الأربعاء 25 سبتمبر 2024

ذكريات ناقصة عن حياة مستمرة

22-4-2017 | 10:23

رءوف مسعد - كاتب مصري

أنا – الآن – في الثمانين من عمري (شهر مارس).

 قضيت السنوات السبع الأوائل من عمري في المدينة الساحلية السودانية التي وُلدت فيها: بورت سودان، ويلفظها السودانيون وغيرهم بورسودان.. لا أذكر منها إلا لمحات مضببة.. لكني زرتها أكثر من مرة بعد ذلك بدافع النوستالجيا! وكتبت قصة عن "قطط بور سودان" المشهورة بأنها تكلم الزبائن في مطاعم المدينة.

    مدينة أخرى شاركت بشكل أساسي في تشكيلي. هي واد مدني، ويلفظها أهلها "مدني" باعتبارها أشهر من نار على نهر النيل الأزرق القادم من الحبشة!

   مدني، كتبت عنها كثيرا في "بيضة النعامة"، هي المدينة التي شكّلت صباي ومراهقتي الأولى، بل كشفت لي هوياتي المتلاحمة المسيحية والمصرية الحديثة والسودانية.. والفرعونية.. ففي مدني اكتشفتُ أني مختلف عن بقية الأولاد من الأهالي.. اكتشفت أني "المصري" واكتشفتُ أني "النصراني" وأني أيضا بالإضافة إلى هذا وذاك "حطب النار" كما كانوا يزعقون في وجهي.

    لا أتذكر إن كان هذا – وذاك وغيره – أزعجني أم أثلج صدري؟ أم اعتبرته أمرا طبيعيا واعتياديا، باعتباري مختلفا وبالتالي متميزا؟!

    في مدني أوصلني والدي الذي اكتشف ولعي بالقراءة إلى المكتبة الوحيدة في المدينة التي تُعتبر عاصمة النيل الأزرق (التي لم يكن بها سوى عربة تاكسي وحيدة يمتلكها سائقها وسميناه نحن الأولاد عوض القرد) أوصلني إلى "سودان بوك شوب" الذي سمح لي صاحبه أن أجلس على الأرض بالشورت، وأختار من الكتب "العربية" ما يعجبني وما يثير خيالي. والمجلة السودانية الوحيدة المخصصة للصبية "الصبيان" التي كنت أتابع فيها أسبوعيا بشغف مسلسل "مغامرات علي الكردفاني".

العودة إلى بورت سودان

   رجعت إلى بورت سودان بعد إطلاق سراحي من معتقل الواحات عام 1964 بحوالي ثلاث أو أربع سنوات، متتبعا مغامرة فاشلة، متأثرا بخطى والدي في الهجرة من مصر والعمل في السودان.. من الخرطوم، حيث التقطت أنفاسي أنا القادم بالقطارات والبواخر في الدرجة الثالثة؛ حيث أصدقاء الصبا والشباب.. ثم سافرت إلى بورت سودان لأجد نفسي هناك بعد أيام قليلة مفلسا. فلم أكن أمتلك خبرة – بعد – بالسفر وتطوراته، ولم ينقذني سوى "مرشد سفن" مصري يعمل في الميناء السوداني منذ إغلاق قنال السويس وقت حرب 1967.. آواني في بيته مقدما لي طعاما ومأوى ثم ترحيلة إلى الخرطوم مجانية على ظهر لوري بضاعة.

العودة إلى مدني

مدني رجعت إليها بشكل مختلف بعد سنوات.. نقودي في جيبي وأكثر خبرة بالسفر. وجدت فندقا لطيفا يطل على النيل ومنه كنت أقوم برحلات يومية محاولا "استرجاع" زمن مفقود (كما يقول بروست) لكني فشلت!

   المدينة تغيرت ببطء ولم تتغير كثيرا. عرفت طريقي بالتاكسي – طبعا – إلى مدرسة الاتحاد التي درست فيها دراستي الابتدائية، وكان خالي وديع يعمل "ضابطا" بها. تغيرت أيضا جنينة كعكاتي التي كانت تقع على النيل ومليئة بالمراجيح والمسرات الدنيوية وخاصة الآيس كريم الذي كنا نسميه الجيلاتي والدندرمة. الجنينة كان يمتلكها مهاجر "شامي" كما كنا نطلق على أهل لبنان وسوريا وفلسطين أيامها وأصبح اسمها في ظل الإدارة الإسلامية للدولة "حديقة الشهداء".. بها مطاعم صغيرة على قد الحال ومشروبات طازجة بسيطة أيضا رغم أن السودان مليء بالفاكهة الرخيصة.. مزرعة إفريقيا!

   قفلت عائدا إلى الخرطوم بالقطار الذي ركبته بمفردي لأول مرة وأنا في حدود العاشرة متجها إلى الخرطوم لأتقدم هناك لامتحان الشهادة الابتدائية.. استقبلني في المحطة آنذاك "عمي" الدكتور داوود إسكندر الذي استضافني في بيته.. وهو البيت الذي طالما رجعت إليه كل مرة أسافر إلى السودان.

مكتبة "تاجرت" في الكلية الأمريكية بأسيوط

    خمس سنوات قضيتها في أسيوط في الكلية الأمريكية بالقسم الداخلي.. لكن مكتبة الكلية الضخمة والتي اتخذت اسم "تاجرت" (لا أتذكر من هو) لتكريمه لعبت دورا أساسيا في ولعي بالقراءة وخاصة الروايات.. ففي المكتبة التي كان أمينها متعاطفا مع الصبية مثلي، اكتشفت كل أجزاء "طرزان" ثم الترجمات للروايات الغربية الكلاسيكية عدا الروسية، مثل بلزاك وموباسان وهوجو وغيرهم.. فالمدينة مقبضة والحياة في الأقسام الداخلية كئيبة، فليس هناك إذن من مسرة سوى القراءة.

الإسكندرية

   عرفت وأنا في معتقل الواحات أن عائلتي الصغيرة أمي وأختى الأصغر مني وأخي الذي يكبرني انتقلوا من القاهرة إلى الإسكندرية؛ حيث توجد عائلة أمي هناك من أخوال وخالات، وكذا أختى الكبرى وزوجها.. وهكذا وجدتني ذات صباح إبريلي عام 1964 مترحلا في قطار الدرجة الثالثة مع اثنين من الجنود ومعي أيضا اثنان من الرفاق الإسكندرانية!

    تخيل إذن بعد حوالي سنتين من معتقل الواحات الصحراوي وحوالي سنتين من سجون أخرى متنوعة لا ترى فيها الشمس ولا تسمع صوت البحر.. تجد نفسك – حتى لو كنت مترحلا مع عسكري – في الإسكندرية!

   أسلمت نفسي تماما للإسكندرية.. روحا وجسدا. ففي الوقت القصير المتاح لي لشخص حر فقد كان عليّ أن أقوم بأعمال يدوية في قسم باب شرقي كمقابل لعدم دفع غرامة قدرها مائة جنيه صاحبت الحكم.. من الثامنة صباحا حتى الثانية ظهرا.. ثم أهرع إلى السينما في حفلة الساعة الثالثة، وأراقب ساعتي بدقة لأكون في البيت قبل غروب الشمس حيث يجب أن أمتثل لتطبيق حكم "المراقبة" من غروب الشمس حتى شروقها في اليوم التالي وإلا أرجع إلى السجن مرة أخرى!

    لكن جميع ذلك لم يفت من عضدي (كما يقال) فقد استطعت إن أكتشف بارات الإسكندرية الصغيرة وأتمشى على الكورنيش مسافات طوال (فقد كنا نسكن في منطقة كليوباترا ).. وأن "أصاحب" فتاة لطيفة وأن أقوم ببضع مغامرات نسائية خاطفة!

    لا أستطيع أن أجزم بأن ثمة مدينة بعينها لعبت دورا أساسيا في تشكيلي، خاصة في مرحلة الصبا والمراهقة لكن من المؤكد أن المدينتين السودانيتين وخاصة مدني صبغتاني بصبغتهما وبثتا فيّ من أريجهما وروحهما ما قواني لكي أواصل رحلة حياة طويلة متنقلا بين مدن مختلفة.. محتفظا داخل روحي بروائح وذكريات ما تزال تراودني حتى الآن في أحلامي الليلية!

هكذا ابدأ رحلتي مع حياتي!

    ولدت ُفي مدينة وميناء بورت سودان على شاطئ البحر الأحمر في العشرين من مارس 1937، كما تقول شهادة ميلادي السودانية، والمكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية حيث وُضع بالعربية والإنجليزية "القبيلة  "TRIPوأمامها: مصري.

   ثم انتقلت إلى مدينة واد مدني (عاصمة أرض الجزيرة كما يطلقون عليها) وهي على النيل الأزرق القادم من هضبة الحبشة. قضيت بها سنوات صباي وسنوات المراهقة الأولى حتى "إتمام" الدراسة الابتدائية ومنها إلى مدينة أسيوط المصرية أدرس بالمرحلة الثانوية حيث كنت أبلغ أحد عشر عاما وبضعة شهور لأقيم مع إخوتي وبعض أبناء السودان مثلي في "الكلية الأمريكية" في القسم الداخلي بها أربع سنوات.. سينتقل في أواخرها والدي القسيس من واد مدني إلى الأقصر.

    الرحلة كانت تتم من مدني إلى الخرطوم بالقطار ثم راحة لبضعة أيام بالخرطوم في بيت "عمي الدكتور داوود إسكندر" وهو ليس عما لنا لكنه كان من أوائل الأطباء المصريين في السودان والذي واصل البقاء به واتخذ الجنسية السودانية بعد الاستقلال؛ بينما نزح والداي من السودان قبل الاستقلال.

   ومن الخرطوم بالقطار السوداني لمدة ليلة أو اثنتين – حسب الظروف فهو خط مفرد وبطيء- حتى نصل إلى ميناء وادي حلفا السوداني ومنه نستقل الباخرة إلى أسوان. ليلتان في الباخرة. ومن أسوان إلى أسيوط بضع ساعات!

   رحلة تستغرق حوالي أربعة أيام؛ من أحلى وألذ السفريات في حياتي؛ وحينما حاولت تكرارها بعد أن تجاوزت الستين أصابني هم وغم وتعب وإرهاق شديد!

    حينما قرر والدي الاستقرار في مصر كان قد تجاوز الخمسين وفي رقبته ثلاثة أولاد وبنتان. تم تعيينه في كنيسة مدينة الأقصر الإنجيلية وكانت الأقصر أول مدينة مصرية لنا كعائلة نستقر فيها. ومن الأقصر انتقل الوالد بعد أقل من سنتين إلى شبراخيت في الدلتا حيث مرض والدي واعتزل العمل في الكهنوت كوظيفة.

    وبعدها بقي في فراشه حتى مات.

    وكان ذلك بعد حصولي على ليسانس الآداب (قسم الصحافة) بوقت قصير، أي في صيف عام 1960..

    ولم أنعم كثيرا بحلاوة التخرج أو متعة البحث عن عمل فقد تم اعتقالي في 26 ديسمبر 1960 وقدمت إلى محاكمة عسكرية في قضية يتصدرها سكرتير الحزب الشيوعي المصري "أبو سيف يوسف أبو سيف" كمتهم أول، والمتهم الثاني المفكر إسماعيل المهدوي الذي لقي مصيرا بائسا في أيامه الأخيرة نتيجة معارضته اللحوحة للنظام الناصري الذي أودعه مستشفى المجاذيب وبقي فيه سنوات.

عن أماكن عشت فيها واستخدمتها في رواياتي

   شبراخيت كانت بعد سنوات طويلة هي الفضاء الذي استخدمته في العلاقة بين ابنة القس والشخصية الأساسية في الرواية "مزاج التماسيح" وجعلت القس والدها قسا بروتستانتيا مثل والدي (وسأرجع بعدين إلى "شخوص" رواياتي وقصصي وكيف "عثرت" عليهم). من شبراخيت إلى شقة صغيرة في العباسية، ومنها إلى شقة أصغر في الظاهر ومنها إلى شقة أرضية معتمة ورطبة في دير الملاك.. نحمل معنا والدي المريض. وأنا أصغر الصبية وأكبر من شقيقتي الصغرى ثريا بسبع سنوات.

   في عام 1956 التحقت بالجامعة أدرس الصحافة، وكنت قد التحقت قبل الجامعة بتنظيم ماركسي سري وتم إلقاء القبض علي في أواخر ديسمبر 1960. وقدمت إلى محاكمة عسكرية وحكم علي بأربع سنوات سجنا ومائة جنيه غرامة. لم أدفعها (بسبب عدم القدرة) حتى تم الإفراج عني وعن الآخرين في أبريل 1964 بمناسبة زيارة خروتشوف إلى مصر، وعملت بها "مصاريف" في قسم باب شرقي بالإسكندرية حيث التحقت بأسرتي التي تركت القاهرة وأقامت بالإسكندرية حيث عائلة والدتي من خالات وأخوال وكل ذلك حدث وأنا في السجن..

   واصطلاح مصاريف هو أن يعمل من عليه غرامة ـ ولا يستطيع دفعها ـ في قسم الشرطة ثلاثة أشهر (مهما كان مقدار الغرامة) أو يقدم نفسه للسجن ليُسجن ثلاثة أشهر أيضا. قضيت في الإسكندرية حوالي ثلاثة أشهر تحت رقابة الأمن من غروب الشمس حتى شروقها أمكث في منزلي. ثم جاء العفو النهائي فتركت الإسكندرية إلى القاهرة أبحث عن عمل، وعملت فري لانس في مجلة "آخر ساعة" ثم بأجر ثابت في وكالة نوفستي السوفيتية ثم في مكتبة بالزمالك تبيع الكتب الأجنبية مملوكة لأرملة شهدي عطية الشافعي السيدة روكسان.

    حصلت على منحة عام 1970 عبر اتحاد الكتاب المصري والهولندي لم يتقدم إليها أحد، ونبهني إليها إدوار الخراط الذي حصل لي على موافقة من يوسف السباعي رئيس اتحاد الكتاب وقتها رغم أني لم أكن عضوا في الاتحاد وذلك للدراسة في بولندا ودرست الإخراج المسرحي، ومن وارسو سافرت للعمل في العراق عام 1975 وظللت به حتى عام 1977 في مؤسسة السينما والمسرح التي كانت تابعة لمكتب إعلام حزب البعث العربي الذي يترأسه صدام حسين (المدني) حينما كان نائبا لرئيس الجمهورية آنذاك أحمد حسن البكر، ومنها إلى لبنان حيث عملت في صحيفة السفير ثم مجلة اللوتس (مجلة اتحاد كتاب أسيا وإفريقيا) ثم مجلة بيروت المساء التي تصدرها منظمة العمل الشيوعي اللبنانية حتى يونيو 1982 وهو العام الذي غزت فيه قوات شارون الإسرائيلية لبنان لطرد منظمة التحرير منها.  من بيروت قفلت راجعا إلى مصر بعد غيبة 12 سنة واستقررت في القاهرة وشاركت في تأسيس دار شهدي مع أرملته روكسان وابنته حنان.

    بدأت أكتب "بيضة النعامة" وأنتقل ما بين أمستردام حيث تعيش صديقتي التي تزوجنا بعدها ومعنا ابنتي يارا، حتى بدأت أستقر في هولندا عام 1987 بعد ولادة ابني ديدريك (ديدي) وكتبت بها كل أعمالي ابتداء من "بيضة النعامة" وحتى هذه "الذكريات"!

    وما أزال بها حتى كتابة هذه السطور عام 2014 أول أبريل!