الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

فن

تعريف الأبنودي للوطنية: "الوطن من غير ناس ما ينداس"

  • 11-10-2020 | 20:45

طباعة

"مطرح ما مصر تكون أنا بكون".. جملة قالها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في أحد لقاءاته التليفزيونية قبل 2010، ربما تلخص تلك المقولة علاقة الأبنودي بالوطن، وتفسر أيضًا كيف حملت أشعاره رائحة تراب الوطن دون ابتذاله. 


تربّى الأبنودي على حب الوطن، لكن في صغره لم يكن ذاك الوطن سوى بلدته أبنود التي جاء منها، هي وطنه الأّول كما يقول الكاتب الصحفي محمد توفيق، صاحب كتاب "الخال"، الذي توطدت علاقته بالأبنودي منذ 2011 وحتى وفاته، كما تعلّق الأبنودي بوالدته فاطمة قنديل، في ذلك الوقت كانت أبنود وأمه بمثابة "مصر" بالنسبة له. 


لكن مفهوم الوطن عند الأبنودي لم يظل عند هذه النقطة، بل كبُر مع الوقت، يذهب الفتى إلى المدينة، بعد ذلك إلى قنا، حيث يعمل هناك ككاتب محكمة، ثُم يلتحق بالجيش المصري، وتتوطد علاقته بالعاصمة، فيكبر الوطن في قلبه، ويحكي المثقف شعبان يوسف أن الأبنودي كان يأتي إلى القاهرة ببذلته العسكرية مُلقيًا أشعاره في بداية الستينيات، هكذا كان يفخر الأبنودي بانتمائه للجيش المصري، وتُصبح مدخلًا مهمًا في فهم الأبنودي.


يكبر الولد أكثر، ويتعرض لتجربة دخول السجن ستة أشهر، يقول يوسف إنه ربما يكون بسبب صراع بين أجهزة، في ذلك الوقت كان الأبنودي قد نشر ديوانه الأول "الأرض والعيال"، والذي حوى ملاحظات فنية توضح تمرده على الأداء السياسي لنظام الدولة في الستينيات، كما انتظم الأبنودي في أشكال سياسية معارضة.


أصقلت تجربة السجن الأبنودي، حتى أنه قال ذلك ذات مرة إن الشاعر القوى تُقوّيه تجربتان "السجن والحرب"، خرج الأبنودي من تلك التجربة أقوى مما كان، ومعجون أكثر في تراب الوطن، كما يقول يوسف، فالأبنودي كان مُنتشرًا في بيوت المصريين عبر أشعاره وأغانيه على لسان محمد رشدي وعبد الحليم حافظ ونجاة وشادية وغيرهم.

ولم يُمثّل مصر أغانٍ في فترة ما بعد هزيمة 1967 أكثر مما فعلته أغنية "عدى النهار"، ورغم أنه قد كتبها قبل 67 وكأنها كانت استشرافًا لوضع البلد، فقد أعطى كلماتها لعبد الحليم حافظ بعد النكسة، ويحكي توفيق أن العندليب خلال التحضيرات كان يحلم بأنه محمول على أكتاف الناس وسط ميدان التحرير، كأنها نبوءة لما ستفعله تلك الأغنية بنفوس المصريين.


كان ما يهم الأبنودي هو الناس، ظهر ذلك جليًا في قصائده، وجوه المصريين تمثّلت في أشعار مثل "جوابات حراجي القط"، وديوانه "وجوه على الشط"، يقول الكاتب والشاعر أسامة جاد إن الزمن الذي ظهر فيه الأبنودي قد حكم عليه اتجاهاته، فولّى وجهه شطر القومية العربية والانتماء للبسطاء، وقد كانت قصيدته "الخواجة لامبو" واحدة من أهم الأشعار التي تحكي عن الصراع الطبقي.


كذلك اتجه الأبنودي للشعوب العربية، فوزّع حبه بينهم، حتى أنه في السودان قد أطلقوا عليه "الشاعر السوداني الذي ضلّ طريقه إلى القاهرة"، كما يذكر توفيق.


كان الأبنودي مدفوعًا بحبه للوطن طيلة الوقت، كل آثاره تقول ذلك، فواحدة من إنجازاته كان توثيق السيرة الهلالية، التي بدأ في جمعها بعد هزيمة 1967، وفي رأي جاد أن الأبنودي كان يجري في الأرض بحثًا عن السيرة الهلالية بمنطق البحث عن "إلياذة عربية". 


كما كان سعي الأبنودي الحثيث وراء السيرة والوصول لشخصيات أثرت التاريخ المصري مثل الزناتي خليفة والظاهر بيبرس وحمزة البهلوان وعلي الزيبق، ما هو إلا دور وطني أيضًا، لأنه أكمل فراغًا في فترات تاريخية مجهولة كما يقول جاد، وفي اعتقاده أن حسّ الأبنودي تجاه الوطن أفضل كثيرًا من الخطابات الزاعقة؛ وبجانب قصائده الشعرية وأغانيه المعبّرة عن المد الوطني والقومي، كانت هناك أغاني المسلسلات مثل، الأيام وبوابة الحلواني والنديم، فهي أعمال درامية تمحورت أيضًا حول الوطن، وكانت أغانيه مُعبرة عن ذلك، كما يذكر جاد.


اختلفت علاقة الأبنودي بعد ذلك مع الأنظمة السياسية في عهديّ السادات ومبارك، فيذكر جاد أنه حاول البحث وراء قصيدة مجهولة للأبنودي، وسأل عنها الشاعر، وقد كانت قصيدة في هجاء السادات، أما خلال عهد مبارك فقد تغيّرت علاقته بالنظام حالما بدأ يرى تهالكه، فقد كان يُكلّف بكتابة الأوبريتات الوطنية التي تُذاع خلال مناسبات حرب أكتوبر، لكن تم منعه بعد ذلك حالما نشر قصيدة "الاسم المشطوب"، المشهورة باسم "عبد العاطي"، والتي قال فيها "اكشف غطا وجهك ومزع القناع.. بلا حكومة.. بلا لكومة.. بلا بطولة.. بلا بتاع".


يحتفظ توفيق في جُعبته بالكثير من الذكريات مع الخال، كانت بداية مقابلته في وقت حساس في تاريخ مصر، ففي أبريل 2011 بدأت لقاءاتهما الدورية، حيث كان يُقابله أسبوعيًا حتى رحيله، بالإضافة إلى الاتصالات خلال الأسبوع نفسه، اقترب توفيق من الخال كثيرًا، رأى ملامحه الأصيلة، شاهد كيف أحبّه الجميع، وكيف كان أهل الضبعية أصدقاء للأبنودي. 


خلال الثورة استدعى الوعي الجمعي الكثير من قصائد الأبنودي، من بينها قصيدة المد والجزر، والأحزان العادية، وقد كتبهما في فترة الثمانينيات، حتى أن فريق كاريوكي قام بغناء الأحزان العادية، مما أدى إلى انتشارها بشكل أكبر، ويقول جاد إنه لا ينسى تعبيره عن دولة مبارك واصفًا إياها بـ"دولة العواجيز"، وفي رأيه أنه تعبير غاية في الطرافة لأن الأبنودي كان كبير السن في ذلك الوقت أيضًا، لكن قلبه شاب.


كان الأبنودي مُنغمسًا في الحياة بكل وجدانه، رأى توفيق ذلك بعينيه، فقد كان معتادًا على قراءة الصحف اليومية حتى غيابه، كما كان يسأل دومًا عما يحدث في عالم الموقع الأزرق "فيسبوك"، رغم أنه لم يستطع التعامل مع التكنولوجيا، ويحكي توفيق أنه كان يسأل عن المجموعات التي تُنشأ باسمه على فيسبوك، وما القصائد التي ينشرونها له.


إلى نهاية حياته كان الأبنودي يستدعي شخصيات من دم ولحم في قصائده، كانت مصر حاضرة من خلال هؤلاء، ولا ينسى توفيق إلى الآن تلك الحكاية؛ فذات مرة وهو راكبًا "تاكسي" كان يتحدّث إلى الأبنودي عبر التليفون، وحالما انتهت المكالمة التفت إليه السائق قائلًا "انت كنت بتكلم الأبنودي؟ سلم عليه"، استغرب توفيق كثيرًا، فحكى له ذلك الشخص أنه كان سائقه منذ 15 عاما، اعتقد توفيق أنها حكاية طريفة سوف يقصها على الأبنودي، وبالتأكيد سيكون الخال ناسيًا اسم السائق، لكن ما إن حكى له، تذكر الأبنودي السائق، يُعلّق توفيق على تلك الحكاية قائلًا "هو ده مدخل الأبنودي للوطنية، بيتعامل مع كل الناس، وسهل جدًا تلاقي 10 آلاف واحد عنده حكاية مع الأبنودي".


    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة