أنار الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، فى كتابه " مفاهيم يجب أن تصحح فى فقه السيرة والسنة"، الطريق أمام قطاع كبير من المسلمين وفتح باب القراءة الواعية المستنيرة لتراثنا الفكرى المتغير الذى ينبغى أن يبنى على الفهم الصحيح للنص الثابت، فى ضوء مراعاة واقع العصر وظروفه المعتبرة، وساهم فى تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة فى قضايا غاية فى الأهمية، منها تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم فى إدرة الدولة والخلط بين العادات والعبادات وبعض قضايا الأسرة والسكان، وحقيقة الزهد ومفهوم العلم النافع، والجمود الشكلى عند بعض ظواهر السنن والمستحبات.
لم تتجاوز عدد صفحات الكتاب 95 صفحة، ورغم ذلك يعتبر الكتاب مرجعاً علميًا فريدًا ومهماً للباحثين عن الفهم السليم للسنة النبوية الشريفة وسيرته المعطرة، احتوى الكتاب على 8 مباحث شدد خلالها وزير الأوقاف على أهمية التدقيق فى صحة ما ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة وضرورة الفهم الصحيح والمقاصدي له من جهة أخرى، مع العمل الجاد والدءوب على تصحيح المفاهيم الخاطئة فى فقه السيرة والسنة.
تناول الدكتور مختار جمعة فى المبحث الأول من كتابه، قضية الحرب فى الإسلام هل كانت غزوات أم أيام ورد عدوان؟، لكونها من أكثر الموضوعات التي تحتاج دراستها إلى إعادة نظر، وذلك لأن أكثر الجماعات المتطرفة فى عصرنا الحاضر قد ركزت فى قراءة السيرة النبوية وكتابتها وتدريسها على موضوع الغزوات كجانب تكاد تجعله وحيدًا أو الأبرز –على الأقل- فى السيرة النبوية؛ لأنها كانت تجيد استخدام هذا الجانب فى تهييج مشاعر وإلهاب حماس عناصرها وكوادرها، بل تتخذ من ذلك وسيلة لإثارة العامة أحيانًا كثيرة.
وعلى عكس الصورة التى يروج لها أعداء الإسلام فقد كانت حروب الرسول الكريم دفاعية إما دفعًا لعدوان، أو ردًا لاعتداء، وإمام دفعًا لخيانة أو تآمر، أو لنقض الأعداء عهدهم معه، ولم تكن أي منها اعتداء على أحد، لذا يرى وزير الأوقاف أنه كان من الأنسب والأدق التعبير عنها بلفظ يوم وليس بلفظ غزوة كما جاء فى بعض كتب التاريخ والسِّير.
وأكد وزير الأوقاف أن الحرب ليست غاية ولا هدفاً لأى دولة أو حكم رشيد، وليست نزهة أو فسحة، لكنها قد تكون ضرورة للدفاع عن النفس والعرض والمال والديار والأوطان، وكيان الدولة ووجودها، وحمايتها من الأخطار التى تتهددها، دون أى تجاوز أو بغى أو إسراف فى الدماء، موضحا أن الإسلام دعانا إلى الإقساط إلى جميع المسالمين وبرهم وإجارتهم إن استجاروا بنا.
وأشار إلى أن المراد من قول الله تعالي "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ"، هو ردع العدو من أن يعتدي علينا، فلو تحقق الردع دون قتال، إنها لأسمى غاية وأنبل هدف.
وشدد على أن إعلان حالة الحرب المعبر عنها فى العصر الحديث بحالة التعبئة وعند الفقهاء بالجهاد القتالي، ليست أمرًا متروكا لعامة الناس، وإنما هى سلطة الحاكم فى ضوء ما يقرر قانون كل دولة ودستورها، وأنه ليس لأحد أن يخرج للقتال من تلقاء نفسه فى غير ما ينظمه القانون والدستور، وإلا صار الناس إلى أبواب الفوضى لا تسد.
وفى المبحث الثانى تطرق وزير الأوقاف للحديث عن العبادات والعادات، مبينًا خطأ فادحًا يرتكبه الشخص المسلم، وهو الخلط بين سنن العبادات وأعمال العادات وإلباس أعمال العادات ثوب سنن العبادات، بل والأدهى والأمر من ذلك هو الانغلاق والتحجر والإصرار غير المبرر على ذلك، مع أن الأصل فى السنة أن من فعلها فله أجرها وثوابها ومن لم يفعلها فاته هذا الأجر والثواب.
وبينما دعا الوزير إلى الحرص على الالتزام بالسنة النبوية رغبة فى عظيم الأجر والثواب، شدد فى الوقت نفسه على ضرورة التفريق بوضوح بين ما هو من سنن العبادات وما يندرج فى أعمال العبادات، كذلك فهم ما ورد من آراء بعض العلماء فى ضوء عادات قومهم وزمانهم ومكانهم، وساق الدكتور مختار جمعة الكثير من الأمثلة التى تدعم رؤيته فى تنقية التراث الإسلامي، موضحا أن حثه صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عرفة أو عاشوراء أمر تعبدى يدخل فى سنن العبادات، وكذلك بدؤه صلى الله عليه وسلم الوضوء بغسل يديه ثم تمضمضه واستنشاقه من سنن العبادات، أما ما يتصل باللباس ووسائل السفر ونحو فهو من باب العادات، ومرجع العادات إلى العرف والعادة وما يراه الناس ملائما لعصرهم وبيئاتهم وطبيعة عملهم، ما لم يخالف ثابت الشرع الحنيف.
وتناول وزير الأوقاف فى المبحث الثالث مخاطر الجمود الشكلى عند ظواهر بعض السنن والمستحبات، مقدما قراءة مقاصدية عصرية للسنة النبوية تتواكب مع روح العصر ومستجداته، وتقرب السنة العظيمة إلى الناس بدلا من تلك الأفهام والتأويلات التى تنفر الناس منها ومن الدين، وذكر الكتاب أنموذجين الأول: فهم أحاديث السواك، والثانى: فهم أحاديث نظافة الفراش قبل النوم.
وبين وزير الأوقاف، أن الجمود الفكرى عند ظواهر النصوص والمعني الحرفي لها دون فهم مقاصدها ومراميها وغاياتها قصور رؤية وضيف أفق يوقع صاحبه فى كثير من العنت والمشقة والانعزال عن الواقع وربما مصادمته، فى حين أننا لو أمعنا النظر فى فهم المقاصد العامة للتشريع، وقرأنا السنة النبوية المشرفة بما تحمله من وجوه الحكمة واليسر قراءة
مقاصدية واعية لأبرزنا عظمة ديننا العظيم وجوهره السمح النقي، وغيرنا تلك
الصورة السلبية التى سببتها أو سوقتها الأفهام والتفسيرات الخاطئة للجماعات
الإرهابية والمتطرفة والمتشددة ورؤى أصحاب الأفهام السقيمة الجامدة
المتحجرة على حد سواء.
وكشف وزير الأوقاف المبحث الرابع الذى تناول فهم حقيقة الزهد، موضحا أنه
أمر قلبي وليس أمراً شكليًّا، ولا يعني أبداً الانعزال عن الحياة، ولا ترك
الأخذ بالأسباب والتقاعس عن عمارة الكون وصناعة الحياة، كما أنه ليس قرينا
للفقر وإنما الغني، ليمللك الإنسان ثم يزهد، مشيراً إلى أن النظرة الخاطئة
للزهد جرَّت إلى السلبية والاتكالية والبطالة والكسل والتواكل والتخلف عن
ركب الأمم.
وتحدث الدكتور مختار جمعة فى المبحث الخامس من كتابه، عن تصرفات النبي
فى إدارة الدولة، مبيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيًّا
فحسب، وإنما كان نبيًّا ورسولاً وحاكمًا وقائدًا عسكريًّا، فما تصرف فيه
باعتباره نبيًّا ورسولاً فيما تصل بشئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق
وصح نسبته إليه أُخذ على النحو الذى بينه لأصحابه، ولا يختلف أمر البيان
فيه باختلاف الزمان أو المكان كونه من الأمور الثابته سواء اتصل بأمر
الفرائض كصوم أو صلاة أو زكاة أو حج، أم بأمر السنن الثابتة عنه كصوم عرفة
أو عاشوراء، أما تصرفاته بصفته نبيًّا وحاكمًا أو قائدًا عسكريًّا، أو
قاضيًا، فهو تصرف باعتبارين: الأول باعتباره نبيًّا والثاني باعتباره
حاكمًا أو قائدًا، أو قاضيًا.
وفى المبحث السادس، أوضح وزير الأوقاف أن نظام الحكم فى الإسلام قائم
على مراعاة مصالح البلاد والعباد، لافتا إلى أن الإسلام لم يضع قالبًا
جامدًا صامتًا محددًا لنظام الحكم لا يمكن الخروج عنه، وإنما وضع أسسا
ومعايير متى تحققت كان الحكم رشيدًا يقره الإسلام، ومتى اختلت أصاب الحكم
من الخلل والاضطراب بمقدار اختلالها، وذكر أن كل حكم يسعى إلى توفير
الحاجات الأساسية للمجتمع منن مأكل ومشرب وملبس ومسكن وبنَّى تحتية من :
صحة وتعليم وطرق، ونحو ذلك مما لا تقوم حياة البلاد والعبادة إلا به، فإنه
يُعدُّ حكما رشيدًا سديدًا موفقا، مرضيا عند الله وعند الناس إلا من حاقد
أو حاسد أو مكابر أو معاند أو خائن أو عميل، لافتا إلى أن الله ينصر الدولة
العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، وأن
الدولة قد تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، لأنه لو كان
هناك إسلام حقيقي لما كان هناك ظلم وجور.
كما استشهد وزير الأوقاف بكلمة القاها الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر فى
مؤتمر "الأزهر فى مواجهة الإرهاب والتطرف"، للرد على من يتخذون من قضية
الخلافة وسيلة للمتاجرة بالدين واللعب بعواطف العامة محتجين ببعض النصوص
التى تسقطونها إسقاطا خاطئا دون أي دراية بفقه الواقع، أو تحقيق المناط من
جهة.
وحذر مما تنطوى عليه الجماعات المتطرفة من حقد على المجتمع وتربص به،
وعمل على الإيقاع به بشتى الطرق سواء بالتخريب المباشر أو بالتعويق
والتعطيل والتشويه وقلب الحقائق، محذرا أيضًا من حملات التشويه وقلب
الحقائق من خلال المواقع الإلكترونية، وبعض الوسائل الإعلامية التى تتسلل
عبرها هذه العناصر محترفة الكذب والتدليس، وعلينا أن نثبت حقائق الأخبار
حتى لا نقع فى شراك ما تريده هذه الجماعات من فوضى.
واختتم وزير الأوقاف كتابه سلسل اللغة بالمبحثين السابع: الذى تحدث فيه
عن بعض أحاديث النكاح والنسل، والثامن: فهم حديث "من سلك طريقا يطلب فيه
علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة".