الإثنين 3 يونيو 2024

يامن تذهب ستعود

فن11-10-2020 | 18:42

كتبت مجلة مونتاج البريطانية في سبعينيات القرن الماضي على غلافها "المصريون قادمون"، تعبيرا عن مدى التأثير العالمي الذي تركه فيلم "يوم أن تحصى السنين - المومياء" تأليف وسيناريو وإخراج صانع الأفلام الموهوب الراحل شادي عبد السلام، إنتاج عام 1969، مأخوذ عن قصة حقيقية حدثت في أواخر القرن التاسع عشر 1881. حيث يتناول قضية سرقة الآثار المصرية في صعيد مصر، عن طريق قبيلة الحربات التي تعيش على سرقة وبيع الآثار الفرعونية، حين يموت زعيم القبيلة يرفض أولاده أمر سرقة الآثار فيقتل الأول على يد عمه، بينما ينجح الثاني "ونيس" في إبلاغ بعثة الآثار عن مكان المقبرة التي تبيع قبيلته محتوياتها. وضمت مومياوات أعظم الآثار الفرعونية مثل أحمس الأول، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني، وقام ببطولة الفيلم أحمد مرعي ومحمد خيري ونادية لطفي، وقد نال الفيلم جوائز عالمية رفيعة المستوى وتم الاحتفاء به دوليا حتى أن مذيعة إحدى القنوات الفرنسية في لقائها مع شادي عبدالسلام قالت إنه شخصية غنية عن التعريف بالنسبة للشعب الفرنسي الذي عشق عمله المصري الأصيل والفريد المومياء. وربما لم تصادف السينما العربية ولا العالمية صانع أفلام مثله، وربما يأتي هذا التفرد من تفرد التراث المصري الذي شكل وجدانه، فصنع مدرسة مصرية سينمائية أصيلة لم نرى مثلها من قبل.


اشتعل شغف شادي منذ الصغر بالفنون، لاسيما الفنون البصرية، يقول في لقاء تليفزيوني مصري إنه كان يستمتع بالتصوير الفوتوغرافي والتحميض منذ سن السابعة في المنزل، وقد امتد شغفه لتصبح الفنون مجال دراسته، العمارة والموسيقي والفنون التشكيلية وغيرهم، وكانت بداية أعماله كفنان تعبر عن شخصية جديدة في إنتاج الفنون البصرية، ذكر شادي أيضا أنه مهموم بالبحث عن التراث وعن كيانه الشخصي من خلال التعبير بإحساسه عن هذا التراث وعلاقتنا به، ويعتبر عبدالسلام التاريخ حجر أساس إنتاج الفنون السينمائية والبحتة، بل يعتبر التاريخ حجر أساس النهوض بالثقافة، وتختلط أعماله دائما بفلسفة تستخدم الفن وفن يستخدم الفلسفة، وبينهما فنان متأمل عميق ومهموم وموهوب، يستطيع التعبير عن مشاعره وهمومه بإحساس فني شديد الخصوصية والصدق، برغم أن مشواره في السينما الروائية الطويلة يقتصر على أيقونته الخالدة المومياء، إلا أنه استطاع من خلال هذا الفيلم وضع حجر أساس لمدرسة جديدة في صناعة الفيلم السينمائي المصري والعالمي.


كتب جاي هينبلي مراسل مجلة سينما الفرنسية عن المومياء بعد فوزه بجائزة مهرجان فينيسيا: "إنه جديد في كل شيء، في التصوير الذي قام به عبد العزيز فهمي، جديد في الإلقاء وفي حركة الممثلين، جديد في رصانة موسيقاه، وفي ثراء السيناريو الذي جمع بين الوضوح والتركيز، وجديد في صدق المخرج وبعده عن الادعاء، كل هذا جعل من فيلم المومياء عملا رائدا في السينما المصرية، بل إن صفاته هذه أفردت له مكانا متميزا في الإنتاج السينمائي العالمي"، وأذكر لقاء تليفزيوني للمخرج الراحل صلاح أبو سيف  قائلا: "إنه بمجرد اطلاعه على لقطات فوتوغرافية من الفيلم أيقن أنه بصدد سينما مصرية جديدة لم يشاهدها من قبل".


ترجم شادي وجدانه الفني الفلسفي إلى لوحات سينمائية، رسمها حرفيا باستخدام كل عنصر من عناصر إنتاج الفيلم، بداية من تكوينات الألوان، والطبقات، والتي تعدت الشكل الجمالي لترسم علاقات شديدة العمق والدلالة بين الشخصيات والأزمنة نفسها، لاحظ على مستوى اللون استخدام الكتل السوداء لتشمل قبيلة الحربات الملعونة على المستوى الدلالي بالعيش على نهب الموتى، وفي أكثر من لقطة يجمع بين الأجداد منذ آلاف السنين يمثلهم الجبل الشامخ، وبين القبيلة السوداء التي تظهر دائما كأشباح صغيرة الحجم متناثرة، وربما مثلت اللقطات الأولى من الفيلم من زاوية عليا "عين الصقر" تأسيس تلك العلاقة، خصوصا لقطة دفن زعيم القبلية الراحل وكأنهم حشرات صغيرة تسعى بين الصخور، وكأن قبورهم تماثيل على هيئة ضباع متحفزة. نلاحظ تلك المعاني بمجرد تحليل تلك اللوحات المرسومة بعناية لتنطق بشاعرية سينيمائية عن رثاء عبدالسلام للضالين الذين لا يعرفون هويتهم وكيانهم الحقيقي ولا يعرفون أسماءهم.


قالت مجلة سينما 70 الفرنسية عن المومياء أنه فيلم غريب وساحر، والواضح أن مخرجه لا يدين بموهبته لأي مخرج آخر، كما قالت جريدة الفاينانشيال تايمز الأمريكية بقلم ديفيد روبنسون "يمتاز الفيلم بإيقاع متمهل مريح يجبر المشاهد على الاستسلام، إن شادي عبد السلام بلا شك أول مخرج مصري يرقى إلى المستوى العالمي"، وقال عنه جون راسل تايلور في مجلة سايت آند ساوند البريطانية "هو واحد من الأعمال السينمائية التي تعتبر كل لقطة فيه عملا جماليا منفصلا بذاته، ويبدو من وراء هذا الجمال البديع أشياء تقال بطريقة غير مباشرة، ووراء الكلمات معان تقال ولو لم ينطق بها أحد"، لاحظ أيضا عزيزي فوز شادي عبدالسلام بجائزة جورج سادول الفرنسية كأحسن فيلم أجنبي عرض في باريس 1970، وتتميز تلك الجائزة بأن لجنة التحكيم بها تتكون من مجموعة من المحكمين الذين يختلفون ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ولأول مرة تمنح الجائزة لفيلم مصري. وكتب جي ماسكوفيتش في مجلة فارايتي الأمريكية "إنه يعود بنا إلى الماضي إلى الجوانب الأكثر أصالة والأكثر ارتباطا بالأرض ليعالجها ويقدمها بطريقة سينمائية عميقة، إنه فيلم جميل وأصيل، وتم إخراجه بقدر غير عادي من الفطنة والدهاء"، كما قال عنه ميشيل كابدوناك "هذا الفيلم الفريد من نوعه هو إشارة إلى ما يمكن أن يتمخض عنه الشرق من إبداع جديد خلاق".


بالتأمل في مكونات أفلام عبدالسلام البصرية والتي تمتد من عمله بالملابس والديكور، إلى صناعته أفلام وثائقية، نلاحظ أن العناصر الفنية لا يختلط بها أى عنصر غير مصري، فيلم المومياء تم تصويره في صعيد مصر بين الصحراء والوادي، حتى حركة الممثلين ونظراتهم كلها مستوحاة بشكل واضح من فلسفة الفن والجمال المصرية القديمة، تأمل خطوات الممثلين المتمهلة، وثباتهم، ونظراتهم، ثم راجع بعد مراقبة تلك الأمثلة التماثيل القديمة المنحوتة ونظراتهم إلى اللانهائية، والسعى مشيا كأنه ترجمة سينمائية لتلك الصور المنحوتة على الجدران، وقد عبر شادي في أكثر من لقطة عن ذلك التناص والمقارنة بين الماضي والحاضر، كما عبر عن إمكانية النهوض في صورنا الجميلة من جديد فقط بمجرد معرفة أسمائنا الحقيقية، وقد ترجم ذلك المعنى المصري القديم في عدم منح شخصيات القبيلة أسماء سوى ونيس ووالده سليم شيخ القبيلة، ليمثل تلك المعاناة القاسية في البحث عن الاسم الذي تضيع الشخصية والروح بضياعه وتذهب في شقاء دائم، لكن تحمُّل ونيس المصري الأصيل تلك المعاناة جعله يتخلص تدريجيا من اللعنة التي جسدها شادي عبدالسلام طوال فيلمه بالملابس السوداء، التي تختلف عن ملابس أهل الوادي البيضاء.


تناول الدكتور ناجي فوزي الناقد السينمائي في كتابه قراءات خاصة في مرئيات السينما فصل كامل  بعنوان "يوم أن تحصى السنين - المومياء / حقيقة مرئيات البعد الرابع"، وقال في بداية الفصل إن الفيلم برغم تعدد تناوله نقديا إلا أنه لم يلق التحليل الفني اللائق باعتباره مدرسة فنية مصرية سينيمائية كاملة وفلتة في تاريخ السينما المصرية، وقد تناول فوزي زاوية ذكر أن الكثيرين غفلوا عنها وهى فكرة استخدام عناصر مرئيات السينما لتحقيق البعد الرابع، والتعبير عن البعد الزمني بين عناصر الفيلم وبين المشاهد، وإحداث حالة متعمدة من التغريب كان العامل الأساسي فيها هو اللغة والإلقاء، كما تناول فوزي بالتحليل مسألة عبقرية شادي في استخدام أنواع مختلفة من الإضاءة الطبيعية والصناعية لتحقيق الدلالات الفلسفية والتعبير عن الحالة النفسية دون الحاجة لاستخدام حوار، كما أشار ناجي فوزي لتعمد استخدام شادي للرموز باستخدام الملابس وكتل ألوانها التي تنمط الشخصيات بطريقة مباشرة إلى حد كبير للوصول إلى التعبير سينمائيا بفن بصري بحت، نلاحظ مثلا رمزية الباخرة الآلية القادمة من العاصمة التي تنتمي للعالم الحديث والتي تحمل رجال الآثار "رجال العلم"، واستخدامهم لوسائل حديثة قارن شادي بين استخدام المشاعل مثلا واستخدام الكشافات الضوئية، ولن ننسى مشهد الجنازة الملكية الأخير والذي يحمل أزمان متعددة تفصلها آلاف السنين، بين توابيت الملوك الأجداد وبين الأحفاد في مطلع فجر يوم جديد استغرق تصويره حوالي 28 يوم حتى يحافظ عبدالسلام على إضاءة الفجر في ذلك المشهد المطول المهيب، والذي صاحبته موسيقى جنائزية غامضة ورهيبة ومؤثرات صوتية تقشعر لها الأبدان، تحمل تلك الجنازة ملامح النهضة وإعادة البعث المصري من جديد بين أحضان الأرض والوادي والأجداد الخالدين.