الخميس 23 مايو 2024

ابن عروس وظاهرة تمصير الخطاب الشعري

فن11-10-2020 | 21:37

في نقد الخطاب السردي يوجد مصطلح مهم ربما لا يتلفت له كثيرون عن تحيين الأفكار وترهينها، أي أن الأفكار الكلية أو الكبرى أو الأسئلة الإنسانية العامة التي يتم السرد حولها وحول مقاربتها يتم تحيينها وترهينها بما يعني جعلها مرتبطة ببيئة معينة أو راهن ثقافي ما، ربطها بواقع وإطار اجتماعي معين يكون علامة عليها وتصبح هذه الخطابات علامة عليه كذلك. هذا هو ما فعله نجيب محفوظ على سبيل المثال مع أفكار إنسانية مركزية مثل الموت والعلم والحياة الأخرى وأسئلة السياسة والنظم الاجتماعية حين طبقها كلها وحيينها بالمجتمع المصري والحارة المصرية. هذه العملية التحويلية هي من الناحية الفنية في منتهى الأهمية لأي خطاب أدبي ذلك لأنها تبدو هي ما يمنح الأدب طعمه الخاص ويجعله أكثر فاعلية وتأثيرا وجمالا لأنه حينئذ يكون قد اكتسى لحما ودما مأخوذين من هذا الواقع المشترك مع القارئ، بما يعني أنها خطوة إضافية فياتجاه المتلقي واتجاه ما يخصه، وبدلا من أن يكون هناك مسافة بين الأدب والمتلقي بحكم ارتباط المتلقي بمحددات ثقافية واتصالية معينة ابنة بيئته يكون الأدب عبر التحيين والترهين قد اقتحم عالمه وأصبح في غاية القرب منه وتلبس بمشاعره الآنية وبلغته المنطوقة أحيانا أو بالأحرى باللغة التداولية الطازجة التي قد يكون المتلقي استخدمها في هذا اليوم نفسه الذي يتلقى فيه العمل الأدبي.


أن يغزل النص الأدبي مادته من العلامات الراهنة التي تقتحم حياة المتلقي أو بالأحرى تشكل عالمه الآني فهذه مسألة في غاية الأهمية، لنفترض مثلا أن كلمة معينة رائجة على لسان الناس في العصر المملوكي وغالبه على منطقة معينة ثم يأتي شاعر المنطقة ويحولها هذه الكلمة لتكون القوام الرئيسي في نص شعري معين حافل بجماليات أخرى وتلك مسألة مرتبطة بالمقدرة الفنية، ففي أغلب الأحيان ستكون النتيجة مبهرة لأن استجابة المستمعين أو المتلقين لهذا النص الشعري ستكون فيها عددا من العناصر المهمة التي قد تكون مفقودة مع نص آخر ينفصل بدرجة معينة عنهم، أهم هذه العناصر ربما على الإطلاق هو عنصر السرعة فلن تكون هناك عمليات لغوية تحويلية للعقل يدرك منها معاني كلمات هذه الكلمة الرائجة حين يتم توظيفها في نص شعري بشكل ثري، ذلك لأن الكلمة مازالت ملتصقة بعقله ويدرك معظم مراميها وتنويعاتها الدلالية، فضلا عن أن المسألة لها علاقة كذلك بمفهوم الشعر نفسه بالنسبة للمتلقين في جموعهم، فالشعر في الأساس ابن الواقع الاجتماعي ومن الحتمي والراسخ عبر كل العصور والثقافات أن يكون الخطاب الشعري لمجتمع معين مرتبطا به وأن يكون حاويا لكثير من نبض هذا المجتمع وربما كله. النص الشعري الذي يقارب واقعة أو قضية مرتبطة بالراهن المصري الآن سيكون أكثر التصاقا بوجدان المصريين من غيره بالطبع إذا كان على مستوى عالم من الفنية، ويتفوق على غيره المساوي له من الناحية الفنية ولكن يقارب موضوعا ربما على درجة أقل من الأهمية، ولنضرب مثلا بنص شعري يتعامل مع تحدي المياه أو مع ميراث المجتمع المصري مع نهر النيل ودوره ويكون بدرجة كبيرة من الفنية والرمزية والتأشير الأسطوري أو السردي أو الدرامي غير المباشر ونص آخر له كل هذه الجماليات ولكنه مثلا يقارب قضية أخرى أقل أهمية بالنسبة لاهتمام المصريين أو تحدياتهم الآن، نقول مثلا تاريخهم في موقعة معينة في الحروب الصليبية أو الصراع مع أوربا، أظن أن موضوع النهر سيكون أكثر نجاحا برغم التساوي المفترض للنصين من الناحية الفنية، فموضوع النهر سيكون أكثر تمركزا في وجدان المصريين في تلك اللحظة، والفنان بطبيعته هو النموذج الاجتماعي الأول، بمعنى أنه يكون أسرع من يشعر بنبض مجتمعه وربما هذه من الثوابت والمسلمات التي قد لا تحتاج جدلا ذلك لأن الفن في جوهره ممارسة اجتماعية أكثر من كونها طقس روحي فردي، بل هو طقس جماعي.


ابن عروس الشاعر المصري كان فنانا بطبعه، وكان جديرا بالخلود الأدبي أكثر من غيره من معاصريه من الشعراء الآخرين وبالتأكيد كان الأوفر موهبة ذلك لأن إحساسه الشديد بنبض مجتمعه ولكونه كذلك كان على قدر كبير من العفوية ويصدر عن روح فنان حقيقي عبر عن بيئته وإطاره الاجتماعي وتجاوب مع معطيات لحظته ومحدداتها وشروطها وهذه مسألة لها تقديرها الكبير حين يتم تحليل الممارسة الأدبية وتناولها من وجهة نظر نفسية، لأنها تنطوي على عمليات تحويلية ربما صعبة وغير معهودة وتكرس لقواعد جديدة في الفن، وهذا ما فعله ابن عروس بأن دمج- لأول مرة ربما في تاريخ الشعر العربي وبشكل موسع – تقاليد اللهجة العامية وقوانينها المضمرة وبالطبع غير المدروسة في قواعد اللغة الأم وقوانينها الشعرية، حول العامية لأن تكون خاضعة في كل مستوياتها لتقاليد الشعر من أوزان وصور واستعارات وقافية وجماليات معهودة ومعتاد عليها في اللغة الفصحى، ربما يتصور بعضهم أن هذه مسألة سهلة، ولكن الحقيقة أنها تنطوي على إجراءات كثيرة تفصيلية لنكون في النهاية أمام شكل جديد للقصيدة، وقريب من هذا بدرجة كبيرة ما فعله الشعراء الأندلسيون مع الموشحات حين أخضعوا الشعر العربي لقوانين الإيقاع الخاصة بالبيئة الأندلسية ولمجريات فن الغناء والموسيقى لديهم وفق ملامحهما الخاصة والمغايرة عن المشرق في بغداد ودمشق والقاهرة.


ابن عروس هو الشاعر المصري المؤسس ربما الذي لم يأخذ حقه من حيث الاهتمام البحثي والعلمي بوصفه ظاهرة تحول ومغايرة في مسار القصيدة العربية وإيجاد تيار جديد له تصوراته الخاصة عن الشعر وأدواره الاجتماعية وشكله، وربما لو استوعبناه جيدا وفق تصور الظاهرة هذه، لكنا أقدر على استيعاب ما يحدث باستمرار من ظواهر تغير وتحول كثيرة تتم على مر العصور ولاستوعبنا ما يتم في المراحل التاريخية الكبرى وربما كنا مثلا أقدر على استيعاب التحول الذي حدث مع قصيدة النثر في الحقبة الراهنة على سبيل التمثيل.لكن يبدو أن هناك أمرين أسهما في ألا تتحقق هذه النظرة الباحثة والعميقة لظاهرة ابن عروس، الأول خاص بتقاليد النقد العربي والدرس الأدبي المتكلسة والتي هي كذلك ابنة التيار الرسمي المتشكل في الأساس من الفصحى والراسخ حتى هذه اللحظة، ولنا أن نتخيل أن شعر العامية لا يدرس في كثير من الكليات المتخصصة في الأدب حتى هذه اللحظة، وهذا حاصل في كل كليات دار العلوم وكليات جامعة الأزهر التي تدرس اللغة العربية والأدب العربي في نوع من الانكفاء على المفاهيم الموروثة البالية ودون أدنى جهد في محاولة تجديد النظرة إلى الأدب ومفهومه أو جوهره أو حتى مراجعة تقاليده الشكلية مثل مسألة اللغة ومفهومها، في نوع من تقديس القديم لمجرد التقادم فقط. السبب الثاني نابع من اندحار وضعف الدرسات الاجتماعية والبينية والثقافية التي تولي أي ظاهرة أدبية أهميتها من البحث بصرف النظر عن سؤال القيمة أو بالأحرى بفصل سؤال القيمة عن سؤال الوعي والفهم والمعرفة، فكان الطبيعي لنكون مثل بقية الأمم أن ندرس كافة الظواهر الاجتماعية والثقافية المستجدة بفصل تام عن تصنيفات القيمة وافتراض أن هناك أدبا جيدا أو رسميا وآخر يعد رديئا أو أقل قيمة. فالتصنيف على هذا الأساس تصنيف أخلاقي وكهنوتي في الحقيقة لم يعد أحد في العالم الآن يوليه أهمية أو يجعله منطلقا أو عاملا مؤثرا على التوجهات البحثية التي من المفترض أنها في الأساس من أجل إنماء الوعي بالذات والآخر. لو فهمنا ظاهرة تحول ابن عروس إلى العامية المصرية من وقت مبكر أتصور أننا كنا سنستوعب الكثير عن سمات الشخصية المصرية وجوهرها، ولكن مع الأسف دراسات اللغة العربية بالتحديد يغلب العقل الكهنوتي الديني من ناحية والتبعية للتراث من ناحية أخرى، ولم يستوعبوا أن الكتابة بالعامية المصرية لها أبعادها الأشد عمقا والمرتبطة بالحال النفسية للإنسان المصري ولها علاقة بالتمرد على المركزية ولها علاقة كذلك بالارتداد إلى النبع الأساسي للشخصية المصرية بكل مكوناتها الأقدم من الفرعوني إلى القبطي إلى الأحدث في النجوع والتجمعات السكنية المتوارية في أكثر الأحيان في أعماق البنية الاجتماعية. أي أن الشعر في تلك اللحظة من لحظات التحول إلى العامية قرر أن يأخذ من اللوحة الكلية لتكوين الإنسان المصري عبر كل عصوره وعبر عمقه الثقافي والتاريخي، فالمسألة أكبر بكثير من مسألة لغة أو إطار شكلي، بل لها علاقة بكل مفردات البيئة في الأساس، وبخاصة حكايات المصريين الشعبية وتراثهم الخاص من الأساطير الفرعونية وحكايات الجان والعفاريت وكيف يمكن دمج ذلك في تيار الشعر العربي بامتداده القديم الوافد من الجزيرة العربية أو من الحواضر الأخرى مثل بغداد ودمشق بعد التعريب.


نطق ابن عروس لنصه الشعري بالعامية المصرية ليس مسألة لغة وحسب، بل الأمر يتعدى ذلك إلى أفكار المصريين وثقافتهم الخاصة في طرائق الكلام وكذلك الأمور المعيشية من طعام وملابس وعادات وتقاليد وكافة مكوناتهم الذهنية والفكرية، والأهم كما ذكرت هو ميراثهم الشعبي الذي يتجلى في نصوصه. وكذلك مشاعرهم ومشاغلهم، فنطق ابن عروس في شعره ومربعاته بحكمة المصريين الجمعية التي مثلها، وفي تقديري أن الشاعر المنتج للأفكار والحكمة يبدو مرتبطا عبر رباط خفي بالحكمة الجمعية لشعبه ومجتمعه، فهو يتعلم ويرى قبل رؤيته الخاصة عبر رؤية مجتمعه، عبر أمه وأبيه وأهله وتجاربه نفسها التي يكتسبها من واقعه وبيئته، وكذلك نطق بأحلامهم الخفية وما في مخيلتهم وطموحهم. وأفكارهم حول المرأة أو العشق والحب والمال وغيرها الكثير من الأسئلة والموضوعات التي تتوارد في نصوصه الشعرية السريعة في إيقاعها وهذه مسألة أخرى ترتبط كذلك بطبيعة العصر المملوكي وثقافته وواقع الحياة المصرية المكبلة بالسعي والعمل بخلاف مجتمعات أخرى قد يغلب عليها السمر والسهر وثقافة المجالس أو الخطابة الشعبية أو الدينية.


كثير من مربعات ابن عروس مازالت تدور على ألسنة المصريين والعامة وبخاصة في الصعيد في ظاهرة عجيبة، كثيرون ربما يرددون هذه المربعات وبحكمتها في مواقف معينة دون معرفة بأصلها أو بانتسابها له، في نوع آخر ومواز من حفظ الذاكرة الفنية بشكل جماعي ونوع من الربط المتبادل بين الفنان وبيئته التي تبدو حريصة على تخليد تراثه هي الأخرى كما هو يخلدها أو يحول تقاليدها وأفكارها ومشاعرها إلى فن، في صورة عجيبة ومدهشة من تبادل الأدوار الذي يستحق الدرس والبحث باستمرار. أنا شخصيا كنت أسمع في بلداننا كثيرا من مربعاته أو أجزاء منها دون نسبة إليه ولم أعرف أنها له إلا مؤخرا، وتحديدا أربع، منها مقولته على النساء (يتحزموا بالحنش حي.. ويتعصَّبوا بالعقارب) وكذلك (من حبنا حبناه.. وصار متاعنا متاعه.. ومن كرهنا كرهنا.. ويحرم علينا اجتماعه). وكذلك قوله (ولا حد خالي من الهم/ حتى قلوع المراكب). وقلوع المراكب هي جمع شراع، التي تتحرك بها المراكب الشراعية في النيل، فرغم ما قد تبدو عليه هذه الشراع من الحرية والحركة في النيل والرفرفة مع الهواء الذي يغمرها فهي الأخرى لا تخلو من الهم، في صورة تبلغ حدا بعيدا من الجمال عبر التشخيص الطريف المرتبط بالبيئة ومفرداتها وبخاصة النيل الذي يمر بغالبية المصريين، وربما الأشهر على الإطلاق بين مقولاته وكنت أسمع أبي يرددها دائما بالتأكيد نقلا عن أبيه وأهله وغيره من الأجداد (نصحتك ما انتصحت/ والطبع فيك غالب/ وديل الكلب لم ينعدل/ لو حطوا فيه قالب)، وكثير من الناس يروون بعضها بتحريفات طفيفة أو تعديلات قد تكون دالة على المبالغة أحيانا مثل أن يزيد في عدد القوالب بأن يقولوا ولو علقوا فيه مئة قالب) مع كسر واضح للوزن الذي لم يكن يشغلهم بقدر إرادتهم للمبالغة.


والحقيقة أنه برغم عناية الشاعر المصري مسعود شومان بمربعات ابن عروس وميراثه وهو أمر يشكر له، إلا أنه مازال بحاجة إلى المزيد من العناية المختلفة عبر بحث في الظاهرة نفسها ودرسها بشكل أوفى وفي ضوء مناهج ثقافية وعلم اجتماع الأدب ونظريات ما بعد الحداثة التي لا تفرق بين هامش ومركز أو أدب شعبي ورسمي.