الإثنين 27 مايو 2024

عبد المنعم المشاط يكتب: ما أحوجنا الآن لروح أكتوبر

تحقيقات7-10-2020 | 22:26

لا يراودنى شك فى أن الاحتفال السنوى بحرب أكتوبر يستدعى تذكر أبطالها وتمثل دروسها والفخر بنتائجها والإعلاء من تداعياتها، والبحث فى مقدماتها وسريانها، حرب عظيمة لمن شهدها وشارك فيها ولمن عايشها وتحمس لها، حرب أكتوبر خلقت روحًا قومية ووطنية وحالة وفاق وتنسيق استراتيجى وتعاون وتفانِ نادر، من المؤكد أننا نتوق إليها وتحتاجها الأمة العربية قاطبة لمواجهة التحديات والتهديدات الإقليمية والدولية التى تمس الدولة القومية العربية ومؤسساتها ومآلاتها.


ومن المؤكد أن حرب أكتوبر عكست أبعادًا استراتيجية نادرة ومجدية؛ فمن ناحية، اتفقت مصر وسوريا، ولأول مرة فى التاريخ العسكرى العربى الحديث على ميعاد الحرب وتوقيتها وساعة الصفر والتزمتا بها، تنسيق استراتيجى فريد من نوعه بين دولتين عربيتين جمعتهما حمية الرغبة فى تحرير الأرض من احتلال إسرائيلى يقوم على التوسع الإقليمى.


ومن ناحية أخرى، حظيت دولتا المواجهة بمساندة ودعم غير محدود من الدول العربية، قدمت بعضها؛ كالعراق والكويت، قوات عسكرية شاركت فى القتال، وقدمت أخرى معدات أو أموال؛ كالسعودية والجزائر، واتخذت أخرى؛ كالسعودية والإمارات قرارات مصيرية بحظر تصدير النفط إلى الدول المساندة لإسرائيل، وكانت عبارة الشيخ زايد مهمة حين قال: أن البترول العربى ليس أغلى من الدم العربى، ومن ناحية ثالثة، مهد للحرب تماسك داخلى غير مسبوق ورغبة حقيقية للمشاركة الفعالة مع المقاتلين على الجبهة.


حرب التحرير عام ١٩٧٣ لم تكن حربًا تقليدية؛ فهى تستهدف تحرير سيناء وعودتها إلى حضن مصر، ولكنها أيضًا كانت حربًا انتقامية لإثبات أن ما حدث للقوات المسلحة فى نكسة ١٩٦٧ كان حالة استثنائية، وأنها درع الأمة الذى لا ينكسر، ومؤسستها الوطنية التى تحمى الوطن وتحقق الأمان للمواطن، ولقد كانت لغة الخطاب السياسى والعسكرى منذ يونيه ١٩٦٧ وحتى ٦ أكتوبر ١٩٧٣ تؤكد على ذلك، ولقد رسخ فى عقيدتنا القتالية أنه لا بديل عن النصر على الرغم من التحذيرات المخيفة التى أشيعت حول العبور وخسائره البشرية غير المحدودة، ثم شن حرب أكتوبر فى إطار دولى غير مواتٍ؛ فالولايات المتحدة وأوروبا حليف قوى إسرائيل، والعلاقات المصرية- السوفيتية كانت فى أدنى مستوياتها على الرغم من التسلح والتدريب الروسى، والقوى الدولية الأخرى لم تكن مستعدة لمساندة مصر وسوريا فى حرب قد تكون مدمرة.


والواقع أن الخطاب السياسى المصرى، صياغةً ولغةً ومضمونًا، عكست كل ما سبق، وزادت عليه الخداع الاستراتيجى الذكى؛ فعلى الرغم من ضغوط الرأى العام فى الداخل وحتى داخل القوات المسلحة بضرورة شن حرب التحرير، إلا أن السادات كان فى كل عام يصدر تصريحات تشير إلى عدم الرغبة أو الاستعداد لشن الحرب؛ فأحيانًا يتحدث عن الحرب الباكستانية وأحيانًا عن عام الضباب، بل إن الصحافة ساهمت فى ذلك؛ حيث كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل محذرًا من أن خسائر الموجة الأولى من العبور لن تقل عن ٧٠فى المائة.

وفى إطار الاستعداد للحرب، كنا نعتقد بعد كل مناورة عسكرية شاملة أن الحرب قادمة، ثم لا تأتى إلا أنه فى تمام الحادية عشرة صباح السبت، اجتمع بنا قائد الكتيبة التى كنت مجندا بها ، وصرح إلينا بأن الحرب سوف تنطلق الساعة الثانية ظهرًا، ولا ينبغى أن نذكر ذلك للجنود إلا الساعة الواحدة والنصف، والواقع أننا ولأول مرة نشعر ونحس بحقيقة الحرب وأنها فعلاً قادمة؛ حيث كنا نعسكر على الضفة الغربية لقناة السويس الحبيبة.


وفى تمام الثانية، انطلقت من فوق رؤوسنا ضربة الطيران الأولى، ونحن نهنئ بعضنا بعضًا، ثم ضربة المدفعية والأرض تتزلزل والسماء وكأنها تزعرد، ولما كنا نحن أول موجة تعبر، قمت بقيادة الفصيلة الثالثة من السرية الثالثة وتعدادها ٢٩ فردًا محملين بالصواريخ ووسائل إطلاقها ومعداتنا الشخصية، وأنا أحمل كذلك جهاز اتصال لاسلكى، ونزلنا إلى القناة وركبنا القوارب المطاطية وصعدنا باستخدام المنافذ التى خلقها سلاح المهندسين العبقرى ووصلنا إلى الضفة الشرقية فى مشهد تاريخى لا مثيل له فى التاريخ المصرى والعربي، وبدأت المعارك والمصادمات حتى ٢٢ أكتوبر حينما نادى مجلس الأمن بوقف إطلاق النيران. لن أحكى عن بطولات فردية، وإن كانت عديدة لا حصر لها، ولكن أشير إلى بعض الملامح المهمة التى تسم الحرب والمحارب، وإننى أشهد أن أحدًا لم يهب العبور خشية أن يكون ضمن الـ٧٠ فى المائة خسائر، والحقيقة لم تكن هناك أية خسائر أثناء العبور، كما أن كل مقاتل أدى دوره الذى تدرب عليه لمدة تزيد على خمس سنوات، قتالاً لا يعرف هوادة، وإيثارًا لم أشهده من قبل، الكل فى واحد، الاستماتة من أجل تحرير سيناء، وشهدت الحرب تكاملاً وتجانسًا بين القادة والجنود فى مشهد من المساواة شبه المطلقة ليس فيها ادعاء، ولكنها عكست توزيع الأدوار والمهام والمسئوليات بين كافة الأطراف.


ولا يمكن أن نستدعى روح أكتوبر دون الإشادة بحماس المصريين الذين لم يشاركوا مباشرةً فى الحرب، إذ لعب المجتمع المدنى دورًا مهمًا أثناء الحرب، وفى أعقابها للتخفيف عن المصابين ورعايتهم، والتعبئة المجتمعية التلقائية خلف المقاتلين، فى ذكرى حرب أكتوبر نستدعى روح أكتوبر لبناء مصر الحديثة النقية من الإرهاب والتطرف، والتى تقوم على التخطيط والتعبئة والتنفيذ الفاعل. ولا شك أن السلام الذى نجم عن انتصار أكتوبر هو سلام الشجعان قوامه الأرض مقابل السلام.


إن الوطن العربى اليوم فى حاجة ماسة إلى استدعاء وتمثل روح أكتوبر العظيمة يحتاج إلى تنسيق إقليمى مؤسسى وإلى تعاون نوعى فى كل القطاعات الاستراتيجية والحياتية، يحتاج إلى وعى عميق بالتغيرات الكبرى التى تجرى فى العالم والإقليم على وجه الخصوص، وأكاد أجزم أنه بالرغم من حق كل دولة عربية فى تحقيق مصالحها الوطنية؛ فإنه لا بقاء ولا سلامة لهذه الدول دون توافق على المصالح القومية المشتركة.


وفى الإطار ذاته؛ فإن استدعاء روح أكتوبر اليوم ضرورى بل وحتمى بالنظر إلى التطور التكنولوجى غير المسبوق فى وسائل التواصل الاجتماعى، والتى فاق تأثيرها على الأجيال الجديدة والشباب العربى على الأدوار التقليدية للمؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية والاجتماعية، وليس المقصود بذلك التثقيف السياسى القومى بمعناه القديم، وإنما تقديم نموذج ناجح من التنسيق والتعاون العربى أفاد جميع الدول العربية سواء دول المواجهة أو الدول المساندة، وربما يكون من المهم أن نبرز لشبابنا الجديد نوع المصالح المشتركة التى تتحقق بتعاون وتنسيق عربى لمواجهة التحديات والتهديدات الإقليمية والأطماع والخطط الدولية لإعادة تشكيل وهيكلة الوطن العربى لغير صالح أهله ومواطنيه.