تعتبر تجربة أوبريت "مصر الطريق" من أهم الأعمال الموسيقية الاستعراضية الغنائية المعاصرة، على المستوى العالمي بصفة عامة وعلى المستوى الفني المصري بصفة خاصة، وهذا بالمقياسين الفني والإنتاجي، فهو عمل فني راقٍ وفريد في عرض تاريخ رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، وتتبع مسارها المبارك في ربوع الأراضي المصرية، إذ نجح هذا العمل الفني في التعبير عن هذه الحقبة التاريخية المهمة من تاريخ العائلة المقدسة وتاريخ مصر أيضًا بالموسيقي والغناء والأداء الحركي والتشكيل الفني المسرحي، في عمل متكامل لم ينقصه أي من عناصر الإنتاج الفني، من ملابس وديكور ومكياج وإضاءة وجرافيك وإخراج، إلى جانب مشاركة عدد ضخم من العازفين والمطربين والممثلين والراقصين، بمختلف الأعمار والمواهب، ما أخرج في النهاية عملا فنيًا يقترب من عروض الأوبرات العالمية المعروفة بالإنتاج الضخم والتفاصيل الدقيقة، ما يجعل منه تحفة فنية مصرية ترتقي للمستوى العالمي في الفن.
وبكل هذه العناصر الفنية، حمل أوبريت "مصر الطريق" رسالة سامية تتجاوز الحدث التاريخي العظيم ذاته – أي رحلة العائلة المقدسة إلى مصر – إلى التعبير عن واقع معاصر يتمثل في كون مصر، التي سبق وأن اختارها المسيح قبل ألفي عام ليهرب إليها من بطش الظلم، لا تزال هى الملجأ والمفر لكل المتعبين، وهو ما عبرت عنه أغنية الختام التي كتبها خصيصًا الشاعر والإعلامي "ريمون قلته" بالكلمات التالية: "مصر البداية مصر الطريق .. مصر المفر من كل ضيق"، ليضيف بُعدًا جديدًا إلى العمل ككل الذي صاغت كلماته الشاعرة الفنانة "نور عبدالله" باللهجة العامية والمفردات المصرية الخالصة.
رحلة العائلة المقدسة إلى مصر – سيمفونية مصرية بلغة عالمية
عُرض أوبريت "مصر للطريق" للمرة الأولى على خشبة مسرح المنارة بالقاهرة يوم 24 يونيو 2019، في عمل فني يتتبع - بملحمة موسيقية استثنائية وفريدة من نوعه قدمها المايسترو والمؤلف الموسيقي "جورج قلته" – رحلة العائلة المقدسة بداية من أحداث ميلاد المسيح في بيت لحم ثم هروب العائلة المقدسة إلى مصر، طلبًا لحماية الطفل يسوع من بطش الملك هيرودس، مرورًا بالمحطات التي توقفت عندها العائلة في مختلف الربوع المصرية.
يذكر أن أكثر من 250 فنانًا من مختلف المواهب والأعمار والفرق الفنية الكبرى في مصر – موسيقيًا وغنائيًا واستعراضيًا وإخراجيًا وإنتاجيًا – قد شاركوا في هذا العرض، الذي جسد على خشبة المسرح رحلة ومعجزات العائلة المقدسة في مصر، والتي تحولت بمرور السنين إلى جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي والتاريخي للبلاد.
مشروع عالمي
تحت رعاية رفيعة من وزارة الثقافة المصرية، قدمت جمعية إحياء التراث المصري "نهرا"، المملوكة لرجل الأعمال منير غبور، هذا العمل الفني الأصيل، ضمن جهود الجمعية لتطوير المشهد الفني المصري المعاصر، وقُدم العرض الموسيقي الغنائي الاستعراضي "مصر الطريق" بمشاهد مسرحية مطعمة بالجرافيك والتمثيل ورقص الباليه.
امتد العرض الموسيقي لأكثر من 100 دقيقة ألفه المؤلف الموسيقي "جورج قلته" بمزيج فني استثنائي استطاع من خلاله تقديم العمل بذهنية احترافية، حيث نجح في تأليف عمل موسيقي كلاسيكي ذي مستوى عالمي بكتابة أوركسترالية غنية مع ألحان ذات أبعاد قبطية وفرعونية بلمحة شرقية تعبر عن روح الفترة التاريخية لقصة رحلة العائلة المقدسة لمصر، وتأليف موسيقى بهذا الحجم لم يكن ليخرج للنور بالاحترافية ذاتها إلا بقيادة المايسترو "جورج قلته" نفسه وبمصاحبة الأوركسترا الخاصة به التي تحمل اسم "سينكوب"، والتي تتألف من نحو 60 عازفًا، في مشهد يُمتع البصر قبل السمع، فكانت الأوركسترا تتألف من التكوين الأوركسترالي الغربي التقليدي مدعومة بتخت شرقي، في مزيج فريد واحترافي أخرج في النهاية منتجًا موسيقيًا حاز إعجاب ودهشة كل من استمع إليه، حتى أنه يمكنك – بعيدا عن السياق الدرامي للعمل ككل – أن تستمتع بالموسيقى في حد ذاتها، التي لا تقل في جودتها عن مؤلفات عمالقة الموسيقى الكلاسيكية في العالم.
هذا العمل الموسيقي تطلب أن يؤدي أغنياته وألحانه فريقًا غنائيًا شديد الاحترافية قادرًا على تقديم الأغاني الشرقية والألحان الأوركسترالية بنفس المستوى، فوقع الاختيار على كورال الأوبرا "أكابيلا" المكون من 64 مطربًا، إلى جانب فريق كورال "الملائكة" بكنيسة السيدة العذراء بالزيتون، والمؤلف من 75 طفلا، ليصيغ كل من "أكابيلا" و"الملائكة" أنشودة ملائكية رائعة صاحبة صولو العمل الفني المطربة الأوبرالية "أميرة رضا"، إلى جانب فريق الباليه المكون من 24 راقصًا.
واستكمالا لمسيرة الرعاية والدعم، آثرت وزيرة الثقافة الفنانة الدكتورة إيناس عبدالدايم المشاركة في هذا العمل الفني الضخم بنفسها كعازفة فلوت رفيعة المستوى، فظهرت في أحد مشاهد أوبريت "مصر الطريق" للعزف الفردي على الفلوت بمصاحبة أوركسترا "سينكوب" وبقيادة المايسترو "جورج قلته".
أوبريت "مصر الطريق" – من بيت لحم إلى صعيد مصر:
1- الافتتاحية الموسيقية
من الذكاء الموسيقي للمايسترو والمؤلف الموسيقي "جورج قلته" أن يبدأ هذا العمل الفني الضخم بافتتاحية أو ما يعرف فنيًا باسم "أوفرتير"، وهى مقدمة موسيقية تجمع "تيمات" العمل ككل بمصاحبة كل عناصر الأوركسترا، وهو تقليد أوركسترالي مُتعارف عليه في الأنماط الغربية للموسيقى الكلاسيكية والأوبرات العالمية، ليشعر الجمهور بأنه في حضرة عمل ذي مستوى عالمي، وبعد الافتتاحية الموسيقية التي كان بطلها الوحيد هو المايسترو والأوركسترا، وجاءت مشاهد "مصر الطريق" كالتالي:
2- مشهد بشارة مريم
يبدأ المشهد الأول من داخل الهيكل الذي تتعبد فيه العذراء مريم، حيث يظهر لها الملاك جبرائيل ليبشرها بالميلاد المعجزي للطفل يسوع من بطنها وهي عذراء فيلقي عليها التحية ثم يخبرها بالرسالة السماوية، حسب النص الإنجيلي، ثم تأتي أولى كلمات الشاعرة "نور عبدالله" لتعبر عن مكانة العذراء فتقول: "مريم .. ولو هحكيلكوا عن مريم .. الكون يقف ساكت ويتعلم"، وهي الكلمات التي صاغ "جورج قلته" لحنها بطريقة جعلت كل عناصر العمل تظهر سويًا منذ اللحظة الأولى ما بين كورال الكبار وكورال الأطفال وأيضًا الصوليست "أميرة رضا"، معبرًا بذلك عن القيمة السامية التي تحتلها العذراء مريم، مختتمًا المشهد بأداء من كورال الأطفال ولحن يجعلك تشعر بأن هؤلاء الأطفال يهتفون انتظارًا للحظة ميلاد الطفل يسوع مع جملة "يارب بارك يارب هات .. زينة الولاد من زينة البنات".
3- مشهد بشارة الرعاة
عند هذا المشهد ربما تتغير فكرتك عن الموسيقى بصفة عامة، حينما تسمع أصوات حيوانات، مثل خوار البقر ومأمأة الخراف، فتظن لوهلةٍ أنك تستمع لمؤثرات صوتية إضافية، لكنك تندهش حينما تدرك أن هذه الأصوات تصدر عن آلات أوركسترا "سينكوب" التي أجاد عازفوها اللعب بآلاتهم لإصدار أصوات تطابق ما أراد المؤلف الموسيقي "جورج قلته" أن يعبر به عن مشهد الرعاة الذين كانوا جالسين يصلون قبل أن يأتيهم الملاك ببشارة الميلاد، حسب النص الإنجيلي، ثم تعبر الشاعرة "نور عبدالله" عن المشهد بكلمات: "وفي يوم مايوصفهوش مديح .. نوَّر على الأرض المسيح"، ثم يأتي دور كورال الأطفال بجملة "اضحك يا صبح .. افرح يا ليل .. مريم جابت ولد جميل" بلحن مميز يعبر عن بهجة طفولية صادقة بميلاد المسيح، لينتهي المشهد باللحن القبطي "افرحي يا مريم"، الذي اقتبس منه المؤلف الموسيقي والمايسترو "جورج قلته" التيمة الأساسية للعمل، وصاغها بمقامات موسيقية متنوعة، عبر بكل منها عن حالة مختلفة حسب مشاهد العمل.
4- مشهد مذبحة أطفال بيت لحم
يمكنك القول بأن هذا المشهد هو ما يمكن وصفه بالـ"ماستر سين" للعمل، فصياغته الموسيقية جاءت درامية بشكل كبير وتعبر عن كل مشهد وحركة مسرحية، ففي البداية تعبر الموسيقى عن شكل قصر هيرودس ثم يأتي دور العزف الفردي لآلة الفاجوت لتعبر عن شخصية هيرودس نفسه بشرورها الداخلية، وهي الشخصية التي أتقنها الفنان "عاصم سامي" باقتدار، ثم يأتي دور التعبير المسرحي عن الصراع الذي يدور داخل هيرودس حينما علم من المجوس بمولد ملك جديد، ظنًا منه أن هذا الطفل يأتي ليزيحه عن عرشه الدنيوي، فتبدأ الأفكار الشريرة في نفس هيرودس. وعبرت فرقة الباليه عن ذلك برقصة تخيلية للشياطين المحيطين بعقل هيرودس الذي أخذ يفكر في الأمر مع كلمات تقول: "نجمه ظهر نوَّر الكون .. لكن هيرودس مسه الجنون .. خاف من رضيع .. ماتستغربوش.. يكفيكوا شر عشق العروش"، وهذا بلحن ملحمي يمهد للمذبحة الكبرى. وفي لحظة تدخل الموسيقى لحالة من الهدوء الحذر حينما يُصدر هيرودس قرار المذبحة بقوله "بأمري أنا الملك هيرودس يُقتل كل أطفال بيت لحم وما حولها .. الذكور من عمر عامين فما دون"، وحينها تأخذ الموسيقى في الصعود المفاجئ مرة أخرى لتصل إلى مرحلة الذروة في القوة مع جملة "روى المدينة بدم الصغار .. دا عار لكنه مش أي عار .. جحود وقسوة اتقل عيار .. بيت لحم طرحت قهر ومرار"، وبعدها تدخل الأوركسترا مع المايسترو "جورج قلته" في مرحلة من الأداء شديد القوة مع مؤثر صوتي أوركسترالي يعبر عن ضربات السيوف أثناء قتل أطفال بيت لحم، إلى أن ينتهي المشهد ببقع الدم الحمراء وهي تغطي كامل الشاشة الخلفية للمسرح توازيها إضاءة حمراء لا تخبو إلا مع آخر نغمات هذا المشهد، في ختام لا يسعك حينها إلا أن تنهض سريعًا لتصفق بمنتهى الحماس لروعة الموسيقى وأداء العازفين وقوة العوامل البصرية التي تجعلك تشعر وكأنك تشاهد مذبحة أطفال بيت لحم وقت حدوثها بالفعل.
5- مشهد الهروب إلى مصر
تدخل أوركسترا "سينكوب" في هذا المشهد في تحدٍ آخر وهو التعبير بآلات العازفين أنفسهم عن المؤثرات الصوتية المطلوبة في هذا المشهد، الذي يجسد حالة الرعب التي عاشتها العائلة المقدسة وقت هروبها من بيت لحم إلى مصر، لتسمع بنفسك من الأوركسترا أصوات الحيوانات البرية الشرسة التي واجهت العائلة المقدسة، مع إضاءة شبه مظلمة تعطيك انطباعًا بأن الرحلة لم تكن أبدًا سهلة بقول الشاعرة "نور عبدالله": "ومن وحوش البشرية على وحوش البرية .. حاضنة الرضيع مش خايفة تضيع .. وفي قلبها أمان الدنيا"، لتتحول الموسيقى عند الجملة الأخيرة 180 درجة فتشعر فجأة بالأمان الذي بالتأكيد وجدته العائلة المقدسة فور أن وطأت أقدامها أرض مصر فتخرج الصوليست "أميرة رضا" منشدة بلحن يعبر عن السعادة والفرحة ويقول "ماهو ربنا جوه القلوب .. أمان يخلي الخوف يدوب .. ولو ألف ليل .. نوره الجميل .. أوضح دليل بين الدروب".
6- مشهد مصر الأمان
بعد أداء أوركسترالي كلاسيكي، يأتي في هذا المشهد دور التخت الشرقي الذي استطاع – إلى جانب الأوركسترا ككل – أن يعبر عن موسيقى تجمع بين الملامح القبطية والفرعونية والشرقية، في مزيج رائع صاحبته رقصة دويتو من فرقة الباليه تعبر عن اللحظة التي اقترن فيها اسم مصر بالعائلة المقدسة، بينما جاءت الكلمات لتحسم الموقف بأغنية "محظوظة مصر بخطوة الطاهرين .. محفوظة مصر بدعوة الصالحين .. وفي كل خطوة في الطريق ليها .. بنور الله وبكرمه محفوظين".
7- مشهد معجزات العائلة المقدسة في مصر
في اللهجة الشعبية المصرية الكثير من العبارات التي يصعب فهمها إلا بمعرفة تفاصيل محطات رحلة العائلة المقدسة لأرض مصر، وهو ما يمكنك أن تسمعه وتراه من خلال عمل مثل "مصر الطريق".
أما في مشهد معجزات العائلة المقدسة يتوقف العمل الفني عند أبرز المحطات التي زارتها العائلة في ربوع مصر، مثل تل بسطة بمعجزة سقوط الأوثان أمام الطفل يسوع، ومشهد العزباوية الذي ارتبط بعبارة "اضرب الأرض تطلع بطيخ"، ثم محطة شجرة مريم في المطرية والقصة التاريخية التي ارتبطت بها، وهكذا إلى محطات أخرى مثل المعادي ثم جبل الطير وأخيرًا دير المحرق آخر محطات العائلة المقدسة في صعيد مصر، حيث تلقَّى يوسف النجار أمرًا من الملاك بالعودة مرة ثانية إلى أرض الوطن بعدما مات هيرودس.
8- مشهد العودة
بعد مقدمة موسيقية تعبر عن بداية جديدة مع تكرار الجملة الموسيقية الأولى التي بدأت بها الافتتاحية، يشير المايسترو "جورج قلته"، فتظهر الوزيرة الفنانة الدكتورة "إيناس عبدالدايم" على المسرح حاملة في يديها معشوقها الفلوت، وتدخل أمام أوركسترا "سينكوب" وتبدأ في تقديم عزف فردي فريد وبلحن استثنائي بمصاحبة الأوركسترا يجعلك تسبق العناصر البصرية على المسرح في إدراك أنك تستعيد – بهذا اللحن - كل ذكريات رحلة العائلة المقدسة لمصر قبل عودتها إلى وطنها، ثم يأتي دور الصوليست مع الكورال بعبارة مصرية بسيطة تقول: "آن الآوان وقت الرحيل .. نتلاقى بين سطور الإنجيل .. فيه مذكورين المصريين .. زي عادتهم في كل دين".
بعد انتهاء الوزيرة الفنانة د. إيناس من مقطوعتها الرائعة، تبدأ الأوركسترا في عزف التيمة الرئيسية للعمل تمهيدًا للأغنية التي تذكر كل محطات العائلة المقدسة في مصر بداية من رفح وحتى درنكة في أسيوط.
9- مشهد الختام
رغم عمله كمنسق فني للعمل ككل، شارك الشاعر والإعلامي "ريمون قلته" في كتابة أغنية الختام لأوبريت "مصر الطريق"، مضيفًا بُعدًا جديدًا للعمل يربط فيه التاريخ بالواقع المعاصر، فمصر التي آوت العائلة المقدسة قبل ألفي عام ستظل وفية للمسيح أبد الدهر حافظة آثاره ودياره أي الكنائس والأديرة، بل وأيضًا ستظل مصر هي المفر لكل ضيق، وهي الملجأ لكل من يلتمس الأمان، تحقيقًا لقوله تعالى: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين".
وبلحن لا يقل روعة عن باقي مشاهد العمل الفني، اختتم المايسترو "جورج قلته" العمل الفني بدرة فريدة من لحن بليغ يعبر عن قوة المشهد الذي تجتمع فيه كل عناصر العمل الفني مع كلمات الشاعر "ريمون قلته" التي خاطب فيها المسيح قائلا: "وبعد ألفين م السنين .. شعب البلد دي لسالك آمين .. صاين آثارك حافظ ديارك .. وخطاوي عيلتك كنزه الثمين" مع قرار يعبر عن المشهد ككل بقوله "مصر البداية مصر الطريق مصر المفر من كل ضيق".
نشر بمجلة الهلال يناير 2020