الثلاثاء 2 يوليو 2024

خروجا عن مبادئ الإسلام براءة الإسلام من هذه الدماء ومن هذه الممارسات المخالفة لمبادئه

19-4-2017 | 13:58

بقلم –   رجائى عطية

لم يقتصر جرم من خاضوا فى الدماء ومرت بنا مشاهدهم، وأزهقوا الأرواح بغير حق، لم يقتصر على هذه الجرائم الشنيعة التى تشيب من هولها الولدان، وإنما كانت الطامة الكبرى أن هؤلاء المخضبة أيديهم بالدماء التى أراقوها، وبالأرواح التى أزهقوها، كانوا يتشحون بالإسلام، ويحسبون أنفسهم على الإسلام، ويتسمون بألقاب الإسلام، ويزعمون لأنفسهم مناقب الإسلام، ويصفون الحكم الذى مارسوه وأهدروا فى ظل استبداده ما أهدروه وسفكوه من الدماء ـ بأنه «خلافة إسلامية»، متجنين بذلك على الإسلام الذى نزل من الله تعالى هداية ورحمة للعالمين.

لا مراء أن هذه الدول أنجزت صفحات فى بعض عهودها، بل وحققت أمجادًا، ولكن ذلك كان حصاد قوة الدفع التى أعطتها قيم ومبادئ وروح الإسلام، ولم تكن بالقطع حصاد هذه الممارسات الشاذة التى أريقت فيها الدماء، وأزهقت الأرواح بغير حق، وحل الغدر والخيانة، محل قيم الوفاء والصدق وحفظ العهد، وقدمت هذه الممارسات صورًا بالغة الشناعة للعنف الدامى، وهى تحمل بلا جدال وزر هذه المفاهيم الخاطئة التى صارت تتلقفها كيانات شاذة متطرفة، تسعى إلى الحكم وركوب السلطة، وتتخذ من هذه المادة الضالة المعيبة ـ مرجعية لها، بعيدًا عن القيم والمبادئ الحقيقية للإسلام!

قدسية الروح فى الإسلام

قدَّس الإسلام الروح فى كل حىّ، فلم يقدسها فى الإنسان وكفى، وإنما قدسها فى الحيوان والطير.. وفى كل حىّ برىء من الإيذاء والإضرار.

الحياة فى الإسلام هى هبة الخالق البارئ جل شأنه، وهى نفحته للإنسان الذى كرمه سبحانه وتعالى واجتباه وفضلـه على كثيـر من خلقـه تفضيـلًا … فى القرآن المجيد:
«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».. (الإسراء ٧٠).. هذه الروح التى خلقها الله ملك لله، أمرها بيد الله، لا يجوز لغير الله أن يعترض وجودها أو يجهضها أو يمسها أو ينهيها.. فى الإسلام، روح الآدمى ـ أى آدمى مهما كان عرقه أو ديانته ـ هى روح الناس جميعًا، هى الحياة كلها.. إجهاضها هو إجهاض للحياة، وإزهاقها هو اعتداء على الحياة الإنسانية التى أوجدهــا الله ولا موجـد ولا منهى لها سواه.. من هنا، نوه القرآن الحكيم إلى أن القتل ليس حسبه أنه عدوان على حياة المقتول وكفى، وليس إزهاقًا لروح أزهقت بغير حق وكفى، وإنما هو اعتداء على الحياة الإنسانية كلها!!!.. القاتل لا يقتل نفسًا ـ وإن قتل واحدًا، وإنما يعتدى فى واقع الأمر على الحياة الإنسانية، ويغتالها، شأنه فى ذلك كمن قتل الناس جميعًا.. ومن يحترم الروح الإنسانية، ولا يمسها، ولا يزهق الحياة فيها، فكأنه أحيا الناس جميعًا.. فى القرآن المجيد يقول رب العزة: «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».. (المائدة ٣٢).

هذه الحياة ـ المنحة الربانية ـ المقدسة، محوطة برعاية وحماية محكمة فى الإسلام.. إزهاق الروح ـ أى روح ـ من أكبر الكبائر فى الإسلام، ومن أبشع الجرائم فى شريعة الله.. فرض الله تعالى لها قصاصًا يرهب ويثنى الناس عن استباحتها أو الاستهانة بحرمتها.. يقول الحكم العدل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى» (البقرة ١٧٨).. القصاص لغة يعنى المساواة، أى أن الجزاء من جنس العمل أو الجرم.. القصاص تتبع للجانى بالجزاء العادل، وللمجنى عليه أو ذويه بالشفاء.. القصاص عدالة.. وجزاء وفاق للجريمة، فالقتل اعتداء متعمد أزهق روحًا خلقها الله، فتكون العدالة أن يؤخذ الجانى القاتل بمثل فعله ـ عدم القصاص من القاتل هو استفزاز لذوى القتيل، ثم هو تضحية حمقاء بالردع الواجب لسواه عن فعل ذات الصنيع الممقوت الذى صنع!! هذا القصاص لم يفرض للنكاية أو الانتقام، وإنما عقابًا عادلًا ورادعًا، حكيمًا واعيًا، وأحكم ما فيه ونبه إليه القرآن المجيد أنه فى واقعه سبيل للحياة، لأنه حماية لها ـ بالردع والجزاء ـ من تغول المتغولين وعدوان المستهينين بالحرمات الإنسانية وبأرواح عباد الله.. فى القرآن المجيد:.. «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة ١٧٩).. الردع فى العقاب يجرى على محورين، ردع خاص يتجه إلى الجانى الذى أخطأ وتعدى على حقوق الناس أو على حيوات الناس، والردع العام الذى يحذر الناس.. كل الناس، ويقترب تحذيره ونذيره أكثر إلى من به أو بهم استعداد للاستهانة بالجرم والاعتداء على الحرمات أو الأرواح.. الجانى الملاحق بعقاب الدنيا والسلطة الحاكمة، ملاحق أيضًا بعقاب السماء.. قد يستطيع الجانـى أن يتوارى عـن الناس بجرمه، وأن يفلت ـ استخفاءً ـ بجريرته، وأن يفلت بالتالى من عقاب الدنيا.. والناس، ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يفلت من عقاب الله الذى ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم السـر وما يخفى.. فى القرآن المجيد: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».. (النساء ٩٣).. لا ينجيه من هذا العذاب المقيم أن يلقى جزاءه فى الدنيا بعقاب ينزل به، أو بفدية يقبلها أهل المجنى عليه منه، أو بعفو يبذلونه له!!.. وفى صحيحى البخارى ومسلم، عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم ـ بيانًا منه لبشاعة القتل وفداحة جرمه الذى ينتزع روحًا خلقها الله ـ كان يقول: «ليس من نفسٍ تُقتل ظلمًا ـ إلاّ كان على ابن آدم الأول (قابيل) كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل».. فى الحديث الشريف أن كل الآدمى على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل نفس بغير حق».. «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا فى دم مؤمـن لأكبهم الله فـى النار.».. يحذرهم عليه الصلاة والسلام فيقول لهم:«إن قتل النفس التى حرم الله» ـ من السبع الموبقات!!

ملاحقة القاتل بهذا الترهيب متعددة فى الإسلام. فى القرآن المجيد:.. «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ».. (المائدة ٤٥).. نفس الآدمى كما هى عزيزة عليه فإنها عزيزة على سواه، وكما هى غالية عنده فإنها غالية على غيره.. احترام الآدمى لروحه وحرصه عليها، يجب أن يردعه عن المساس بأرواح الآخرين.. إذا علم أن قبض روحه الغالية عليه هو هو ذات الجزاء العادل على إزهاقه روحًا أخرى، ردعه هذا عن المساس بأرواح الناس!.

* * *

كان الجفاة الغلاظ، يستخفون قبل الإسلام بالروح الإنسانية، حتى فى بنيهم وفلذات أكبادهم، يئدون البنات كراهةً لإنجابهم أو مخافة لحاق العار بهم، ويقتلون أولادهم خشية الإملاق والفاقة ونضوب القدرة على إعاشتهم والإنفاق عليهم.. إلى هؤلاء نزل القرآن الحكيم مقدسًا للروح الإنسانية، آمرًا باحترامها.. يقول للوائدين منذرًا ومحذرًا ومرّهبًا.. « وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَى ذَنبٍ قُتِلَتْ». (التكوير ٨، ٩). هذا البيان القرآنى إنما يرد على سبيل التبكيت والتقريع للوائدين.. لافتا منبها إلى أن الموءودة لم ترتكب بداهة ما يبيح أو يبرر قتلها؟!.. هؤلاء ضعاف العقول والأفهام الذين فيهم قـال القرآن: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ» (النحل ٥٨، ٥٩).. ويقول القرآن لفاقدى الثقة والإيمان، القاتلين لأولادهم خشية الفقر والإملاق.. «وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا» (الإسراء ٣١) (الأنعام ١٥١).. الخوف من الفاقة هو ضعف فى الإيمان.. المؤمن الحق يعلم أن الله تعالى هو الرزاق.. ما من مخلوق إلاّ ويوافيه سبحانه برزقه، حتى الدواب.. «وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا» (هود ٦).. لاتنتهى الآية الكريمة فى نهيها عن هذه الجريمة الكبرى التى نهت عنها، دون أن تقول إن ما مضى من هؤلاء الجفاة الذين استحلوا قتل أولادهم إنما كان خطًا كبيرًا!!

من هذا الحرص الحريص على الروح الإنسانية وعلى الحياة، ما روى عن رسول القرآن.. كان صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار «.. فقيل هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه».. بل إن الإسلام فى حرصه على الروح وعلى الحياة الإنسانية نهى عن الانتحار، وعده قتلًا لنفسٍ حّرم الله تعالى قتلها.. حتى على صاحبها.. وفى حديث رسول القرآن: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته فى يده يتوجأ بها فى بطنه، فى نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدا.. ومن قتل نفسه بسم، فسمه فى يده، يتحساه فى نار جهنم، خالدًا مخلدًا فيها أبدا.. ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مترد فى نار جهنم، خالدًا مخلدًا فيها أبدا «.. وروى الشيخان عن جندب البجلى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « كان من قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينًا فَحَزَّ بها يده فما رقأ الدم (أى لم يتوقف عن النزف) حتى مات، قال الله تعالى: «بادرنى عبدى بنفسه حرمت عليه الجنة»..

* * *

تقرير مبدأ شخصية المسئولية فى الإسلام، يصب فى النهاية فى صالح الروح الإنسانية وعدم جواز المساس بها ووجوب احترامها والنأى بها عن أى عقاب إلاّ لوزر شخصى ثبت فى حقها ثبوتًا مؤكدًا معدودًا يستوجب عقابها حقًا وعدلًا.. بغير ذلك فإن الروح مصونة لا تُمس.. فى شرعة الإسلام أن المسئولية شخصية.. لا يسأل الشخص إلاّ عما فعل، لا محل لمساءلته ـ شرعًا عن فعل سواه مهما كانت درجة قرابته أو انتمائه إليه.. المسئولية فى شريعة الله شخصية.. فى القرآن الحكيم: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ « (الإسراء ١٣)، « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ». (الطور ٢١).. وفيه أيضًا: « ولا تزر وازرة وزر أخرى «. (الأنعام ١٦٤، فاطر ١٨).. «أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى». (النجم ٣٨، ٣٩).. «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». (الزلزلة ٧، ٨).. ـ فلا يلحق العقاب، ولا يجوز أن يلحـق، إلاّ بمـن ارتكـب الجـرم وثبت فى حقه ثبوتًا يقره الشرع والقانون، بغير ذلك تكون المساءلة ظلمًا، «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ». (غافر ٣١)..

أينما يطوف المسلم، وغير المسلم ـ فى رياض الإسلام، يجد دوحة أظلت الروح الإنسانية بكل رعاية وأقامت سياجًا عاليًا لحفظها.. الدين الذى يقدم هذا كله، حرصًا على الروح الإنسانية، وحماية ووقاية لها، آخر ما يمكن أن يتهم به الإسلام أن يقال إنه يبيح الاستهانة بالأرواح.. إن الدين الحنيف الذى يقيم هذه الترسانة الحكيمة لوقاية الروح الإنسانية واحترامها وحمايتها والحفاظ عليها ـ لا يستهين ولا يمكن أن يستهين بها.. يبقى للإسلام أنه قدَّس الروح الإنسانية تقديسًا لا مثيل له فى أى دين من الأديان أو شريعة من الشرائع.. هذا الدين الجامع الذى أنزله الله تعالى رسالة للعالمين.

هل الخلافة بالذات

أصل من أصول الحكم فى الإسلام؟!

لم يكن حسب من خاضوا فى الدماء ـ أنهم حسبوا أنفسهم على الإسلام وكفى، بل حسبوا «الخلافة» (المعيبة) التى مارسوها ـ أصلًا من أصول الحكم فى الإسلام، واتخذوا من الخلافة الراشدة، للخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان ن وعلى ـ ذريعة لهذا الاعتساف!

مع أن ولاية هؤلاء الأربعة الراشدين، لم تكن ولاية ثيوقراطية يزعم فيها القائم على الأمر بأنه ظِل الله فى الأرض، يعبر عن إرادته، ويتحدث بحديثه، وقامت تولية كل منهم على البيعة، حتى وإن سبقها تزكية أو اختيار مثلما فعل الصديق فى شأن تزكية الفاروق، فقد كانت تزكيةً معلقةً على البيعة، ولم تكن هذه التزكية سندًا بذاتها لولاية الأمر ما لم تتدعم ـ وقد تدعمت ـ بالبيعة الحرة، ولم يتبن أى من الراشدين الأربعة المفهوم الوراثى لولاية الأمر، فقد كان أبو بكر من «تيم»، وكان الفاروق عمر بن الخطاب من «بنى عدى»، وعثمان من «بنى أمية»، وعلىّ من «بنى هاشم»، ولم يورث أحدٌ من هؤلاء ولاية الأمر من بعده لأحدٍ من أولاده، ورفض الإمام علىّ حين طعن وأشرف على الوفاة، أن يعهد بولاية الأمر لابنه «الحسن» سبط النبى عليه الصلاة والسلام، ومن قبل علىّ شرط الفاروق لضم ابنه «عبد الله بن عمر» لمجلس الشورى، ألاَّ يكون له من الأمر شىء، وأن وجوده لمحض إبداء الرأى والترجيح إذا تساوى عدد الأصوات بين الستة. كما وأن ولاية كل من هؤلاء الأربعة قامت على الشورى، فكان كل منهم يشاور ما وسعته المشاورة والاستفادة بأصحاب الرأى، ولم يقم أى منهم بإراقة الدماء توطيدًا لسلطان أو ركوبًا على رقاب الناس، وقد رأينا الصديق يبدأ ولايته قائلا: «أما بعد، فإنى وليت أمركم ولست بخيركم.. إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإنْ أنا أحسنت فأعينونى، وإنْ أنا زغت فقومونى». وفى أولى خطبه للصلاة الجامعة، قال مما قال: «لوددت أن هذا الأمر كفانيه غيرى، ولئن أخذتمونى بسنة نبيكم لا أطيقها، إنه صلى الله عليه وسلم كان معصومًا من الشيطان، وكان ينزل عليه الوحى من السماء».

ورأينا عمر بن الخطاب يقول بعد مبايعته «اقرءوا القرآن تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا يوم العرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذى حق أن يطاع فى معصية الله (فلا طاعة فى معصية)، ألا وإنى نزلت نفسى من مال الله. بمنزلة ولى اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف». وروى عنه عليه الرضوان أنه كان يقول: «لو علمت أن أحدًا أقوى على هذا الأمر منى ـ لكان أن أُقَدَّم فتضرب عنقى أحب إلىّ من أن أليه ـ أى أتولى عليه».

وكان مدار خطبة عثمان بن عفان فور مبايعته، على فتنة الدنيا والوعد باتباع السنن واجتنات البدع وتهدئة النفوس من قبل ما تخافه، ومما قال فى هذه الخطبة: «ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلًا. ألم تلفظهم؟ . ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها».

وقال فى أوائل خطبه: «... إنى قد حملت وقد قبلت، ألا وإنى متبع ولست بمبتدع. ألا وإن لكم علىّ بعد كتاب الله عزّ وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: اتباع من كان قبلى فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنَّة أهل الخير فيما لم تسنّوا من ملأ، والكف عنكم إلاَّ فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خَضِرة قد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلاّ مّن تركها..».

أما علىّ بن أبى طالب، فقد بويع والمدينة ملأى بالثورة والثائرين، ومما جاء فى خطبته يوم مبايعته وتوليه: «إنما أنا رجل منكم لى ما لكم وعلىّ ما عليكم، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلاَّ أهل الصبر والبصر والعلم بواقع الأمر، وإنى حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ ما أمرت به إنْ استقتم والله المستعان، فامضوا لما تؤمرون، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا فى أمر حتى نبينه لكم. ألا وإن الله عالمٌ من فوق سمائه وعرشه أنى كنت كارهًا للولاية حتى اجتمع رأيكم على ذلك.. ألا وإن من دخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدًا حُسْن الجزاء وأفضل الثواب».

وحسبك أن تعرف أن الإمام علىّ قد استأنف فى الناس سيرة عمر بن الخطاب ـ من حيث كانت قد انقطعت.

ولن تحتاج إلى عناء كبير أو قليل، لإدراك أن ما تلا زمن الراشدين، فى الدولة الأموية، وفى الدولة العباسية والدول المتفرعة عنها أو الموازية لها، وفى الدولة العثمانية، لم يكن له علاقة فى كثير أو قليل بالخلافة التى كانت فى زمن الراشدين، حتى وصفها الأستاذ السنهورى مع تشيعه لنظام الخلافة، فى رسالته الثانية سنة ١٩٢٦ م عن «فقه الخلافة»، بأنها كانت «خلافة ناقصة»، لغيبة البيعة، وشيوع التوريث، وغياب الشورى، وحلول الاستبداد، ووصفها ابن خلدون فى «مقدمة» تاريخه بأنها لم تكن خلافة خالصة.

ومع ذلك يبقى السؤال الذى يتعين الإجابة عليه بصدق وموضوعية: هل الخلافة بعامة، أصل أم لا من أصول الحكم فى الإسلام؟

الرسول عليه الصلاة والسلام

لم يستخلف أحدًا

قبل انتقاله للرفيق الأعلى؟!

من المؤكد المقطوع به، أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يستخلف أحدًا فى حياته، ومن المؤكد المقطوع به أيضًا، أنه لاقى ربه دون أن يستخلف من بعده أحدًا، ولو فعل لانقطعت أى إدعاءات، ولانقطع أيضًا أى خلاف، فما كان لأحد، لا من المهاجرين أو الأنصار، أن يدّعى شيئًا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام، أو يوصى به!

وسيرة النبى عليه الصلاة والسلام تقطع بذلك وتؤكده، فقد خلت من أى أمر أو توصية بالخلافة، لا لأحدٍ بعينه، ولا بصفة عامة، وليس يخفى أن النبوة غير قابلة للتوريث أو الخلافة، فلا أحد أيًّا كان شأنه يمكن أن يخلف الرسول فى نبوته، بل إن هذه النبوة أولى بعدم جواز التوريث من المال الذى صرف إليه البعض حديثه عليه الصلاة والسلام: «نحن الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» ـ وقد يُقال إن الشطر الأول من الحديث ينصرف إلى «النبوة» بالذات، بقوله عليه السلام: «نحن الأنبياء لا نورث»، وأن الشطر الثانى «ما تركناه صدقة» ينصرف إلى المال، وقد أخذ البعض الحديث كله على التعميم، فى المال، وفى غير المال، بل وفى النبوة أولى، وهو ما يُروى من موقف الصحابى أبى هريرة ترشيدًا لمن تنازعوا على المال، حين ذهب إلى المسجد وأشار إلى المصلين والراكعين والساجدين والقائمين، قائلا هذا هو ميراث رسول الله، من أخذه أخذ بحظًّ وافر.

أعود فأقول بغض النظر عن هذه الاستطرادة، أنه من المؤكد المقطوع به أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمر ولم يوص بخلافة فى شئون الدنيا، ولم يأمر أو يوص بخلافة أحد بعينه ليقوم على أمر المجتمع الإسلامى فى شئون الدنيا، أما النبوة فلا مجال بداهةً وأصلًا للخلافة فيها.

ولو كان عليه الصلاة والسلام ـ قد أوصى لأحد، ما أباح الأنصار لأنفسهم أن يرشحوا أحدهم لولاية الأمر يوم سقيفة بنى ساعدة، ولو كان عليه الصلاة والسلام قد أوصى لأحد بعينه، لما جرؤ الفاروق على أن يقول لأبى عبيدة بن الجراح فى ذلك اليوم: «امدد يدك أبايعك»، ولو كان قد أوصى لكان رد أبى عبيدة خلاف الرد الذى رد به، ولصرَّح فى وضوح وجلاء بمن أوصى النبى أن تكون له إدارة المجتمع فى شئون الدنيا، ولو كان عليه السلام قد أوصى، لالتزم أبو بكر الصديق بوصيته لحظة أن لحق بالسقيفة، ولاستند إلى من أوصى الرسول إليه بولاية أمر الدنيا، ولما كان قد بدأ بترشيح أىًّ من الرجلين: عمر وأبى عبيدة!

ولم يتحدث الصديق يوم بويع، ولا بعده، بأنه يتوسد حكم أو إدارة المجتمع، بأمر أو بتوصية من الرسول عليه الصلاة والسلام، بل كان يقول ـ ومثله الفاروق من بعده ـ إنه قد تولى أمر المسلمين وليس بخيرهم، فإن وجدوا فيه استقامة أعانوه، وإذا انحرف عن الجادة ردّوه وقوموه.

وآيات القرآن، والسنة النبوية، شاهدان على هذه الحقيقة من قبل استخلاصها من السيرة.

وبرغم الوحى ورسالة النبوة والهداية، فإن إدارة الرسول عليه الصلاة والسلام للمجتمع الإسلامى بالمدينة، لم تكن إدارة ثيوقراطية تنسب نفسها إلى إرادة الله عز وجل، بل كان عليه الصلاة والسلام يقول للمسلمين فى أكثر من مناسبة: «أنتم أعلم بشئون دنياكم».

لم يخالف سكوت النبى صلى الله عليه وسلم عن الاستخلاف

لم يخالف أصلًا من أصول الإسلام

من المؤكد أن القرآن الحكيم قدم مبادئ للحكم، يصح بها الحكم، ويصح بها كل مجتمع موكل الأمر فيه إلى من يرعاه ويقوم على إدارة شئونه.

ولكن يبقى السؤال، هل حدد القرآن شكلًا معينًا بذاته لنظام الحكم، لا يكون الحكم إلاَّ به وعلى أساسه، أم أنه أورد المبادئ الحاكمة، تاركًا شكل الحكومة ونظامها إلى واقع الحياة الذى يتغير بتغير الظروف واعتبارات الزمان والمكان.

مبادئ للحكم والشورى والمساواة

أورد القرآن الحكيم آيات واضحة الدلالة حددت مبادئ يلتزمها الحكم أيًّا كان نظامه، ويلتزمها كل راعٍ أو مسئول فى الإطار الذى يتولاه أو ينهض عليه أو يقوم فيه بدور.

يقول الحكم العدل عز وجل:

«وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الشورى ٣٨)

«وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» (آل عمران ١٥٩)

«وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (الشعراء ٢١٥)

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (الحجرات ١٠)

«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (الكهف ١١٠)

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ» (آل عمران ٦٤)

«وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ» (ق ٤٥)

«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية ٢١، ٢٢)

«وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» (النساء ٥٨)

ومن هذه الآيات ما يصف المؤمنين أو يخاطبهم عامة، ومنها ما يتجه بخطابه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام آمرًا أو موجهًا أو موصيًا.

فمن صفات المؤمنين المستقاة من الآيات، أنهم إخوة، وأن أمرهم شورى بينهم، وأن العدل هو أساس الحكم فيما بينهم، وأن المجتمع الإسلامى يتسع لأهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين ألاَّ يعبدوا جميعًا إلاَّ الله، وألاَّ يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله...

والرسول عليه الصلاة والسلام، مأمور من ربه سبحانه وتعالى أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأن يشاورهم فى الأمر، وخطابه لهم قوامه أنه بشر مثلهم يوحى إليه، وأن إلهه وإله الجميع واحد، وما هو عليهم بجبار، وليس عليهم بمسيطر، وإنما خطابه إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة..

ومن المؤكد أن القرآن الكريم تضمن مبادئ يجب الالتزام بها فى الحكم، وإن كان لم يقدم تصورًا تامًا أو صورة شاملة للحكومة، فالشورى أو المشاورة مبدأ، وعدم الاستبداد أو التجبر مبدأ، وخفض الجناح للتابعين مبدأ، والأخوة بين المؤمنين مبدأ، والعدل فى الحكم بين الناس مبدأ، وتحمل التبعة مبدأ، والتعاون فى البر والتقوى لا فى الإثم والعدوان مبدأ، والأمانة فى الحكم وفى غير الحكم ـ مبدأ، وعدم كنز الأموال مبدأ، والتطهر بالزكاة والصدقة مبدأ. هذه مبادئ وردت نصًّا فى آيات القرآن الحكيم، ولكنها مبادئ عامة يجب التزامها، فلم يورد مثلًا تفاصيل للشورى، وإنما دعا دعوة عامة للشورى والمشاورة دون أن يحدد لها أسلوبًا محددًا، ولم يورد القرآن شكلًا محددًا يمكن أن يقال إنه قدم به «حكومة إسلامية» على شكل معين، وإن كان قد قدم المبادئ التى يتعين على كل أنواع وأشكال الحكم والحكومات أن تلتزم بها.

بيان القرآن الحكيم واضح

أورد المبادئ ولم يفرض نظامًا سياسيًا بعينه

بيان القرآن الحكيم واضح جلى، فهو لم يحدد شكلًا ولا نظامًا معينًا للحكم، وإنما أورد مبادئ يلتزمها كل حكم أيًّا كان شكله، محكومًا بهذه المبادئ الواضحة الجلية، والمؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام لاقى ربه دون أن يستخلف أحدًا بعينه، ولو استخلف لما استطاع أحدٌ من أصحابه ومن المؤمنين به أن يخالف ما أمر به، ولا كان الأنصار قد اجترأوا على أن يجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة يوم وفاته لمبايعة واحد منهم يتولى أمر المسلمين، ولا كان عمر بن الخطاب قد اجترأ على أن يقول لأبى عبيدة بن الجراح امدد يدك أبايعك، ولما اقتصر أبو عبيدة فى عتابه له على الإشارة إلى مكانة أبى بكر الصديق ولكونه ثانى اثنين إذ هما فى الغار، ولذكر استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم له، ولكان الأولى بعمر وبأبى عبيدة أن يلتزما بمن استخلفه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكان هذا هو أيضًا شأن أبى بكر نفسه ـ الذى كان عنوانًا للاقتداء بسنة النبى عليه الصلاة والسلام والالتزام بأوامره ونواهيه، ولما بدأ فى السقيفة بعرض مبايعة أحد الرجلين عمر أو أبى عبيدة، ولحاجى الأنصار والجميع بمن استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم ولإلتزم الجميع بهذا الاستخلاف.

فمن المقطوع به أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدًا بعينه ولا حَدَّد نظامًا معينًا يلتزمه المسلمون فى الحكم، ولا تحدث إليهم بشىء من ذلك، وإنما اجتهد المسلمون ـ أصابوا أم أخطأوا ـ فى اختيار نظام يديرون به شئونهم على هدى المبادئ القرآنية الواضحة القطعية الدلالة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بينهم.