذى رأى أن والدى لابد أن يأخذ عدداً كبيراً من الجلسات، واختار د. محسن معهد الأورام لإجراء هذه الجلسات، لأن الأجهزة هناك هى الأكثر حداثة وأنه سيشرف بنفسه على علاجه، وشرح لى أن المشكلة الوحيدة هى الانتظار، ولا يمكن تخطيها، وعلى الذهاب مبكراً لحجز مكان حتى يأتى والدى على الموعد المحدد.

ذهبت إلى معهد الأورام وأنا متوجسة، على باب المعهد هالنى مشهد المرضى وأهاليهم المنتظرين على السلالم وأمام المعهد سيارات “بيجو” الشهيرة فى الأقاليم فى ذلك الوقت (فى التسعينيات) بعضها ملاكى أسيوط، والآخر من مرسى مطروح، وبنى سويف، والوادى الجديد.

فى المدخل المرضى والأهالى قعوداً وقياماً بل وبعضهم يفترش الأرض نياماً، أطفال وكبار رجال ونساء بالكاد وجدت مكاناً بجوار حائط فى الطرقة الطويلة اتكأت بظهرى ووقفت أرقب المكان، أستمع للمرضى الذين يجلسون متراصين بجوار بعضهم البعض، يتناقلون خبرات المرض والعلاج، القدامى يشرحون للأحدث عن مراحل العلاج، المريض الذى يستطيع تحمل آلام يفسح للمتألم أكثر ليجلس مكانه، حالة من الود ربما غير موجودة بين بعض الأهالى الذين يحاولون الحصول على ميزة ما، رأيت فى عيون المرضى تلك النظرة البعيدة التى تحدث عنها علاء الأسوانى فى إحدى قصصه التى تميز مريض السرطان حيث ينظر إلى المجهول..

الممرضات والموظفون فى المعهد ينظمون هذا الكم الهائل من المرضى فى كشوف هؤلاء للعرض على الطبيب وآخرون للعلاج الكيميائى وفريق لعلاج الإشعاع، ثم يتم التوزيع على الأقسام، الازدحام مستمر فى كل مكان فى الطرقات وعند الأبواب كنت أظن فى البداية أن ما أراه هو قلة نظام وعدم انضباط وهرجلة، وبعد وقت ليس بقصير أيقنت أن ما يحدث هو شبه معجزة، ليس من اليسير التعامل مع هذه الأعداد الغفيرة من المرضى البسطاء وأهاليهم الذين يعجزون أحياناً كثيرة عن الفهم لعدم تحصيلهم العلم ولقلة الخبرات ربما هى المرة الأولى التى يخرجون فيها من قراهم البعيدة إلى الحضر.

رأيت كبيرة الممرضات وهى تصرخ فى الحاضرين ليبتعدوا عن باب غرفة الطبيب حتي يتسنى لمن عليه الدور فى الدخول وانزعجت من قسوتها وبعد دقائق رأيتها وهى تحضر غطاء كثيفاً لتفرشه على الأرض لينم عليه أحد المرضى المتعبين!

عرفت أنه فى هذا المكان لا استثناءات، لأنه ببساطة لا يوجد إنسان مريض أو طبيب أو موظف يستطيع أن يتجاوز دور مريض آخر، من الصعب أن يتحمل أحد هذا العبء النفسى لتخطى دور هؤلاء المرضى الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة.

فى داخل غرفة الكشف رأيت كيف يحول الأستاذ الكبير العالم د. محسن برسوم هذه الغرفة إلى معمل تدريب وتعليم لعدد من النواب النابهين من الأطباء الشباب الأستاذ يكشف ويحدد المكان المفترض أن يتعرض له الإشعاع والأطباء يتلقون الدرس العملى بكل شغف وبإجلال ننتقل إلى حجرة أخرى للتجهيز، ثم نذهب للإشعاع، خطوات مدروسة وأطباء يعلمون جيداً أدوارهم، خلية من النحل تتحرك وفق أسس ونظم كل يعرف دوره المرسوم وينفذه بدقة، لا مجال للعبث الأستاذ الكبير يتحاور مع المرضى يتفهم ظروفهم، لا يبخل عليهم بالوقت رغم أنه يعمل ساعات طوال.

د. محسن برسوم الذى يعالج بالمئات بل ربما بالآلاف طلب منى “باعتبارى صحفية” أن أحاول مساعدة مريضة بالسرطان تتردد على المعهد بعد أن طلقها زوجها وألقاها في الشارع هى وأطفالها، لإصابتها بالمرض وعملنا سوياً لإيجاد شقة من محافظة القاهرة لعائشة، وتكفل الطبيب الكبير بفرش المنزل الكامل.

ورأيت طبيباً آخر يخرج من جيبه مائة جنيه لرجل قادم من الصعيد ليجد مكاناً يبيت فيه ليلة.. حتى يتسنى له استكمال علاجه في اليوم التالى. في معهد الأورام مرض وفقر وآلام وعذابات، وعلاج وتراحم وتكافل.. معهد الأورام كان ولازال الملاذ والملجأ والأمل الوحيد للفقراء من مرضى السرطان.