الأربعاء 26 يونيو 2024

الشعر الإنجليزي وهموم الإنسان المعاصر

22-4-2017 | 10:26

د. ماهر شفيق فريد - ناقد وأكاديمي مصري

منذ أكثر من نصف قرن، وفي مطلع الستينيات، حضر الدكتور لويس عوض مؤتمرا أدبيا في اسكتلندا جمع شمل عدة روائيين وشعراء ومسرحيين ونقاد بريطانيين وأمريكيين. وقتها كتب على صفحات "الأهرام" يقول إنه أدرك بعد حضوره هذا المؤتمر، كم أننا متخلّفون عن متابعة الجديد في الأدب الغربي. وأضاف أننا مازلنا نكتب وكأن الرواية الإنجليزية لم تتقدم خطوة واحدة بعد د. هـ لورنس، ولا المسرحية بعد برنارد شو، ولا الشعر بعد ت. س. إليوت.

   والمتابع لأنشطة كتابنا وشعرائنا ومترجمينا اليوم، لا بد مدركٌ أن الوضع الآن قد تحسّن بدرجة ملحوظة، وإن لم يكن بدرجة كافية. فنحن الآن نترجم أعمالا صدرت في هذه الألفية الثالثة، ونكتب عن أدباء غربيين وشرقيين تخرج أعمالهم، كالرغيف الطازج، من تحت عجلات المطابع. وفي مجال الشعر الإنجليزي والأمريكي أذكر جهدين في هذا السبيل ترجمة الراحل بدر الديب لديون إيان هاملتون المسمّى "العاصفة"، وهاملتون هو الزوج الراحل للروائية المصرية الدكتورة أهداف سويف. ثم في فترة لاحقة، كتاب أسامة فرحات "مختارات من الشعر الإنجليزي المعاصر" الذي صدر عام 1992 وضمّ قصائد ما بعد الحرب العالمية الثانية.

    واليوم يُصدر الدكتور أسامة فرحات جزءا ثانيا من كتابه هذا يمضي به خطوات أبعد؛ إذ هو يحوي قصائد لشعراء وشاعرات منهن من ولدت عام 1960 وعام 1961 وعام 1964. وهم جميعا يواصلون النمو ويكسبون أرضا جديدة. كتابه المسمّى "الشعر الإنجليزي وهموم الإنسان المعاصر" (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016) اسم على مسمّى، فهذه القصائد التي اختارها وترجمها لستة شعراء وسبع شاعرات، مع التعريف بهم، تضعنا في قلب المشهد الحضاري المعاصر وتعالج قضايا إنسانية عامة تتجاوز النطاق الجغرافي المحدود. إنه عالم فاكسات وبرقيات حاسوب وبريد إلكتروني تنقل أحداثا كونية كالحروب. وهو أيضا عالم داخلي تغمره الأشواق المتحققة والمحبطة وتتفجّر فيه الشموس في السماوات لأن شاعرة وقعت في الحب. لا فاصل هنا بين العام والخاص، وإنما هو متصل زمكاني – فكري – وجداني.

   سأتوقف عند قصيدتين من الديوان. الأولى لتوني هاريسون، الشاعر المعاصر المولود عام 1937. القصيدة عنوانها "وراثة" وهي في الأصل أربعة أبيات لا غير. يقول الشاعر بلغة أسامة فرحات:

كيف تَخَذْتَ الشعرَ كحرفةْ؟

من أين أتيتَ بموهبتِكْ

فأجبتُ:

لي عمّان (جو وهاري)

أحدُهما يتعثّرُ في نطق الكلمات

والآخرُ قد فقدَ النطقْ

   المفارقة هنا أوضح من أن تحتاج إلى شرح: الشعر ابن اللعثمة من ناحية، والخَرَسْ من ناحية أخرى. ماذا يعني هذا؟ يعني في فهمي للقصيدة؛ أن الشعر لا يقدّم إجابات قاطعة نهائية وإنما هو يتلعثم مترددا في غمرة تلمّسه الحقيقة التي كثيرا ما تستخفي عن الأعين أو يتغشّاها ضباب. والشعر أيضا ابن الصمت، أو هو يتحرّك في المسافة الواقعة بين الكلام والصمت. وقديما قال بلوتارك: من البشر نتعلّم الكلام، ومن الآلهة نتعلّم الصمت.

    القصيدة الثانية للشاعرة إليزابيث جيننجز التي رحلت عن عالمنا في 2001. عنوان القصيدة "لحم واحد" وهذا نصُّها بعد أن مرّت بفلتر أسامة فرحات:

منفصلين

يرقد كلٌّ في مرقده الخاصْ

يصطحب كتابا يبقي الضوءَ إلى وقت متأخرْ

تحلمُ كفتاة بطفولتها الغاربةِ

برجال غيره

وكأنهما ينتظران الحدثَ القادمَ

يمسكُ بكتاب لم يقرأهُ

تتسمّر عيناها فوق ظلال تعلوها

كحطام ألقاهُ الحبُ السابقُ

كم هو باردْ.. ذاك المرقدْ

بالكادْ.. لا يلمسُ أحدُهما الآخرَ

إن يحدث ذلكْ.. فكأن الاثنين يعترفانِ

بشعور متضائلْ

أو أكبرَ مما يلزمْ

العفّةُ تكسو أحدَهما الآخرَ

كمصير أخذوا الأُهبةَ لاستقبالِه

طولَ العمرِ

ينفصلانِ بكل غرابة

يقتربانِ بكل غرابة

يجتذبانِ خيوطَ الصمت تُمَدُّ

ولكن لا تلتفَّ

الوقتُ يرف كريشةْ

يتحسسُ كلا بنعومة

هل تعلمُ أو يعلمُ أنهما قد صارا شيخين

هذانِ الاثنانِ هما أمي وأبي

من نارهما جئتُ

والآنَ مكانَ اللهبِ يحلُّ البردْ

    عنوان القصيدة "لحم واحد" أو "جسد واحد" مأخوذ من طقوس الزواج في المسيحية. فالكاهن يقول للعروسين إنهما من الآن فصاعدا أصبحا جسدا واحدا: في الشباب والشيخوخة، في الصحة والمرض، في اليسر والعسر، في الحياة والموت لأن الزواج سرٌ مقدّس، وما جمعه الله لا يفرّقه إنسان. والمتحدّثة هنا، كما يتضح من الأبيات الختامية، تتأمّل أبويها العجوزين وقد خمدت نار الرغبة الجنسية فيهما ودخلا في طور العفّة. إنها تجربة إنسانية مشتركة؛ حين يصبح الزوجان، مع الزمن والشيخوخة، أشبه بصديقين وَهَن منهما العظم واشتعل الرأس شيبا. يتساند كل منهما على كتف الآخر. والجملة المفتاحية في القصيدة هي "من نارهما جئتُ/ والآن مكانُ اللهبِ يحلٌّ البردْ". لقد تحدث فرويد عما سمّاه "المشهد الأوّلي" يعني به شعور الدهشة وعدم الفهم والصدمة التي تعتري الطفل حين يشاهد، مصادفة، جماعَ والديه. وقد يظنّ أن الأب يضرب الأم أو يعذّبها وأن تأوهات اللذة الصادرة عنها إنما هي أنين ألم. وحين يشبُّ الطفل عن الطوق يدرك مغزى ما رآه ويكتسب أبواه صورة جديدة في ذهنه. تتكوّن لدى الولد عقدة أو مركب أوديب، وتتكون لدى البنت عقدة أو مركب إلكترا. تغدو الأم هي الجائزة المحرّمة لدى الابن، والأب هو الجائزة المحرمة لدى البنت. ومع الزمن يتجاوز الأبناء هذه المرحلة وينتقلان بمشاعرهما إلى موضوع آخر للرغبة، لا تحوطه تابوهات العلاقة بالمحارم. لكن الشاعرة هنا ليست طفلة. إنها راشدة ترى الأبوين في ضعفهما وشيخوختهما، وتحاول أن ترتد بذاكرتها، أو خيالِها، إلى ما كانا عليه في رفقاء الشباب. وانظر إلى كلمات القصيدة: "منفصلين"، كلٌّ في مرقده الخاصْ، كل منهما يقرأ كتابا ولا يكادان يتبادلان كلمة إلا عند الضرورة. ينفصلان ويقتربان ولكن دون التحام جسدي. "بالكاد.. لا يلمس أحدهما الآخر". مرة أخرى نجدنا هنا بإزاء تجربة إنسانية عامة ترصدها الشاعرة برهافة وحساسية. إنك تستطيع، من وراء هذه المختارات، أن تلمس حس أسامة فرحات النقدي. فهو باحث وناقد ذو بصيرة أخرج أطروحة جامعية عن التصوير الفني في شعر صلاح جاهين تقف ـ في رأيي ـ في طليعة ما كُتب عن شاعر العامية المصرية العظيم. وهو صاحب مقالة حديثة في مجلة "الهلال" عدد يناير 2017 عن الدكتور مصطفى ناصف تردُّ إلى هذا الناقد الكبير بعضَ حقه، بعد إهمال طويل من حياتنا الثقافية.

    ويذكر أسامة فرحات في الكلمة التي صدّر بها ترجمته في صوغ شعري تغلب عليه تفعيلة الخبب. وليته يشرح، بمزيد من التفصيل، لماذا وقع اختياره على هذه التفعيلة، وما الصعوبات التي واجهته، وكيف سعى إلى التغلّب عليها. وألحق بالقصائد نصّها الإنجليزي وهي سُنّة محمودة تتيح للقارئ أن يقارن بين الأصل والترجمة، ولا شك أنه سيوافق المترجم في أمور ويخالفه في أمور. ويبقى أن مختاراته هذه ـ وهي من قلم شاعر له رصيده الإبداعي المتميّز بالفصحى والعامية على السواء ـ خطوة على درب طويل يحتاج إلى مزيد من الجهود منه ومن أقرانه الشعراء. فالشاعر خير من يترجم الشعر كما تشهد ترجمات فخري أبو السعود وعبد الرحمن صدقي ولويس عوض ومحمد مصطفى بدوي وزاخر غبريال ومحمد عناني وعبد الغفار مكاوي وأدونيس والسياب وصلاح عبدالصبور وعبد المعطي حجازي وسعدي يوسف وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وفؤاد حداد وفوزي العنتيل ويسري خميس وكمال أبو ديب وعبد اللطيف عبد الحليم ومحمد أحمد حمد ورفعت سلام ومحمد هشام وفاطمة ناعوت ومحمد عيد إبراهيم وبدر توفيق وحسن طلب. وإلى هذه الصحبة الكريمة قد انضم أسامة فرحات حين أصدر الجزء الأول من هذه المختارات منذ ربع قرن، وهو اليوم يؤكّد انضمامه إليها بمزيد من العطاء.