الأحد 16 يونيو 2024

مروة الشريف تكتب: مخطوطات أفريقية بالحرف العربي

فن9-10-2020 | 12:31

تراث الشعوب إنما يتعلق بجذور هويتها، ومواقعها فى التاريخ، وأن وعى الذات فى الحاضر لا يمكن أن يقوم على نفي مسبق لهذا التراث وفق أى تبرير، وأن الحاضر نفسه يفسر الماضى أو يفسر به، واللغة العربية لدى الشعوب الأفريقية غير الناطقة بها ليست مصدرا وحيدا لتاريخها. 


فقد يرجع تاريخ المخطوطات العربية في غرب أفريقيا إلى وقت مبكر جداً، قبل القرن الثالث عشر الميلادي، إلا أنها شهدت ازدهاراً وتطوراً كبيرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وكثرت فيهما المؤلفات العربية وقامت حركات الجهاد الإسلامي في أغلب أنحاء المنطقة، والتي واكبتها ثورة علمية تجديدية مثل: حركة الشيخ عثمان بن فودي في منطقة شمال نيجيريا، وحركة الشيخ عمر بن سعيد الفوتي في فولتا جالو(السنغال) وحركة الشيخ محمد الأمير الكانمي في برنو (شرق شمال نيجيريا) وغيرهم.


وكانت اللغة الرسمية لهذه الحركات والتنظيمات هي العربية وهي لغة المراسلات والقضاء وجميع العقود، كما أن اللغات المحلية مثل: الفلانية والهوساوية والبمبرا واليوربا والكانورية كانت تكتب بالحرف العربي، وما زالت آلاف الوثائق والمخطوطات بهذه اللغات مكتوبة بالحرف العربي. فقليلة هي الكتب الصادرة بالعربية عن مشاريع بحثية، وقليلة هي الكتب التى تتناول التأثير العربي فى أفريقيا، ولكن مؤخرًا قد أهداني العالم الخلوق الأستاذ الدكتور حلمي شعراوي كتابه (تراث مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربي) وهو فى مجلدين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب والمعهد الثقافى الأفريقى العربي فى مالى، وهو من تحرير وتقديم د حلمي شعراوى، وأبرز الخبراء العرب فى الثقافة الأفريقية.  


وكما جاء في كتابه بالتعاون مع 14 باحثا من مصر والسنغال وموريتانيا والنيجر وعمان وغينيا ونيجيريا، وهؤلاء قد كشفوا لنا مئات المخطوطات الأفريقية المكتوبة بالحرف العربي، وقد أفاض د حلمى شعراوى في تقديمه للكتاب. فقد أشار إلى دور التراث الشعبي الشفاهي الذي كتب لاحقا في أفريقيا بأشكال مختلفة الذي قدم مادة وفيرة، ومكتوبة عن العلاقات الثقافية العربية الأفريقية، وهو ما يبرهن على أن ثمة جهود حديثة في العالم العربي وأفريقيا لاكتشاف الأبعاد التاريخية المسجلة في التراث الشعبي الأفريقي عن هذه العلاقات· وأنه قد أُتيح له أن ينشغل بما قد يكون سجله الأفارقة من ألوان التراث الشفوي الذي أصبح مكتوبا· وإذ به يقع على مخطوطات أفريقية عديدة من ثماني لغات أفريقية مكتوبة بالحرف العربي منذ عدة قرون، وتؤرخ لشعوب فى أنحاء مختلفة في القارة، ويعرف بها عدد من المثقفين الأفارقة، مثلما في السواحيلية والهوسا، والفولانتية والملاجاشية والبمبارا، والماندنج، والتمشكية· 


وفي نصوص هذه اللغات الأفريقية المكتوبة بالحرف حكي شعبي، رمزي ومباشر، عن تاريخ الشعوب والممالك، تتناثر خلالها طبيعة الصلة بالتراث العربي الإسلامي الشائع في تلك القرون· فها هو ''سونجاتا'' ملك الماندنج حفيد الجد الأكبر ''للكيتا'' بيلالي بوناما (سيدنا بلال)، الخادم الأمين للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والذي كان له سبعة أبناء·· رحل الابن الأكبر من المدينة المقدسة واستقر في ماندنج··· وتمضي القصة لتروي تأسيس مملكة مالي في هذه المنطقة مستقلا عن أي تدخل عربي إلا بمعرفة كتب عبد الكريم المغيلي وغيره من المغاربة. 


وعند قراءتي للغة الهوسا وما تحويه من قصص ظهر فيها الفن القصصي العربي واضحًا جَليًا وقد جَذّبني أن أتحدث عنه بشيء من الاستفاضة. فلغة الهوسا هي: لغة من العائلة التشادية- يمتد التحدث بها كما يرد ذلك فى معظم المصادر من شمال نيجيريا إلى النيجر وتشاد وغانا والكاميرون والسودان أو ما يعرف ببلاد السودان الأوسط والغربي. 


ومن هذه الوضعية العابرة للأقطار- African inter، تكتسب الهوسا صفتها القارية وسمعتها العالمية. وينعكس هذا الانتشار للغة الهوسا على تعدد ملحوظ فى لهجاتها من "كانو" إلى "سوكوتو" إلى بلاد "كانم وبورنو" فى حوض بحيرة تشاد إلى "داجومبا" فى غانا، و"زندر" و"تاوا" فى النيجر.. إلخ، ويطلق عليها البعض كلمة "زانجو" Zango أو "زونجو" فى بعض المناطق التى تتحول فيها "الهوسا" إلى لغة تعامل تجارى فقط فى بعض أسواق غرب أفريقيا لأنها بدأت كلغة مشتركة فى مناطق توقف قوافل التجارة. وأهل الهوسا إنما جاءوا مع وفود الموجات الشمالية من القوافل عبر خط طرابلس غدامس... إلخ، وبعضهم يراها موجات من الشرق عبر بحيرة تشاد أو ممن استقروا جنوب الصحراء، وكلاهما يربطها بالتأثير العربى أو الإرجاع إلى الأصل الحامي. وهناك ثالثا من يرى أنهم ذوو جذر محلى، واستقروا فى هضبة بوتشي Bauchi وطوروا ثقافتهم ولغتهم مع الوافدين المحليين من الصحراء. 


ويرتبط بهذا الأصل الصحراوي الذي يتحمس له "يوسف أدماوا" و"عبد الله سميث" بربط هذا الأصل بنشأة الظواهر الاجتماعية والسياسية الرئيسة وتكوين الممالك والولايات وتخلُّق السلطة المركزية تدريجيا بين أهل هذه البلاد. عل هذا الانتشار للغة الهوسا- ومخطوطاتها- هو الذي جعل البعض يلاحظ أنها لم تتدهور أبدا كلغة. ويعبر ثراء لهجات الهوسا الآن عن هذا التاريخ الغنى بالثقافة وحركة المجتمع بما يجعل التميز الواضح فى اللهجات، تميزا فى طبيعة التاريخ الاجتماعى نفسه. فلهجة "كانو" للثقافة والتجارة، و"سوكوتو الكلاسيكية" للنصوص الدينية التقليدية "وزندر" و"جوبير" عابرة للصحراء، و"داجومبا" لهجة ذات طبيعة محلية خاصة.. إلخ.


ومن هذه الأجواء جميعا انطلقت "كتابة الهوسا"، انطلقت من عوامل التوحيد الرئيسة في المنطقة، الدين والتجارة، وكلاهما لم يستقر في المنطقة قبل القرن الثاني عشر ولذا يجري الحديث عن أدوار علماء الإسلام الوافدين أولا لتعليم الدين، واستقرارهم في "كانم وبورنو" ثم في "كانوا".. وغيرها أمثال عبد الكريم المغيلى (ت1503م) وغيره، وأن ذلك أتاح الكثير من آثار التراث العربي الإسلامي إلى أن بدأت الكتابة بالعربية أيضا من قبل علماء الإسلام المحليين بما يكاد يكون قد استغرق أكثر من عدة قرون بين الثاني عشر والسادس عشر حتى بدأت الكتابة "بالهوسا" بالحرف العربي أو ما يعرف "بالعجمى" على يد أمثال محمد بللو وغيره.


وهنا تنوعت بين الديني والتاريخي والوعظي، وبين ثروة الشعر فى معظم هذه المجالات. وتتعدد مواقع مخطوطات لغة الهوسا بشكل لا يكاد يتوفر لتراث أية لغة أخرى، كما توفر لها من الدارسين ما يصعب حصره. ويستطيع الباحث لأن يعاين هذه المخطوطات بالخط الكوفى وغيره في "سوكوتو" و"كاتسينا" و"كانو" و"زاريا" و"مايدوجورى". ويحتل بعضها شهرة كبيرة وخاصة ما توفرت له ظروف الحفظ في هذه المواقع وهي ظروف لا تتوفر لنسبة كبيرة من هذا التراث بسبب المعارك "الجهادية" التي اتهم فيها الكثيرون "بالكفر" وخاصة من أبناء "الهوسا" الذين عارضوا الشيخ عثمان دان فوديو. بينما حرص الأخير بهيمنة دينية وسياسية وفكرية أن يوحد عملية نشر النصوص فيما كتبه وأولاده وأحفاده بالفولانية وترجمها أتباعه إلى الهوسا لينشر أفكاره خلال القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وكذا نشرت ابنته "أسماء" كثيرا من إنتاجها التاريخى والثيولوجى بالهوسا مباشرة. 


وأما نصوص الهوسا، فتمضي إلى حكاية الصلة بين شعب الهوسا وأحفاد أبو بكر الصديق وعمرو بن العاص، ثم تواصل مستقلة بدورها، حتى يجدد ''عثمان دان فوديو'' وابنته في شعرهما الصوفي الصلة بالإسلام الجهادي ضد الاستعمار في القرن التاسع عشر· ولا أقل من ذلك قيمة ما تحمله قصائد ''الانكشافي'' السواحيلية التي تتخذ أحيانا نمط البكاء على الأطلال لعدة قرون باكية على تدمير الرعاة لسلطنة ''باتي'' الأفريقية العربية على ساحل المحيط الهندي لشرق أفريقيا· وهي بكائية تشبه كثيرا ما كتبه جاشيون أبناء مدغشقر في الأسى على مملكة المارنيا بمرتفعات هذه الجزيرة الكبيرة والجميلة، وصلتهم بعرب جنوب الجزيرة العربية في فترة اقتراب المستعمرين الأوروبيين وتدمير مملكة ''الانتيميرو'' الشهيرة في التاريخ السياسى لمدغشقر· 


وأما عن ما أثار إعجابي من تأثر لنصوص الهوسا، التي تمضي بنا إلى حكايات شعبية عربية فقد ظهر في أسلوب ''ألف ليلة وليلة'' العربي الآسيوي، فيبرز في عوالم الهوسا أيضاً وحكاياتهم عن ''روان باجانا'' وغيره··· والمعنى الكامن وراء كل ذلك، هو أن السجل الأفريقي مليء بالتواريخ الخاصة التي تبعث على احترام تاريخ وتراث هذه الشعوب من حولنا ويكشف عن روحيات وفنون متميزة بالطبع، وأن هذا التاريخ، بعيداً عن جهود بحوث الآثار والأركيولوجيا والأنثروبولولجيا، مسجل في نصوص بالحرف العربي ويسميه الأفارقة والعرب الآن ''العجمي'' واعتقد أنه نسبة للغربة أو العجمة أكثر من كونه اسما ثقافياً أو علمياً لأن الموقف الأوروبي النافي لهذا التاريخ والعربي المتجاهل له أصبحا غير مبررين بالتأكيد لأن هذه المخطوطات ''العجمية'' مسجلة في المكتبات الكبرى الأفريقية والأوروبية والعربية على السواء وتحتاج إلى جهد جديد لكشف هذا التراث الإنساني العتيد.