الثلاثاء 2 يوليو 2024

التحدي الغربي.. وسؤال الهوية

أخبار11-10-2020 | 20:52

كانت قوة التحدي الغربي على المستويين السياسي والحضاري في ذروة هيمنتها على المنطقة العربية بعد السيطرة الفرنسية على دول المغرب، واحتلال بريطانيا لمصر والعراق، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، تمت السيطرة البريطانية الفرنسية شبه الكاملة على العالم العربى، وحتى عام 1924 الذي ألغيت فيه الخلافة الإسلامية، تمكن الغرب تدريجياً من تصفية الكيان العربي الإسلامي الموحد نهائياً – ولأول مرة في التاريخ – وأن يحكم المنطقة حكماً مباشراً ليفرض أسلوبه في الإدارة والتشريع والتعليم ونمط الاقتصاد، وأن يلحقها بدورته الرأسمالية العالمية كمصدر للمواد الخام وسوقاً لمنتجاته المصنعة، فضلاً عن كونها ممراً استراتيجياً لطرق تجارته. ومن ثم، تمكنت مؤثراته الحضارية من إيجاد طريقها إلى المجتمعات العربية بقوة واندفاع، دون أن يتاح لهذه المجتمعات حرية الاختيار أو الرفض. وأسفر كل ذلك عن سوء استيعاب للمؤثرات الغربية، بما أدى إلى حدوث ارتباك واضطراب في تلك المجتمعات التي اختل توازنها إلى حد كبير بين "تراثها الموروث"، وبين "الوافد الجديد". فبرزت على الساحة ثلاثة تيارات رئيسية (تقليدي وتغريبي وإصلاحي) ضم كل منها ما لا حصر له من الآراء والتوجهات، وكان لكل تيار من هذه التيارات موقف في مواجهة معضلة الحضارة الغربية.


فأصحاب التيار التقليدي حيث يعتقدون أن التمسك بالتراث بكل أبعاده وجوانبه، هو القادر على مواجهة الطغيان الحضاري الغربي. فنظروا إلى التراث باعتباره أمراً مقدساً في مواجهة الحداثة، معتقدين أنه بالإمكان العيش في إطار التقليد الموروث عمن سلفهم، وإغلاق الأبواب في وجه حضارة الغرب وثقافته، فلم يتمكنوا من الصمود بعد اجتياح الطوفان الغربي للمجتمعات التقليدية، دون مسعى من جانبهم  لمواجهة هذا الاجتياح في ظل حالة عدم التوازن هذه، وعدم تهيئة المجتمع لقبول حضارة الغرب على وجه مدروس- ومن ثم فقد وجد المجتمع التقليدي نفسه وقد أصبح في ورطة مضاعفة.


بينما اندفع المُنتمونللتيار التغريبي في الترويج لظاهرة "الحضارة الغربية" عبر نظرة سطحية لإنجازات هذه الحضارة، دون تأمل أو تفكير في أساس حضارة الغرب وثقافته. وتسببت تصوراتهم في اتساع الهوة بين التراث والحداثة، معتقدين أن معضلة مجتمعاتهم تكمن فقط في قبول الحضارة الغربية، وعمد هؤلاء إلى تحقير التراث والاستهزاء به، بدلاً من تحليله ونقده وفهم دلالاته، متجاهلين نفوذه وسيطرته المتأصلة في حياة الناس، ففشلوا في العثور على لغة مشتركة أو قاسم مشترك يربطهم بمجتمعاتهم. وراحوا يطالبون بالأخذ بالثقافة الأوروبية، كما لو كانت أوروبا مجرد نظريات وفلسفات، وليست مجتمعات بشرية وصلت إلى نظرياتها، وحققت فلسفاتها من خلال تجارب بشرية وأزمات معيشية، وحركات إصلاحية وثورات شعبية متعددة.


أماالتيار الإصلاحي فقداستهدفت "الدعوة الإصلاحية" بالدرجة الأولي - تجديد الفكر الديني، وفتح باب الاجتهاد من جديد. حيث  يرى دعاة الإصلاح أن المجتمع الإسلامي الذي يزعم أنه يطبق الشريعة الإسلامية، لا يفهم الإسلام كما ينبغي، لما يعانيه من جمود وتخلف. تبنى هذه الدعوة جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الشيخ/ محمد عبده. وينطلق الإصلاحيون في عملهم من مبدأين: الأول: العمل على إحياء الهوية الثقافية والتاريخية للأمة من خلال العودة إلى الذات، والثاني: النظرة الموضوعية في التعامل الإيجابي مع معطيات الحضارة الحديثة والحذر في ذات الوقت من نزعة الغرب الاستعماري التوسعية. 


...فالجدل بين أنصار التجديد والإصلاح الديني, وبين أنصار الأخذ بالثقافة الأوروبية تَحوَّل إلى "صراع فكري" نظراً لتصلُّب المواقف, وانعدام الفهم لمتطلبات النهوض – فأُصيب المجتمع بالازدواج و الانشطار الثقافي الذي لا يسمح بتطوير سليم لهذه الثقافة أو تلك – بينما في حقيقة الأمر لا توجد أزمة هوية – ولا يجب أن يكون هناك اختلاف حولها...فالأزمة تكْمُن في انعدام الفهم...و في الرؤى الأسيرة لتشوهات الماضي وهشاشة الحاضر. حيث التناقُض بين "الهوية الوطنية" والانتماء العربي أو الإسلامي تناقُض زائف –لأن تعزيز الهوية الوطنية يُساهم في إزالة الانقسامات التي تضرب البلدان العربية والإسلامية – إما على أساس طائفي عرْقي أو مذهبي ديني – فالوحدة الوطنية هي ركيزة الدعوة لتضامُن "عربي – إسلامي" حقيقي في مواجهة التحديات التي تعْصِف بمنطقتنا العربية, وما ينجم عنها من تداعيات كارثية.


...وإذا نظرنا إلى "مسألة الهوية" في "مصر" علي سبيل المثال – والمعارك الفكرية التي دارت بين رواد الأدب والفكر على امتداد القرن الماضي – وهل مصر فرعونية أم عربية إسلامية...أم أنها تنتمي إلى الضفة الأُخرى من المتوسط –بدايةً من الإمام مُحمد عبده ولطفي السيد وطه حُسين ومُحمد حسين هيكل وعباس العقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وحسين فوزي وغيرهم– و تغيرت مواقفهم فيما بعد – بينما نجد أن المفُكر العبقري الراحل "الدكتور جمال حمدان" يقول "...إن مصر فرعونية بالجد...وعربية بالأب...وهي قلب العالم العربي...وواسطة العالم الإسلامي...وحجر الزاوية في العالم الإفريقي – فهي لا تجمع بين مُتناقضات...إنما تجمع بين أطراف متعددة غنية...وأبعاد وآفاق واسعة..." تلك هي "الرؤية التكامُلية" في الإجابة على "سؤال الهوية" – غير أن استمرار الصراع بين أنصار هذه الاتجاهات – هو ما يفتح الباب واسعاً على المشهد العربي الراهن بكل ما فيه من تردّْي وانهيار.