اخترقت بوابة "الهلال اليوم"، بعد محاولات عديدة ومتكررة، الأسوار العالية لمستشفى الخانكة للأمراض النفسية، بعدما أقنعنا مصادرنا الخاصة هناك بأن يتغلبوا على مخاوفهم، حتى نتمكن من رصد حياة من بداخلها، فاشترطوا علينا عدم التصوير أو التسجيل.
وعلى الرغم من أن المستشفى مقام على أكثر من 200 فدان، إلا أن تقسيم مبانيها يفتقد إلى الدقة والتنظيم، فبعد الدخول من البوابة الرئيسية للمستشفى ستجد عن يمينك عيادات الاستقبال، وبجوارها المبنى الإداري، ثم مبنى الإدمان، وتلك المباني يفصلها عن عنابر المرضى طريق طويل، يحتاج وسيلة مواصلات لاجتيازه، ثم توجد عنابر المرضى في أواخر المزرعة التي ينتشر على أطرافها أفراد الأمن المدني التابع للمستشفى، خوفًا من هروب المرضى.
المستشفى مقسمة إلى مبانٍ، أحدها يحوي قسم العلاج الجمعي، والذي بدوره مقسم إلى عنابر حسب النوع "ذكر أو أنثى"، وكذلك على حسب الاضطراب النفسي، وفور الدخول إلى ساحة هذه العنابر تجدها تشبه بعضها البعض، في أحوالها التي لا ترضى الأطباء أو الممرضين أو الإداريين، حيث الأسقف متهالكة، والروائح الكريهة لدورات المياه تنتشر في أرجاءها، هناك مبنى مستقل لقسم الأطفال والمراهقين، مقسم هو الآخر إلى عنابر بحسب الاضطراب.
يوجد بين هذه البنايات حديقة، يجلس فيها المرضى مع ذويهم أثناء الزيارة؛ لتناول الوجبة المنزلية وتبادل أطراف الحديث، أغلب المرضى في هذا القسم يندرجون تحت بند مرضى "الدخول الإرادي"، وهو ما يعني حضور المريض بنفسه للمستشفى ليعبر عن مشكلته النفسية، ويكتب في هذه الحالة داخل الملف الخاص به "دخول إرادي" ويحق لهذا النوع من المرضى أن يخرجوا في أي وقت حسبما يشاءون، ولكن للمستشفى الحق في إبداء الرأي حول خروجه من عدمه على حسب استجابته للعلاج.
يوجد مبنى للعلاج الفردي، به المرضى الذين يندرجون تحت بند مرضي "الدخول الإلزامي"، حيث يدخل المريض المستشفى عن طريق الأهل، أو الشرطة أو النيابة، ويكون المريض في هذه الحالة لا يتمتع بالقدرة العقلية الكافية للحكم على الأمور بصورة واضحة، كما يشكل خطرا على نفسه أو من حوله، هذا القسم يحتوي حجرات لعزل هذه الحالات الحرجة وعلاجها منفردة، وهنا يأتي دور مصادرنا الخاصة التي صاحبتنا في جولة داخل هذا المبنى.
وللوهلة الأولي يخيل لك أن هذا القسم يخيم عليه الهدوء والسكون، على عكس قسم العلاج الجمعي، إلا أن الواقع خالف ذلك، حيث تخرج من تلك الغرف المغلقة أصوات عالية ممزوجة بالضحك والصراخ والبكاء، وبسؤال مصادرنا الخاصة عن مصدر هذه الأصوات وأسبابها قالوا: إن داخل كل غرفة من هذه الغرف أحد المرضى الذين يعانون من اضطراب كالاكتئاب أو الفصام أو الهيستريا، وتصدر عنهم هذه الأصوات بسبب اضطراباتهم.
اقتربنا أكثر فأكثر من باب إحدى الغرف، في محاولة منا لمعرفة ما يخبئه هذا الباب وراءه من قصص وحكايات، داخل هذه الغرفة يوجد رجل يبلغ من العمر 47 عامًا، ويدعى "وليد . م"، تم عزله منذ 15 سنة، دخل المستشفى في ريعان شبابه، بعد إصابته بحالة "هيستريا تحويلية"، تفاقمت بعد فترة ليصاب بالاكتئاب بجانب الهيستريا، الأمر الذي أدى إلى محاولته المتكررة للانتحار.
وعلى بعد خطوات من غرفة هذا المريض توجد غرفة لمريض آخر، لم يكن أحسن حالا من سابقه، حيث يعيش فيها رجل يبلع من العمر 50 عامًا يدعي "أحمد. س"، كان طالبًا بكلية الهندسة جامعة القاهرة، دخل المستشفى منذ 25 سنة، على إثر صدمة نفسية وعصبية حدثت له، بعدما توفيت والدته في حادث حريق بسبب انفجار اسطوانة غاز، بعدها بيومين ماتت أخته الوحيدة بسبب نفس الحادث، فتعرض لأزمة نفسية وعصبية شديدة، أدت إلي إصابته بحالة بكاء هيستيري، مصحوبة بحالة من الخوف الشديد، والرغبة في العزلة، إضافة إلى كراهيته الشديدة للتفاعل مع الآخرين.
لم يكن الوضع أفضل حالا داخل الجزء المخصص للسيدات من نفس القسم، حيث تشابهت المآسي ، ففي إحدى غرف هذا الجزء المخصص للسيدات توجد سيدة تدعي "أسماء.ع"، تبلغ من العمر 40 عاما، دخلت المستشفى منذ 20 عاما، كانت طالبة بكلية طب الأزهر، توفى والدها وهي في المرحلة الإعدادية، فتزوجت أمها من رجل أخر، ومن ثم كانت تعيش هذه المريضة معهما، وبعدما بلغت سن الشباب تعرضت مرات عديدة للتحرش من زوج أمها، الذي كان ينفرد بها في غياب والدتها التي كانت تعمل ممرضة بإحدى المستشفيات الحكومية، وبعدما تيقن هذا الرجل من أن والدة الفتاة لا تصدق شكاوى ابنتها، حاول أن اغتصابها أكثر من مرة، فحاولت الانتحار أكثر من مرة، الأمر الذي استدعى نقلها إلى هذه المستشفى، ومنذ ذلك الحين وهي محبوسة خلف هذا الباب، الذي لا يفتح إلى لتلقي الجلسات العلاجية، أو لزيارة صديقتها بين الحين والآخر.