جاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المفاجيء بوقف مفاوضات السلام الحالية مع حركة طالبان، وإلغاء اجتماع سري غير مسبوق كان من المقرر أن يعقد في واشنطن مع عدد من قادة الحركة الكبار، ليطرح تساؤلات عدة حول مستقبل المشهد في أفغانستان، ومصير المفاوضات بين الولايات المتحدة وطالبان، التي كان يفترض أن تتوج بتوقيع اتفاق سلام تاريخي ينهي صراعا داميا استمر على مدى نحو عقدين من الزمان.
ويشكل هذا التطور اللافت انتكاسة كبيرة لما توصل إليه الجانبان خلال المفاوضات التي جرت بينهما على مدى الشهور الماضية، عبر العديد من الجولات التفاوضية، والتي انتهت مؤخرا بالإعلان عن التوصل إلى اتفاق مبدئي للسلام بينهما ،يفترض أن يتم بمقتضاه سحب آلاف الجنود الأمريكيين من أفغانستان.
وكان ترامب قد أعلن مساء أمس السبت، وبشكل مفاجىء ، إلغاء اجتماع سري كان مقررا عقده مع قادة حركة طالبان الأفغانية في منتجع كامب ديفيد ، وذلك بالتزامن مع الذكرى الثامنة عشرة لهجمات 11 من سبتمبر2001 ، كما أعلن الرئيس الأمريكي عبر عدد من التغريدات على موقع (تويتر) وقف "مفاوضات السلام" الجارية مع الحركة منذ نحو عام .. حيث كان ترامب قد كشف عن أنه كان سيلتقي عددا من قادة طالبان، والرئيس الأفغاني أشرف غني، كل على حدة ، وبشكل سرّي اليوم الأحد، وقال "إن وفد طالبان كان في طريقه إلى الولايات المتحدة مساء أمس لكني ألغيت الاجتماع على الفور".
وجاء إلغاء ترامب للقائه مع قادة طالبان، ووقف المفاوضات مع الحركة، في أعقاب هجوم وقع في العاصمة الأفغانية كابول يوم الخميس الماضي، وأسفر عن مقتل 12 شخصا بينهم جندي أمريكي، وإصابة العشرات، وهو الهجوم الذي أعلنت طالبان مسؤوليتها عنه، وحمّل ترامب الحركة مسؤولية وقف المفاوضات بعد أن اعترفوا باعتداء كابول .. معتبرا أن طالبان أرادت بقتل هذا العدد من الأشخاص تعزيز موقفها التفاوضي، لكنهم لم يحققوا ذلك، بل جعلوا الأمور أسوأ.
عنصر المفأجاة فيما أعلنه ترامب بشأن الموقف من حركة طالبان ، يأتي بعد ثلاثة أيام فقط من إعلان "زلماي خليل زاده" المبعوث الأمريكي الخاص بأفغانستان ورئيس وفدها التفاوضي مع الحركة ، يوم الثلاثاء الماضي ،عن التوصل إلى اتفاق مبدئي يقضي بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في نهاية شهر نوفمبر 2020، مقابل ثلاثة شروط تلتزم بها طالبان، وهي : بدء التفاوض مع الحكومة الأفغانية، وخفض الهجمات على المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الأمريكية ، وطرد تنظيم القاعدة من أفغانستان، وإذا ما تم التصديق على هذا الاتفاق من قبل الرئيس ترامب، فستبدأ الولايات المتحدة بسحب أكثر من 5 آلاف جندي، أي ثلث قواتها المتواجدة هناك، خلال 135 يوما.
ويرى محللون سياسيون أن هذا التطور اللافت، وإن كان يشكل انتكاسة لجهود إحلال السلام والاستقرار في أفغانستان ، فإنه يربك في الوقت نفسه الحسابات السياسية للرئيس الأمريكي ، والذي كان يأمل في التوصل لاتفاق سلام ينهي حربا طويلة مع طالبان ويساعد في عودة آلاف الجنود الأمريكيين إلى ديارهم، وهو الاتفاق الذي كان ينتظر أن يقدمه للرأي العام الأمريكي باعتباره أحد الإنجازات السياسية المهمة لإدارته ، لاسيما أنه يستعد لخوض انتخابات الرئاسة لولاية ثانية عام 2020.
ويشار إلى أن ترامب ، الذي تعهد خلال حملته الانتخابية السابقة بـوضع حد " للحروب التي لا تنتهي"، كان قد أعطى الضوء الأخضر قبل نحو عام ، لعقد مفاوضات مباشرة وغير مسبوقة مع طالبان، بهدف التوصل لاتفاق ينهي نزاعا طويلا ،كبّد الولايات المتحدة خسائر بشرية ومادية فادحة.
ورغم المخاوف التي أبدتها الأوساط السياسية والدبلوماسية الأمريكية من أن يوقّع ترامب اتفاقا سيئا مع طالبان يؤدي إلى مزيد من الفوضى في أفغانستان بدلا من تحقيق السلام ، إلا أن ترامب ظل حتى اللحظة الأخيرة متفائلا بنجاح المفاوضات في التوصل لاتفاق جيد يعيد السلام إلى أفغانستان ويعيد الجنود الأمريكيين إلى وطنهم.
لكن التطورات الأخيرة ، خصوصا في ظل إصرار طالبان على مواصلة عملياتها وهجماتها المسلحة على مواقع القوات الحكومية الأفغانية والقوات الأمريكية في مختلف مناطق أفغانستان، وضع الإدارة الأمريكية ، كما يرى مراقبون، في حرج بالغ أمام الرأي العام الأمريكي المتخوف أصلا من تلك المفاوضات، ودفع ترامب لاتخاذ قراراته الأخيرة.
وكان عدد من السفراء الأمريكيين السابقين في أفغانستان قد حذروا في رسالة مفتوحة نشروها يوم الثلاثاء الماضي ، من الانسحاب العسكري الأمريكي بشكل كامل من أفغانستان قبل إحلال السلام فعليا في البلاد.
ويشير مراقبون إلى أن أحد أهم المستفيدين من قرار ترامب وقف مفاوضات السلام مع حركة طالبان ، وإلغاء اللقاء مع قاداتها، هو الحكومة الأفغانية التي استبعدت من تلك المفاوضات، والتي تشعر أنه لا توجد ضمانات أمريكية بسلامتها وعدم الانقلاب عليها بعد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان، ولا يخفي الرئيس الأفغاني أشرف غني، تخوفاته من أي اتفاق سلام محتمل بين واشنطن وطالبان، على مستقبل المشهد السياسي والأمني في بلاده، إذ يخشى غني، ومعه قطاع كيبر من الأفغان، من أن يكون هذا الاتفاق المرتقب ، وما سيرافقه من ترتيبات سياسية وأمنية، على حساب الحكومة الأفغانية ولصالح تمكين سلطة طالبان في البلاد.
ويبدي الأفغان مخاوف متزايدة من أن يؤدي الاتفاق بين طالبان والولايات المتحدة، لاسيما إن تم بدون ضمانات واضحة، إلى سقوط بلادهم في مزيد من الفوضى، بينما يبدو شبح الحرب الأهلية التي عاشها الأفغان في تسعينيات القرن الماضي حاضرا.
ورغم ذلك فإن قرار ترامب الأخير بشأن الموقف من طالبان لا يعني ، كما يتفق محللون ، كتابة نهاية المفاوضات بين الجانبين ،إذ لا يملك الطرفان خيارات حقيقية أخرى سوى التمسك بالمسار التفاوضي ،خصوصا بعد أن جربا اللجوء للخيار العسكري لحسم المعركة وهو ما ثبت فشله على مدى 18 عاما.
ويبقى مسار المفاوضات صعبا ودونه العديد من العقبات والحسابات المعقدة للطرفين، فالولايات المتحدة تريد الانسحاب من أفغانستان بأقل الخسائر السياسية الممكنة، وضمان ألا تتحول البلاد بعد الانسحاب لساحة للجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش ، لكنها لا تستطيع تحقيق ذلك دون تقديم تنازلات مؤلمة لطالبان التي تصر على جدول زمني قصير لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان ، ورفض التفاوض مع الحكومة الحالية.
ويشير مراقبون إلى أن طالبان وبالرغم من موقفها المتشدد، تبدو حاليا أكثر جدية ورغبة في التوصل لاتفاق سلام مع الولايات المتحدة ، فتعيين الملا عبد الغني برادر نائب رئيس الحركة، في قيادة وفدها التفاوضي ، يظهر مدى جدية (طالبان) ورغبتها في نجاح المفاوضات الحالية، فوجود شخص بوزن الملا برادر في المفاوضات سيجعل بمقدوره اتخاذ قرارات سريعة من دون الاضطرار إلى العودة للقيادات الأخرى في الحركة ، خاصة أنه عُرف من قبل بجنوحه إلى التوصل لحل سلمي.
يضاف إلى ذلك متغير مهم آخر ربما يساعد طالبان وواشنطن على إنجاز اتفاق سلام بينهما، وهو الصعود الكبير لنفوذ عدو مشترك للطرفين على الساحة الأفغانية، وهو تنظيم (داعش)، الأمر الذي قد يساعد الطرفين على إخراج اتفاق سلام يلبي مصالحهما معا ، لكن السؤال هنا : وماذا عن مصالح الأطراف الأخرى في أفغانستان وخارجها ؟.