الأحد 5 مايو 2024

فؤاد سراج الدين.. الملك أقام حفل ميلاد ولي عهده يوم حريق القاهرة !

26-1-2020 | 20:25

فور نشوب حريق القاهرة في 26 يناير 1952، واندلاع أعمال التخريب والتي طالت 260 محلا في القاهرة، ظهرت بعض الصحف والمجلات تصف الخسائر الفادحة للحدث، ووصفت صحف أخرى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين بالتقصير والتردد في الاستعانة بالجيش لللسيطرة على الأمور قبل استفحالها، وقد تم إقالة الوزير عقب الأحداث.

 

في أول فبراير 1952 أصدر سراج الدين بيانا من عشر صفحات، يصف فيه حقيقة الحدث من الدقيقة الأولى وينفي عن نفسه أي تقصير تجاه الأحداث، وحسب ما جاء في التقرير أنه تلقي اتصالا في السابعة والنصف صباح يوم 26 يوليو 1952 من مدير الأمر العام يخبره فيه أن حوالي 300 جندي من بلوكات نظام الأقاليم بثكنات العباسية قد غادروها حاملين أسلحتهم في شبه تمرد، ورد عليه سراج الدين بأن يحتوي الأمر ويعيدهم إلى الثكنات مع تجريدهم من السلاح وحبسهم لمحاكمتهم عسكريا.

 

في التاسعة صباحا اتصل بدوي خليفة باشا وكيل وزارة الداخلية بسراج الدين وأخبره أن الجنود اتجهوا جامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة"، ويهتفون "أين السلاح .. نريد أن نذهب إلى القنال" .. ووجب الذكر أنه بالأمس حدثت المعركة الكبرى بين قوات الشرطة وقوات الإحتلال البريطاني، وأضاف خليفة أن اللواء أحمد عبد الهادي حكمدار القاهرة لحق بالجنود عند الجامعة، فطلب سراج الدين من خليفة إرجاع الجنود بأي شكل من الجامعة وأن يخبر اللواء عبد الهادي بموافقته على سفرهم إلى القنال.

 

كان سراج الدين قد وصل إلى مكتبه بوزارة الداخلية وقد تلقى اتصالا من مدير الأمن العام في الحادية عشرة والربع ظهرا بأن جنود البلوكات ومعهم فريق من الجامعة وعلى رأسهم الضابط عبد الهادي نجم قد غادروا متجهين في مظاهرة كبيرة إلى مجلس الوزراء، وأن فريقا منهم قد اتجه منذ الصباح إلى الأزهر واتجهوا في مظاهرة إيضا نحو ميدان عابدين، وهنا أصدر سراج الدين تعليماته بتنفيذ ما سبق وبتفريق المتظاهرين بكل الطرق ولو استدعي الأمر إطلاق النار، وتلقى سراج الدين الرد بعد قليل من مدير الأمن بأن بعض من أفراد الشرطة قد انضموا للمتظاهرين، وأن قوات الشرطة لا تشأ أن تطلق النار خشية أن يصيبوا زملائهم.

 

لو دققنا في الأمر لوجدنا أن البداية كانت نارا تأججت في صدور جنود البلوكات ضد المستعمر الغاشم ومعركته مع الشرطة في اليوم السابق، وأن الجنود حسب هتافاتهم يريدون السفر للقناة للثأر لزملائهم، وعادة في تلك الأحداث ما يندس عناصر مخربة لركوب الحدث وتغيير مساره إلى التخريبي، وهذا ما رصده التاريخ بعد ذلك ، ونعود لبيان سراج الدين الذي سارع بالإتصال بحيدر باشا القائد العام للقوات المسلحة لإطلاعه على الأمر، وطلب منه استعداد قوات الجيش للنزول في أي لحظة، فقال حيدر أنه لا يحبذ نزول الجيش حتى لا يصطدم بالجمهور الذي قد تتولد الكراهية في نفسه من الجيش.

 

بدأ أول تخريب حسبما ذكر سراج الدين في بيانه عند الثانية عشرة والنصف ظهرا عندما أشعل المتظاهرون النار في كازينو أوبرا وقد أعطى تعليماته بأطلاق النار على المخربين وعاود الإتصال بحيدر باشا ليطلب نزول الجيش، وبعد مكالمة طويلة أخبره حيدر أن نزول الجيش يتطلب أمرا ملكيا، وأنه سيخبر الملك فاروق، وكانت قوات الداخلية قد تمكنت في ذلك الوقت من تفريق المتظاهرين حسب تعليمات سراج الدين وأصبح المكان خاليا، لذلك تصور سراج الدين أن الأمر يمكن السيطرة عليه فعاود الاتصال بحيدر باشا ليخبره بأن يرجئ فكرة نزول الجيش، على أن يكون مستعدا للنزول في أية لحظة.

 

في الساعة الواحدة والنصف ظهرا تلقى سراج الدين إخبارية من مدير الأمن العام بأن المتظاهرين أشعلوا النيران في سينما ريفولي ثم سينما مترو، فأيقن سراج الدين بأن هناك خطة مدبرة ومرسومة للتخريب، فأسرع يتصل بالقصر الملكي ليستعين بالجيش وطلب حيدر باشا، لكن جاءه الرد بأنه يحضر مع الملك وضباط الجيش والبوليس حفل غداء بمناسبة مولد صاحب السمو ولي العهد!! فانتظر سراج الدين حتى أتاه ردا من اللواء وحيد شوقي مدير مصلحة خفر السواحل الذي طلب منه الملك أن يرد على سراج الدين ليعرف سبب اتصاله بحيدر باشا.

 

شرح سراج الدين الأمر للواء وحيد وطلب منه نقل الصورة وتطوراتها إلى الملك ويخبره أنه يريد نزول الجيش وأن تتم افادته بما استقر عليه رأي الملك، وانتظر سراج الدين فلم يجد أي رد من أي جهة، وقد توالت الإخطارات باستمرار اندلاع الحرائق في بعض دور السينما والمحال الصغيرة، وهنا اتجه إلى قصر عابدين ووصل عند الثانية والنصف عصرا وكان الحفل قد انتهى والضباط المدعوون يغادرون القصر، والتقى بحافظ عفيفي باشا ووضح له خطورة الأمر، وقد حضر حيدر باشا فطلب منهما إبلاغ الملك واستئذانه لنزول الجيش، وبعد ربع ساعة أمر الملك بنزول الجيش واتصل حيدر باشا بعثمان باشا المهدي رئيس أركان الجيش ليخبره بالأمر الملكي وتنفيذه بأكبر قوة ممكنة، وأبلغه المهدي بأن الأمر يستلزم 40 دقيقة بعدها تكون القوات في مكان الحدث.. ودهش سراج الدين عندما سمع من حيدر أن المهدي أعطى تعليماته للضباط الذين حضروا مأدبة الغداء الملكية بأن يتجنبوا المرور بميدان الأوبرا والطرق المحيطة به والتي بها الإضطرابات حتى لا يحتك بهم المتظاهرون، فأكد سراج الدين لحيدر أن العكس كان يجب فعله، وهو لو مر هؤلاء الضباط بسياراتهم في مكان الأحداث مجتمعين لخشاهم المتظاهرون وانتهت الفتنة.

 

أكد سراج الدين في بيانه أن قليل من قوات الجيش وصلت في الساعة الخامسة وبلغت 250 جنديا وهم مازالوا في حديقة الأزبكية ولم يتم توزيعهم إلا في السادسة والنصف، وخلال مرورهم في الشوارع صفق لهم الجمهور ولم يطلقوا النار على المخربين، فتعجب سراج الدين وتساءل لماذا فأخبروه أن إطلاق النار يستلزم أمرا كتابيا منه، وثار سراج الدين وأبلغ المهدي بعبارات شديدة أن العاصمة تتعرض لخطة محكمة وحمله مسئولية التهاون في قمع هذه الفتنة ، وكانت الحرائق والتخريب قد امتد حتى الساعة الحادية عشر مساء والتي طالت فندق شبرد ومحل شيكوريل وغيرهما وبعد ذلك هدأت الأمور.

 

انتهى بيان سراج الدين الذي دافع فيه عن نفسه ومحاولاته للسيطرة على الحدث من الدقائق الأولى، لكن بقيت علامات استفهام، أولها أن يوم 25 يناير 1952 حدثت معركة الشرطة مع المحتل الانجليزي الذي قبض على الكثيرين من أفراد الشرطة واستشهد منهم الكثير أيضا، فهل لم يسمع الملك بالحدث ويحتفي بميلاد ولي عهده في اليوم الثالي؟ ألم يسمع الملك بأخبار المظاهرات التي بدأت في السابعة والنصف صباحا وازادت عند الظهيرة مع إشعال الحريق في كازينو أوبرا؟ الباحث في الأمر يجد أيضا تعجب من دعوة الملك لحفل الغداء والاحتفال بولي عهده للعديد من قادة وضباط الجيش والبوليس، وعدم دعوته لوزير داخليته سراج الدين في هذا اليوم بالذات، فهل كان للإنجليز يد  في الأمر؟ تشير الدلائل أن هناك من ركب الحدث وحرض الجماهير على حرق الملاهي والسينمات أولا، ثم امتدت يد التخريب إلى المحال التجارية والفنادق الكبرى، وهذا يتنافى مع شعارات جنود البلوكات الذين طالبوا بالذهاب إلى القنال لمحاربة الإنجليز.