يحتفل أشقاؤنا المسيحيون هذه الأيام بـ«أسبوع الآلام» .. الذى بدأ الأحد الماضى (أحد الشعانين أو أحد السعف).. ثم (خميس العهد).. ثم (الجمعة العظيمة) وانتهاء بعيد القيامة أو عيد الفصح يوم الأحد القادم.. وجاءت العمليات الإرهابية الجبانة.. التى استهدفت كنيستى مارجرجس فى طنطا.. ومارمرقس فى الإسكندرية.. لتجعل كل المصريين يعيشون (أسبوع آلام) موجعاً إلى درجة إدماء القلوب.. ومثل هذه العمليات الإجرامية تدفعنا إلى محاولة انتزاع أنفسنا.. ومن تلك الآلام التى تعتصرنا.. ومن بحار الدم التى كادت أن تغرق خلايانا.. لنستخلص بعض دروس الحاضر.. ولنضع بعض ملامح استراتيجية المستقبل.. وهذه وتلك يمكن أن تتلخص فيما يلى.
أولاً: لن أغالى إذا قلت إن تلك العمليات الإرهابية كانت متوقعة.. وذلك لأن الإرهاب الأسود اعتاد أن يستهدفنا فى أعيادنا الدينية.. وأعيادنا الوطنية والسوابق فى ذلك كثيرة.. ولا داعى لذكرها.. كما أن توقيت عمليات هذا الأسبوع يستهدف أيضاً الزيارة المرتقبة للبابا فرنسيس بابا الفاتيكان.. تلك الزيارة التى ستتم بمشيئة الله يوم ٢٩ أبريل الحالى.
ثانياً: العمليات الإرهابية المجرمة التى استهدفت كنيستى طنطا والإسكندرية .. كانت متوقعة أيضاً كرد فعل على نجاح القوات المسلحة فى تطهير جبل الحلال فى سيناء.. من كل العناصر الإرهابية.. فى عملية نوعية ستضاف إلى سجل الشرف للجيش المصرى.. ولذلك سارع تنظيم داعش الإرهابى إلى تبنى عمليتى طنطا والإسكندرية.
ثالثاً : هذا (التوقع( كان يستدعى تنسيقاً أكبر بين الأجهزة الأمنية.. والقائمين على أمن الكنائس .. خاصة وأن المصلين فى كل كنيسة يكادون يكونون ثابتين .. ومعروفين لبعضهم البعض ولمسئولى الكنيسة .. لأن كل مسيحى يؤدى طقوسه الدينية وصلواته فى كنيسة بعينها لا يغيرها إلا لظروف قاهرة.. وهذا الأمر يستدعى وقوف أحد القائمين على أمر كل كنيسة إلى جوار أفراد الأمن خارج أبواب الكنيسة.. ليسمح لرعايا الكنيسة الذين يعرفهم جيداً بالمرور ، من البوابات الإلكترونية.. وليجعل رجال الأمن يستوقفون من لا يعرفهم ومن يشك فيهم قبل أن يعبروا البوابات الأمنية.
ومثل هذا الإجراء للأسف لم يتم فى أى كنيسة.. بدليل أن الإرهابى الذى فجر نفسه على أبواب كنيسة الإسكندرية .. أراد المرور بعيداً عن البوابة الإلكترونية.. فأشار له رجل الأمن إلى البوابة.. وعند عبورها أصدرت صوت الإنذار فتراجع قليلاً وفجر نفسه على الفور.. ولو كان أحد القائمين على أمر الكنيسة واقفاً مع رجال الأمن لاستطاع كشف هذا الإرهابى.. وربما تمكن رجال الأمن من السيطرة عليه.. ومنعوه من تفجير نفسه .. خاصة أنه كان يضع يده اليمنى بشكل مريب فى (جيب( الجاكيت الذى يرتديه.
رابعاً: البكاء على اللبن المسكوب لن يجدى نفعا .. أو كما يقول المثل الشعبى (العياط ع الفايت نقصان فى العقل( .. بما يعنى حتمية التوقف بالدراسة والتحليل أمام الأحداث الإرهابية.. كل الأحداث الإرهابية التى وقعت حتى الآن للخروج منها بمجموعة من الأفكار والرؤى.. التى تعمل على بناء منظومة أمنية متكاملة .. فى كيفية مواجهة التنظيمات الإرهابية .. والعمل على وأد عملياتها الإجرامية.. وهى فى مراحلها (الجنينية ( .. أى قبل أن تتحول إلى عمليات إرهابية تروع الآمنين.
خامساً: المنظومة الأمنية التى أدعو إليها لابد أن تعتمد على التكنولوجيا الحديثة.. مثل الأجهزة التى (تشم( المتفجرات عن بعد .. وتحدد حامليها مما يسهل مهمة رجال الأمن فى القبض على حاملى هذه المتفجرات.. ومثل أجهزة التشويش التى تمنع استخدام الهواتف المحمولة فى تفجير العبوات الناسفة عن بعد.. ومثل الكاميرات السرية التى يجب زرعها فى الشوارع وحول دور العبادة وهيئات ومؤسسات الدولة.. وقد يخرج علينا من يقول إن تلك التكنولوجيا مكلفة وغالية الثمن.. والحقيقة أن أى تكلفة أو أموال.. لن تكون أغلى من قطرة دم واحدة تراق من أى مواطن مصرى.. بما يعنى أن الدولة المصرية يجب أن تمتلك خطة واضحة المعالم.. لكيفية توفير هذه التكنولوجيا.. كما أن الإرهاب لا يستهدف مصر وحدها.. ولكنه يستهدف العالم كله.. بما يعنى ضرورة مساهمة (المجتمع الدولى( وخاصة الدول صاحبة تلك التكنولوجيا.. ومعها الدول صاحبة الثراء فى تقديم هذه التكنولوجيا لكل الدول المستهدفة من هذا الإرهاب الأسود وفى مقدمتها مصر.
سادساً : تمتلك الأجهزة السيادية فى مصر .. معلومات مؤكدة عن تورط بعض الدول فى دعم المنظمات الإرهابية بالمال والسلاح.. أو حتى بالإيواء والاحتواء.. وقد جاء أوان (الفضح والتجريس ( بإعلان هذه المعلومات على الرأى العام المصرى والدولى.. ليتحمل هؤلاء المتورطون مسؤلياتهم أمام شعوبهم.. وأمام شعوب العالم كله.. ولأن قضايا التعذيب. والإرهاب لا تسقط بالتقادم.. فلابد من تقديم قادة هذه الدول الداعمة للإرهاب.. إلى محاكمات دولية لتقتص منهم .. كما حدث مع القائد الصربى سلويودان ميلوسيفيتش.
سابعاً : بعد وقوع الحادث الإرهابى الذى استهدف الكنيسة البطرسية بالعباسية.. قبل أسابيع قليلة من نهاية العام الماضى.. كتبت مقالاً على صفحات مجلة المصور كان عنوانه (نحارب الإرهابيين فمتى نحارب الإرهاب( .. وقد تبلورت أفكار هذا المقال حول أن الإرهابى هو المنتج الإجرامى النهائى للإرهاب.. وأن مسئولية مقاومة هذا الإجرام تقع على كاهل الجيش والشرطة .. أما الإرهاب فمنظومة فكرية.. تقع مسئولية تفنيدها ومقاومتها على كاهل أجهزة ومؤسسات الدولة التى تتعامل مع العقل والوجدان .. وهى تحديداً وزارات التعليم والتعليم العالى والثقافة والشباب والأوقاف والإعلام (من يقوم بدورها( ومعها الأزهر والكنيسة .. وللأسف الشديد فإن كل هذه المؤسسات لا تقوم بدورها فى مواجهة الإرهاب.. بل إن تقصير بعضها يجعل من الشباب (لقمة سائغة فى فم الإرهاب) .. فالتعليم مثلاً يقوم على الحفظ والتلقين .. وهى ذات الآلية التى تعتمد عليها المنظمات الإرهابية.. والثقافة تكتفى ببعض الأنشطة الفنية والندوات البائسة.. من دون أن تهتم بوضع استراتيجية واضحة المعالم لمواجهة الفكر المتطرف.. كتلك الإستراتيجية التى وضعها ونفذها الراحل د. ثروت عكاشة فى الخمسينيات والستينيات وكل هذه الوزارات والمؤسسات تكتفى بسياسة ) المشى فى المكان (.. من خلال مؤتمرات إهدار الجهد والوقت والمال.. تلك المؤتمرات التى يحضرها من هم أكثر اعتدالاً وثقافة واستنارة.. ولا يخرج تأثيرها.. إن كان لها تأثير .. عن القاعات المكيفة التى تقام فيها.. رغم أن معركة مواجهة التطرف يجب أن تكون فى المدارس والجامعات.. وبيوت وقصور الثقافة ومراكز الشباب ودور العبادة.. والقرى والنجوع والمناطق الشعبية.. والأهم أن جنود هذه المعركة هم أصحاب العقول المستنيرة من الأدباء والمفكرين والمثقفين والفنانين .. ولكن هذه المؤسسات للأسف الشديد تكتفى ببعض أنشطة (إسقاط الفريضة( .. والتى ربما تعمل على زيادة معدلات التطرف لدى الشباب.. يجعلهم يسقطون بين يدى الجماعات الإرهابية. التى تقدم لهم (الثقافة البديلة) .