السبت 23 نوفمبر 2024

فن

الموسيقى المصرية والهُوية العربية

  • 11-10-2020 | 19:00

طباعة

عندما نتحدث عن تاريخ الموسيقى والغناء فى مصر، دائما ما يطلق الباحثون كلمات ومصطلحات مثل الموسيقى العربية، وهنا يختلف بعض المتخصصين على ذلك ليقولون علينا أن نقول الموسيقى المصرية وليس الموسيقى العربية، حتى تكون التعريفات والمصطلحات أكثر دقة، باعتبار أن هناك اختلافًا بين الموسيقى العربية والموسيقى المصرية، ولكن فى حقيقة الأمر، إن الموسيقى المصرية فى حد ذاتها التى شكلت الهُوية الموسيقية العربية، منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولو رجعنا لتاريخ الموسيقى والغناء فى العالم العربي نجد أن جميع أقطار الوطن العربي كان يجمعها تراثٌ موسيقيٌ واحدٌ، فمنذ سقوط غرناطة وقد أصبحت الموشحات الأندلسية اللون الغنائي الذى انتقل من الأندلس إلى الأمة العربية، حيث تناولت كل دولة من الدول العربية هذه الموشحات وفقا لثقافتها الخاصة بها، ولكن فى النهاية أصبحت الموشحات اللون الغنائي التراثي الذى أجمعت عليه جميع البلدان العربية؛ وإن كان لكل دولة عربية لونها الموسيقى والغنائي الذى يعكس ثقافتها وهُويتها المحلية أو الإقليمية.


 وعندما نتحدث عن الهُوية العربية فهى المصطلح الأشمل والأكثر عمقا، حيث ترتكز الهُوية العربية على عدة مكونات مثل الجنس العربي، واللغة، والتاريخ، والثقافة والدين، وقد يشمل الفن والغناء العديد من هذه العناصر المكونة للهُوية العربية، من حيث اللغة والثقافة، فنجد مدى تأثير أغاني أم كلثوم على الوطن العربي فى تشكيل وجدان الأمة العربية والالتفاف حول أغانيها، وأيضا تأثير القصائد التى تغنت بها أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وفيروز وعبد الحليم وناظم الغزاليعلى الثقافة العربية، سواء من حيث النص الشعري، أوالجانب الموسيقى والتطريبي لها.


ففي القرن التاسع عشر لم يكن للموسيقى العربية كيانٌ فعالٌ أو هُوية موسيقية قوية قادرة على أن تجمع الوطن العربي كأمة واحدة، ففى مصر كانت الموسيقى المصرية متأثرة كثيرا بالموسيقى التركية، وفى دول المغرب العربي ظلت أعمال فنانيها الغنائية محتفظة بالطابع الموسيقى الأندلسي، ولكن كانت البداية الحقيقية لدور الموسيقى والغناء فى العالم العربي على يد سيد درويش، الذى وضع للموسيقى العربية كيانًا خاصًا بها امتد تأثيره حتى الآن على كل البلدان العربية، حيث ما تركه من موشحات وطقاطيق تعد المادة الأساسية التى يتم تدريسها فى المعاهد والكليات المتخصصة لتعليم الموسيقى والغناء في الوطن العربية كافة تقريبًا، فقدتخلص سيد درويش من الطابع التركي الذى كان مسيطرًا على الأعمال الغنائية المصرية، وإن كانت البوادر الأولى لوجود موسيقى مصرية خالصة قد وضعها كل من محمد عثمان وعبده الحامولي فى نهايات القرن التاسع عشر، ولكن المجدّد الحقيقى والفعلي هو  سيد درويش، فهو أول شخصية فى جيل الرواد الذين قاموا بتطوير الموسيقى العربية، وهم خمس شخصيات موسيقية ( سيد درويش – محمد القصبجي –الشيخ زكريا أحمد – محمد عبد الوهاب – رياض السنباطي )،حيث ترك هؤلاء بصمة واضحة فى الغناء العربي، وأصبح الفنانون من جميع الوطن العربي يذهبون إلى القاهرة لتحقيق الشهرة والمجد فى عالم الغناء طوال القرن العشرين، بفضل أعمال هؤلاء المجدّدين.


ومع افتتاح الإذاعات العربية فى النصف الأول من القرن العشرين، حيث افتتحت الإذاعة المصرية الرسميةعام 1934، فكانت تسجيلات أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم تجوب الإذاعات العربية،وهذا كان له تأثيرٌ كبيرٌ فى أن يصبح للموسيقى والغناء المصري التأثير الأكبر فى تشكيل الهُوية الموسيقية العربية بشكل عام، بل إن الوطن العربي أحب وعشِقَ اللهجة المصرية من خلال تلك الأغاني، وأيضا من خلال السينما التى شهدت ازدهارًا أيضا طوال تلك الفترة.


أضاف سيد درويش للموسيقى العربية ما يعرف بالمدرسة التعبيرية فى الألحان والأداء الغنائي، حيث أصبح اللحن معبرًا عن معنى الكلمة سواء بالحزن أو الفرح أو الحب أو الهجر.. إلخ، بعد أن كان يعتمد على التطريب والسلطنة واستعراض إمكانيات المطرب الصوتية، فقد وضع سيد درويش أساسًا قويًا لوجود كيان موسيقى عربي سار على نهجه كل من جاء بعده.


محمد القصبجي، هو أول من أرسى شكل وقواعد المونولوج الغنائي، وذلك من خلال مونولوج ( إن كنت أسامح وأنسى الأسية ) عام 1927، من كلمات أحمد رامي، وغناء أم كلثوم، وإن كان المونولوج الغنائي كان قد ظهر أيضا على يد سيد درويش من خلال المسرح الغنائي مثل مونولوج ( والله تستاهل ياقلبي )، ولكن القصبجي أهم الملحنين الذين قدموا مونولوج غنائيًا على المسرح خاصة مع أم كلثوم، ومن أشهر أعماله أيضا مونولوج ( رق الحبيب)، حيث ما دفع القصبجي للإبداع فى هذا اللون هو الشاعر أحمد رامي، الذى كان متأثرًا بالرومانتيكية الفرنسية بعد عودته من فرنسا، ليقدم كلمات غنائية بشكل جديد ومختلف عن الموشحات والأدوار.


والمونولوج الغنائي يختلف كثيرًا عن المونولوج الفكاهي أو الانتقادي الذى كان يقدمه شكوكو وإسماعيل ياسين وثريا حلمي، وآخرون، حيث المونولوج الغنائي العاطفي، لون غنائي مأخوذ عن الغناء الغربي، ودخل الموسيقى العربية فى القرن العشرين، وله سمات محددة، حيث كلماته إما أن تحوى قصة لها بداية ونهاية، أومناجاة مع النفس ومخاطبة للوجدان، ومن الناحية الموسيقية استرسال فى جُملٍ موسيقية ولحنية متنوعة وجديدة من "كوبليه" لآخردون العودة لمذهب، مثل الطقطوقة، أو لتكرار لحن من "كوبليه" سابق، وذلك فى معظم المونولوجات.


الشيخ زكريا أحمد، لعب دورًا كبيرًا أيضا فى تطور الموسيقى العربية، فهو ينتمى للمدرسة التطريبية مدرسة المشايخ فى الألحان والأداء التى كانت سائدة فيالقرن التاسع عشر، ولكنه قدمها بشكل جديد، ففى ألحانه لأم كلثوم نجد أنه أضاف لها الطقاطيق الخفيفة، ولكنها السهل الممتنع، لأنها تحوي أسلوبًا غنائيًا تطريبيًا ومشيَخيًا مثل ( الورد جميل – غنيلي شوي شوي .. إلخ )، كما كان آخر أعماله لها أغنية ( هو صحيح الهوي غلاب ) عام 1960، التى أعادت أم كلثوم لبداياتها التطريبية عندما كانت تغني ألحان الشيخ أبو العلا محمد منذ أكثر من ثلاثين عاما، من تاريخ هذا اللحن، بأن تغني على مقام شرقي أصيل، وهو مقام الصبا، كما جاءت الجمل اللحنية بشكل تطريبي ولكن أكثر حداثة.


موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، هو المجدد المغامر فى تاريخ الموسيقى العربية، حيث له دور كبير فى تطور الألحان والغناء، ليس ذلك فحسب، بل له الفضل فى تكوين فرقة موسيقية كبيرة لأول مرة فى الغناء العربي، ولم تعد الفرقة تقتصر على التخت الشرقي المحدود فقط، وبذلك فقد مهد عبد الوهاب بأن تتواجد المقدمات الموسيقية للقصائد والأغاني المطولة، التى سمعناها فى قصائده وفى أعمال السنباطي وفريد والموجى وبليغ حمدي، فهذا التنوع الكبير فى الآلات الموسيقية العربية والغربية والأوركسترالية أعطى خيالًا وآفاقًا إبداعية أكثر لدى هؤلاء الملحنين لعمل مقدمات موسيقية أشبه بالمؤلفات الموسيقية البحتة.


كما أدخل عبد الوهاب العديد من الإيقاعات الغربية والآلات الأوركسترالية والتِيمات الموسيقية العالمية، وإن أُتُهم فى بعض ألحانه بـ "السرقة والاقتباس"، ولكن يظل عبد الوهاب أهم المجددين الذين طوروا فى الموسيقى العربية من حيث الألحان، ومن حيث الأداء الغنائي أيضا.


الموسيقار رياض السنباطي، هو آخر فنان فى جيل الرواد فى بداية القرن العشرين، ليس آخرهم من حيث التجديد والتطوير، ولكن من حيث الظهور والمولد، حيث يعد من أهمهم لما له من دور مهم وكبير فى أن يصبح للألحان العربية شكل يتسم بالكلاسيكية والهيبة والوقار فى جمله اللحنية، السنباطي أعظم من لحّن القصيدة الغنائية فى تاريخ الغناء العربي، فقدم لأم كلثوم وحدها 103 ألحان، جاءت معظمها فى قالب القصيد الغنائي، والذى يعتبر أصعب أنواع الغناء، سواء من ناحية الصياغة اللحنية أو من ناحية الغناء، حيث تعتمد القصيدة على أن تكون الكلمات باللغة العربية الفصحى، وهذا يتطلب إلمام الملحن بالمعاني والالتزام بالتشكيل، وكذلك لدى المطرب.


لقد شكّل هذا الجيل الأول، جيل الرواد، فى القرن العشرين مايسمى بـ"الهُوية الموسيقية العربية"، حيث  غيروا وأضافوا وطوروا الموسيقى العربية، وليست الموسيقى المصرية فقط، ليصلوا بها إلى أقصى درجة من الرُقيّ والإبداع ، سار على نهجهم بعد ذلك أجيال أخرى كانت لهم بصمتهم الواضحة أيضا، ولكن على نفس النهج الذى وضع أساسه المتين والقوى هؤلاء الرواد.


ليظهر الجيل الثاني فى نهايات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، مثل (فريد الأطرش – محمد فوزي – أحمد صدقى – محمود الشريف)، وكذلك الجيل الثالث الذى استقى إبداعاته من الجيل الأول، وهذا الجيل ظهر بعد ثورة يوليو 1952، وهم ( منير مراد – محمد الموجي – كمال الطويل – بليغ حمدي )، وقد أحدثوا طفرة فى الألحان، كما كان للرحبانية أيضا مع صوت فيروز دور كبير فى وجود موسيقى جديدة وأسلوب غنائي جديد فى الموسيقى العربية، كان له تأثير واضح على الوطن العربي كافة.  


نجح الغناء فى أن يحقق الوحدة العربية طوال القرن العشرين، بل والحفاظ على الهُوية والثقافة العربية، حيث كانت الإبداعات الغنائية على مستوى العالم العربي سواء فى مصر من أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد فوزي وفريد الأطرش .. إلخ، وفى لبنان نجد فيروز والرحبانية، والمغرب عبد الوهاب الدكالي، والسعودية طلال مداح ومحمد عبده .. إلخ، فكان لكل هؤلاء تأثير واضح فى رفع الذوق العام والرقي بمشاعر الأمة العربية، حيث استطاع الغناء أن يجمع كل شعوب الوطن العربي على حب هؤلاء الفنانين والاستمتاع بأعمالهم الخالدة ليحقق الفن ما كانت تعجز عن تحقيقه الحكومات والأنظمة العربية، ساعد على ذلك وجود إذاعات عربية تتبع سياسة موحدة بوجود لجان فنية للموسيقى والغناء ولجان للشعر، ورقابة لجودة ما يقدم من أعمال عبر هذه الإذاعات، ورفض أى أعمال لا ترقى للذوق العام أو تبعدنا عن هُويتنا العربية، ولكن قد تبدل الحال الآن وأصبحت أعمالنا الفنية بلا هُوية تأثرًا بما يتم مشاهدته عبر الإنترنت، هذا العالم المفتوح بلا قيود، ليُخرج علينا أجيالًا لا تعي قيمة الفن والثقافة لتبث سمومها تحت مظلة الفن والإبداع وحرية التعبير، مثل ظاهرة أغاني المهرجان، وغيرها، وهذا لا يمنع أن هناك آخرين يحاولون ويسعون لتقديم فن راقٍ ملتزم بثقافتنا وهُويتنا العربية، ولكنهم فى ظل الكثير من التحديات يشعرون أنهم يسبحون ضد التيار.