عند الحديث عن الهوية المصرية فإننا أمام حضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ حضارة استمدت هويتها من الطبيعة المصرية الخلابة التي ساعدت المصري القديم على التحرر من الخوف، وقدّم للعالم حضارة تحدث العالم عنها بكل مجد وبكل فخر وتواصلت مع الحضارات الأخرى فامتزجت الشخصية المصرية بالشخصية الفينيقية والعراقية القديمة والرومأنية وإلىونأنية تأثر الجميع بها وتأثرت بالكل ولكن ظلت محتفظة بهويتها المصرية .
والسؤال هنا: هل هوية الإنسان تستمد من اللغة أم من الأرض؟
اللغة تتغير ولكن الأرض لا تتغير فالهوية المصرية مستمدة من الأرض المصرية التى نقلت حياة المصري القديم من حياةالتنقل والترحال إلى إنسان مستقر حول ضفاف النيل يعيش في رغد ورخاء، فنجد أن حضارتنا مستمدة من الأرض السمراء والسماء الصافية؛ لذا سنجد أن الطبيعة أثرت في إبداع المصري القديم وكأنت محور اهتمامه فالأدب الديني لدى المصري القديم تأثر بهذه الطبيعة وجاءت أسطورة إيزيس وأوزوريس شاهدًا على ذلك التأثر الواضح.
فتخيل المصري القديمأن السماء والأرض ذكراً وأنثى تزوجا وأنجبا اثنين من البنينهمــــــــا:أوزوريسوسـت؛ومن البنات اثنتين همـــــا:إيزيس ونفتيـــس,وقد تزوج أوزوريسأختــــه إيزيس,وتزوج ست أختـــــه نفتيسوتولى أوزوريس حكم الأرض فقدم للناس كل الخير والصلاح؛مما جعله مثلا للخير وعلّم الناس الزرع, وخطط لهم القرى والمدن,وشرّع لهم القوانين والأحكام,وأحبه الناس،فحقد عليه أخوه ست،وفكر في قتل أخيه.
أعد ست خطة،ليقتــــل أخاه أوزوريس حيث أقام حفلا كبيرا دعا إليه أوزوريس ثم أخبر ست ضيوفه أنه أعد لهم مفاجأة وهي تابوت هدية من الذهب يكون من نصيب من يأتي مطابقًا على مقاسه وقد تعاقب الضيوف في الاضطجاع في التابوت حتى جاء دور أوزوريس(الذي أعد له التابوت خصيصا)وأخذ في التابوت مضجعه،فبادر ست وأتباعه بإحكام الغطاء على التابوت وبداخله أوزوريس،ثم حملوه وألقوه في نهر النيل، فجرفه النهر إلى البحر المتوسط الذي حملته أمواجه إلى فينقيا (لبنان حاليا)،ثم قذفته الأمواج إلى ساحل مدينة جبيل وما لبثت أن نبتت فوق التابوت شجرة ضخمةأخفته عن العيون.
كانت إيزيس في ذلك الوقت تجوب الأرض بحثًا عن زوجها إلى أن هداها الله إلى مدينة جبيل ووجدت التابوت،وظلت هنــــــاك إلى أن نجحت في الهروب بجثة زوجها،وعادت إلى مصر،وفي مصر أنزوت إيزيس بالجثة في مكان ناءٍ من مستنقعات الدلتا،وأخذت تبكي وتبتهل إلى الله أن يرد الحياة لزوجها أوزوريس فاستجاب الله لها، وانطلقت إيزيس بصيحات الفرح هنــاك فسمعها ست الذي صادف أنه كان يصطاد في مكان قريب منهما،فما كاد يسمع الصوت حتى اتجه مسرعا نحوهما فإذا به يجد أخاه حيا،فيغضب غضبًا شديدًا،ويمزق جثةأوزوريس،ويلقي بكل جزء منها في أقاليم مصر الاثنين والأربعين.
أنجبت إيزيس ابنها حورس بعد أن حملت به من روح أبيه أوزوريس،وأخفته عن العيون في أحراش الدلتا حتى يكبر ليكون في مأمن من غدر عمه ست،عندما كبر حورس جمـــع الأنصار حوله للانتقام لأبيه، والمطالبة بعرشه،فانقسمت البلاد إلى حزبين،وشاء الله أن ينصر الحق والخير فانتصر حورس على عمه ست ثم حكمت الآلهة في هليوبوليس بين المتخاصمين بحكم حورس لعرش أبيه فيصبح ملكا على المنطقة الخصبة لمصر ويصبح أوزوريسإلها للموتىويحكم ست الصحاري القاحلة.
لم تنته القصة بانتصار الخير وهزيمة الشر بل أصبحت القصة أيقونة للحب والتربية والعقيدة والتضحية وأيضا أصبحت القصة تنتقل من حضارة لأخرى وظهرت الهوية المصرية الراسخة في جميع زوايا الأسطورة وهي:
المحبة:الأسطورة تناولت محبة الزوجة للزوج والوفاء له فبحثت إيزيس عن أوزوريس وفي كل مرة تجده لأنها تؤمن بوجوده ولا تستطيع العيش بدونه فكأنت الزوجة في الحضارة المصرية حقل خصب لزوجها استطاع أوزوريس أن يرزع المحبة في وجدأن زوجته فظلت مخلصة لحبه حتى بعد وفاته وبحثت عنه وكلها إيمان بأنها ستجده.
التربية: تجلى دور الأم في تربية الابن حورس وتعليمه والاهتمام به وغرس قيم المحبة و الخير والحكمة حتى يستطيع أن يواجه قوى الشر المتمثلة في عمه ست والذي استطاع أن ينتصر عليه بمعاونة الشعب له ويحكم مصر ويترك الصحاري القاحلة لحكم العم ست.
العقيدة: إيمان الزوجة بقوة الآلهة في إعادة الروح لزوجها فعادت الروح مرة أخرى للزوج وهى عقيدة منبثقة من عقيدة المصري القديم في البعث فهو يرى حياته على الأرض مجرد رحلة قصيرة يعيشها في طاعة الآلهة ويمارس الخير ويبتعد عن الشر فكان الدين بمثابة دستور العلاقات الإنسانية ودستور الشعب.
التضحية: صورة إيزيس وهى تربي ابنها وترعاه أصبحت أيقونة لكل زوجة توفي أو استشهد زوجها واعتكفت على تربية أبنائها ليكملوا مسيرة الأب في نشر قيم العدل والخير.
التواصل: لم يقتصر تأثير القصة على المجتمع المصري بل امتدإلى الحضارات المجاورة في حوض البحر المتوسط وتؤثر وتتأثر بالثقافات الأخرى مثل الحضارة الفينيقية التى صورت الصراع بين الخير والشر في قصة الإله بعل وهى تشبة قصة إيزيس و أوزوريس.
القارئ للأسطورة للمرة الأولى يظن أن بطلها أوزوريس لكن المتأمل لها يجد أن الشخصية المصرية (الهوية) هي بطلة هذا العمل الأدبي الذي تداولته أدبيات العالم من حضاراتنا وأصبح أيقونة للصراع بين الخير والشر على مر الزمان.