أكدت دار الإفتاء المصرية مشروعية إعطاء الزكاة للمواطنين العاملين بالأجور اليومية (العمالة اليومية والأرزقية)، ومثلهم كل من تعطلت مواردهم بسبب إجراءات الوقاية من الوباء وتعليمات السلامة من العدوى بسبب انتشار فيروس "كورونا".
وأضافت دارالإفتاء - في فتوى لها، اليوم الخميس - أن يجوز كذلك تعجيل الزكاة لهم على قدر ما يكفي حاجتهم ويسد فاقتهم، ولا يقتصر الأمر على الزكاة، بل على الأغنياء والقادرين في المجتمع أن يشملوا هؤلاء المواطنين العاملين باليومية - ومَن في حكمهم ممن قلت دخولهم وتعطلت مواردهم - فيتكفلوا بنفقاتهم وصدقاتهم في هذه المرحلة الحرجة من عمر الوطن.
وحثت دار الإفتاء في فتواها كل المواطنين أن يستثمروا هذه الفرصة في مساعدتهم والوقوف إلى جانبهم بما يمكن من الوسائل المادية والمعنوية؛ بالمسارعة في الخيرات، والمسابقة في المكرمات، والمساهمة بالطيبات؛ مشاركة لهم في ظروفهم الحرجة، ومساعدةً لهم في تغطية نفقاتهم واحتياجات أهليهم وذويهم؛ إظهارًا للنخوة والمروءات في أوقات الأزمات، ودفعًا للمرض والوباء بمزيد الكرم والعطاء، وتوخيًا للأجر والثواب من رب الأرباب، فإن معادن الشعوب، وأخلاق الأمم، تظهر في عصيب الأوقات، ومُدْلَهِمِّ الحالات.
وأوضحت دار الإفتاء أن انتشار وباء "كورونا" أحدث في بلدان العالم كسادًا اقتصاديًّا وركودًا ماليًّا على المستوى الفردي والمجتمعي والدولي، ومن أكثر المواطنين تضررًا بهذه الظروف: العاملون بالأجور اليومية، وأصحاب المشاريع متناهية الصغر، وذوو الدخول المحدودة؛ ممن يعتمدون في أرزاقهم على التعامل اليومي والأجور الوقتية والتجارات الصغيرة؛ حيث أدى بهم التزامُهم مع المواطنين بالمكث في البيوت، وما استتبعه ذلك من قلة الحراك المجتمعي؛ تنفيذًا لإجراءات السلامة والوقاية، إلى تعطُّل ما كانوا يعتمدون عليه في كفاية أسَرِهم ورعاية ذويهم، فهم أكثر الطبقات تأثرًا وتضررًا بذلك، وأولى الناس تحققًا بصفة الفاقة والحاجة، فهم على ذلك أَوْلَى مصارف الزكاة استحقاقًا لها بوصف الفقر والمسكنة.
وأشارت دار الإفتاء إلى أن الشريعة الغراء قد حددت مصارف الزكاة في قوله تعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ للفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللهِ وابنِ السَّبِيلِ فَرِيضةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]؛ فجعلت كفايةَ الفقراء والمساكين هو آكد ما تصرف فيه الزكاة؛ حيث كانوا في صدارة مصارف الزكاة الثمانية للتأكيد على أولويتهم في استحقاقها، وأن الأصل فيها كفايتهم وإقامة حياتهم ومعاشهم؛ إسكانًا وإطعامًا وتعليمًا وعلاجًا وزواجًا، وخصَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفقراء بالذكر في حديث إرسال معاذ رضي الله عنه إلى اليمن: «فَإن هم أَطاعُوا لَكَ بذلكَ فأَخبِرهم أَنَّ اللهَ قد فَرَضَ عليهم صَدَقةً تُؤخَذُ مِن أَغنِيائِهم فتُرَدُّ على فُقَرائِهم» متفق عليه.
ولفتت دار الإفتاء إلى أنه فيما أمر به النبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذًا رضي الله عنه أن يعمله في توزيع زكاة أغنياء أهل اليمن على فقرائهم: دلالةٌ على أن الأصل في الزكاة أن تخرج مِن أغنياء كلِّ بلد لفقرائها، ومن القادرين إلى مواطنيهم المحتاجين؛ تحقيقًا لغاية الزكاة التكافلية، وسعيًا للعدالة المجتمعية، وتخفيفًا لوطأة الأزمات الاقتصادية، وتقليلًا من حدة الفوارق الطبقية؛ لتسري في المجتمع روح الانتماء، وينتعش بين أفراده مبدأ المواطنة والإخاء؛ فيستشعروا في بلدهم مسؤوليتهم المجتمعية، ويعيشوا قضاياه الوطنية.
وأضافت الدار: "وهذا هو الذي تقتضيه مبادئ السياسة الشرعية؛ ولذلك نص عليه فقهاؤها فيما قرروه من المحددات العامة لوظائف الدولة وسياساتها الاقتصادية والمالية؛ كما صنع قاضي القضاة الإمام أبو يوسف [ت182هـ] صاحب الإمام أبي حنيفة في كتابه "الخراج" الذي رسم به لهارون الرشيد أسس التنظيمات المالية والاقتصادية للدولة الإسلامية ومواردها ومصارفها".
وقالت الدار: "إن ظروف الوباء التي تمر بها شعوب العالم -ومن بينها مصر المحروسة - تستوجب من كل بلدٍ تعاونَ أهليه وتكاتفَ مواطنيه، وأن يأخذ أغنياؤه بيد فقرائه، ويقف موسروه مع محتاجيه؛ تفريجًا لكربتهم، ونجدة لفاقتهم، ومواساة لحاجتهم، ولو أدى أغنياءُ كلِّ بلدٍ حقَّ الله في أموالهم لسُدَّت حاجةُ فقرائهم، لما روى الإمام الطبراني في "المعجم الأوسط" عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ قَدْرَ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ، وَلَنْ يُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إِلَّا إِذَا جَاعُوا وَعُرُّوا مِمَّا يَصْنَعُ أَغْنِيَاؤُهُمْ، أَلَا وَإِنَّ اللهَ مُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِسَابًا شَدِيدًا، وَمُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا نُكْرًا" ، وكذلك ما روى سعيد بن منصور في "سننه" ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" عن سيدنا عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ، فَإِنْ جَاعُوا وَعَرُوا جَهَدُوا فِي مَنْعِ الْأَغْنِيَاءِ، فَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ".
وأضافت دار الإفتاء أنه من جهة أخرى فإنه لما كان أصحابُ العمالة اليومية ونحوهم أكثرَ طبقات الشعب تضررًا من ظروف الوباء، وأشدَّهم حاجة إلى العطاء، كانوا أحقَّ مصارف الزكاة بالأداء؛ فقد اتفق الفقهاء على أن المقصود بالزكوات: إزالة الحاجات، ودفع الفاقات، وأعظم صورها: تفريج الكربات، والنجدة في الأزمات، والغوث في الملمات، وهو واجب الوقت في الزكاة؛ الذي عبروا عنه "بدفع حاجة الوقت" ، موضحة أن الشريعة لم تكتف بجعل الزكاة في مال الغني مستحقة لمصارفها بمجرد حلول وقت أدائها، بل أجازت تعجيلها إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ كما هو الحال في أزمنة الأوبئة والحروب والمجاعات؛ للمساعدة على إدارة الأزمات، وحل المشكلات.
وأشارت إلى أنه في إطار تحقيق الاكتفاء المجتمعي والعون في الأزمات لم يكتف الشرع بفرض الزكاة، بل نوَّع وجوه الإنفاق في الخير، وحض على أسباب التكافل وفتح أبواب التعاون على البر؛ فكما شرع الزكاة ركنًا للدين حث على التبرع، ورغَّب في الهدية، وندب إلى الصدقة، وجعل منها الصدقة الجارية المتمثلة في الوقف الذي يبقى أصله وتتجدد منفعته؛ وذلك لتستوعب النفقةُ وجوهَ البر وأنواعَ الخير في المجتمع.
واستشهدت دار الإفتاء في فتواها بما رُوِيَ عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إِنَّ في المالِ لَحَقًّا سِوى الزَّكاةِ"، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ليسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشرِقِ والمَغرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آَمَنَ باللهِ واليَومِ الآَخِرِ والمَلاَئِكةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآَتى المالَ علَى حُبِّه ذَوِي القُربى واليَتامى والمَساكِينَ وابنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفي الرِّقابِ وأَقامَ الصَّلاَةَ وآَتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بعَهدِهم إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أولَئكَ الذين صَدَقُوا وأولئكَ هم المُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
وذكرت الفتوى أن الأمر ليس مقتصرًا على مال الزكاة، بل يتعلق بحقوق الأخوة في الجوار، والدين، والمواطنة، والإنسانية، ولا يخفى أن الشركة في الوطن تستلزم التلاحم والتشارك بين أفراده حتى لو اختلفت أديانهم ومعتقداتهم؛ فإن الوطنية معنًى كليٌّ جامع يحوي العديد من حلقات الترابط الإنساني؛ كالجوار، والصحبة، والأخوة، والمعاملة، ولكل رابطة حقٌّ تصب مراعاتُه في صالح استقرار الأوطان والتلاحم بين المواطنين، وقد حثت الشريعة على كل حق منفردًا، وكلما زادت الروابط والعلاقات تأكدت الحقوق والواجبات، وتتأكد هذه الحقوق في الأزمات، وتزداد تبعاتها في عصيب الأوقات ومُدْلَهِمِّ الحالات، بالمسارعة في الخيرات، والمسابقة في المكرمات، والمشاركة في الطيبات؛ لتظهر حينئذ معادن الشعوب، وتتبين أخلاق الأمم.
ولفتت دار الإفتاء إلى أن أصحاب العمالة اليومية ومن في معناهم وحكمهم هم في هذه الآونة أهل ضرورة وأصحاب كرب وذوو حاجة: فوجب أن يتداعى سائر القادرين على كفاية محتاجيهم وإغاثة مضطريهم ونجدة ملهوفيهم؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى» متفق عليه واللفظ للبخاري.
وقد اتفقت الأمة بمذاهبها المتبوعة وعلمائها عبر العصور وكر الدهور، وعلى ممر النوازل والأزمات، على أنه إن لم تقم زكوات الناس في بلد ولا الكفارات ولا فـيءُ سائر أموال المسلمين بسد حاجة المحتاجين والمكروبين: فإنه يجب على أغنيائه القيام بذلك؛ بمقدار ما تستد به الحاجة وتندفع الفاقة ويُكْفَى العوز، وللسلطان أن يجبرهم على ذلك.
وقد بلغ من أهمية الصدقة على الفقراء وكفاية المحتاجين أن كانت هي أُولَى أولويات بناء الدولة في المدينة المنورة؛ حيث جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم منظومةً مجتمعية متكاملة؛ فآخى بين المهاجرين والأنصار في السنة الأولى من الهجرة، لتصبح المواساةُ بهذه المؤاخاة حقًّا أخويًّا ونظامًا متكاملًا بين المتآخيَيْن؛ للتعاون على تكاليف الحياة المادية والمعنوية، وقد امتثل الأنصار لذلك خيرَ امتثال؛ حتى وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
وقالت دار الإفتاء إنه كلما اعتنت الأمم والشعوب والمجتمعات بضعفائها ومحتاجيها كان ذلك أدلَّ على رقيها وأرفع لعمادها، وأقوى لنصرها وأقوم لاقتصادها، وأبعثَ لنهضتها وأسمى لحضارتها، وأبعدَ لها من البلايا وأنأى بها عن الرزايا؛ كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ؛ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ».
وأضافت أن الزكاة والصدقات والنفقات في أوقات الأزمات وأزمنة الملمات من أعظم ما يدفع الوباء والبلاء، مستشهدة بالحديث الذي روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ؛ فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا".