السبت 1 يونيو 2024

قنصوة الغوري.. محارب من أجل الهوية

فن11-10-2020 | 21:57

ظلت مصر خاضعة للأيوبيين نحو ثمانين عاما، وقد اتخذ هؤلاء السلاطين الأيوبيون لأنفسهم حرسًا من الأرقاء (المماليك) الواردين من بلاد القوقاز وبلاد الشركس بوسط آسيا، فضلا عن شرق وشمال أوروبا.


أصبح لهؤلاء المماليك ذكر خالد فى تاريخ الشرق العربى عامة ومصر بوجه خاص، بعد أن استولوا على الحكم سنة 648هـ/1250م، وظلوا قابضين على زمام الحكم إلى بداية القرن 10هـ/16م.


اصطلح المؤرخون على تقسيم عهد سلاطين المماليك فى مصر والشام 648-923هـ/1250-1517م إلى قسمين: الأول عصر سلاطين المماليك البحرية، والذين ينسبون إلى السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وصاحب الفضل فى تكوين تلك الفرقة، وسبب تسميتهم بالفرقة البحرية يرجع إلى اختيار الصالح نجم الدين أيوب جزيرة الروضة فى بحر النيل مركزاً لهم؛ أما القسم الثانى فهو عصر المماليك الجراكسة، فقد أراد السلطان المنصور قلاوون أن يكوّن فرقة جديدة من المماليك يعتمد عليها ضد منافسيه من كبار المماليك، فأقبل على شراء المماليك الجراكسة الذين ينتمون إلى بلاد الكرج (وهى البلاد الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود)، وعُني بتربيتهم فى أبراج القلعة، مما جعل اسم " البرجية " يلتصق بهم فى التاريخ.


كان هؤلاء المماليك غالبا ينسبون إلى سادتهم الذين اشتروهم من التجار ( الأشرفية خليل نسبة إلى السلطان الأشرف خليل، وربما انتسب المملوك إلى تاجره الذى جلبه مثل يلبغا السالمى نسبة إلى تاجره الذى جلبه واسمه سالم، والمماليك العثمانية نسبة إلى الخواجة عثمان فخر الدين، وأحيانا ينسب المملوك إلى قيمته التى اُشتُري بها، إذا كانت مبلغا كبيراً يستحق التفاخر به، مما يدل على ما  فيه المملوك من صفات طبيعية ومواهب مثل قلاوون الألفى الذى اشتراه أستاذه (الأمير علاء الدين أقسنقر) بألف دينار لحُسنه وصورته.

قانصوة الغورى:


ساءت أحوال مصر فى أواخر عصر السلطان قايتباى، إذ ضاق الناس بكثرة الأعباء المالية الملقاة على عاتقهم، كما انتشر الطاعون انتشارًا خطيرًا عام 897هـ/1492م، وفتك بالناس فتكا ذريعًا، وفى وسط تلك الظروف القاسية لم يتورع المماليك فى الوقوع فى منازعات مع بعضهم البعض، وتعاقب السلاطين بسرعة فى تلك الفترة المضطربة من تاريخ سلطنة المماليك، ولعل الميتة الوحشية التى تعرض لها سلاطين المماليك الأواخر عند عزلهم من قتل وخنق هى التى جعلت قانصوة الغورى يتهرب من منصب السلطنة ويمتنع عن ذلك ويبكى، ولكنه قبل أخيرًا ذلك المنصب بعد أن اشترط عليهم عدم قتله إذا أرادوا خلعه.


ولكن لم يكن السلطان الأشرف قانصوة الغورى يلي السلطنة حتى أثبت أنه رجل قوى، صُلب العود، فأعاد الأمن والاستقرار إلى العاصمة، وملأ مناصب الدولة بمن يثق فيهم من كبار الأمراء، واتجه إلى علاج الأزمة المالية بعد أن أفلست خزانة الدولة، وعُني بحفر الترع وتحصين الإسكندرية ورشيد.


 لم تحدث قلاقل ذات خطورة فى الفترة الأولى من حكم الغورى، ولكن الخطر الكبير الذى ظهر فى ذلك العصر وهدد مصر فى كيانها والمورد الأول لثرواتها وغِناها أتى من ناحية الجنوب ( المدخل الجنوبى للبحر الأحمر)، والمعروف أن حركة المغول التوسعية أدت منذ القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) إلى ضياع أهمية طرق التجارة الرئيسية المألوفة بين الشرق والغرب، ولم يبق هناك طريق آمن بعيدًا عن المغول سوى طريق البحر الأحمر ومصر، وقد استغل سلاطين المماليك تلك الفرصة وفرضوا ضرائب مرتفعة خاصة على التوابل بثمن يفوق أربعين مرة ثمنها المستورد به من  بلدان الشرق الأقصى، وكان أن ضاق التجار الأوروبيون وبدأت الجهود لاكتشاف طريق آخر غير مصر والمماليك، وأثمرت الجهود عن كشف طريق رأس الرجاء الصالح، وسرعان ما اهتزت سلطنة المماليك لذلك الانقلاب المفاجئ فى طرق التجارة العالمية، إذ بدأ الإعراض عن شراء التوابل من السوق المصرية، مما حرم سلاطين المماليك من المورد الأول الذى استمدوا منه أسباب قوتهم وعظمتهم.

العثمانيون والمماليك:


شهد القرن الرابع عشرتضخم نفوذ قوة جديدة فى الشرق الأدنى وهى: قوة الأتراك العثمانيين الذين كانوا يعيشون فى بداية القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) فى إقليم خراسان، وتحت ضغط المغول اضطروا إلى التحرك غربا واستقروا بآسيا الصغرى، وأخذت الدولة العثمانية الناشئة تتوسع توسعًا سريعًا على حساب الدولة البيزنطية من ناحية، وعلى حساب القوى الإسلامية فى آسيا الصغرى من ناحية أخرى دون أن يعوق تقدمها عائق، حتى سقطت القسطنطينية فى قبضة السلطان محمد الفاتح 857هـ/ 1403م، وبذلك انتهت الدولة البيزنطية من صفحة التاريخ وحل سلاطين آل عثمان محل قياصرة الرومان فى مدينة الإمبراطور قسطنطين. 


وخلال تلك الأحداث التى صاحبت نمو الدولة العثمانية واتساعها، لم يظهر فى الأفق ما يدل على احتمال حدوث صدام بين العثمانيين والمماليك فى مصر والشام، غير أن الدولة العثمانية أخذت تولي وجهها صوب ما تبقى خارجًا عن السيادة العثمانية، وحاول بايزيد الثانى العثمانى أن يحرم سلطنة المماليك من انفرادها بحماية الحرمين، مما يضفى عليها مكانة خاصة لا تتمتع بها دولة إسلامية أخرى، فطالب السماح له ببضعة إصلاحات فى مكة، ولكن قايتباى رفض طلبه، وإزاء ذلك لم يسَعْ بايزيد الثانى سوى التحرش بسلطنة المماليك.


فمهما يكن من مصادمات بين المماليك والعثمانيين، فإن الحرب الفعلية بين الطرفين لم تأخذ شكلا جديًا خطيرًا إلا فى عصر السلطان سليم الأول العثمانى من ناحية، والسلطان قانصوة الغورى من ناحية أخرى.


وبدأ السلطان سليم الأول العثمانى بالاستيلاء على الموصل وغيرها من الجهات ذات الروابط القديمة بسلطنة مصر منذ أيام الأيوبيين، لم يستطع السلطان الغورى أن يظل ساكنًا إزاء حوادث الاستفزاز العثمانى من ناحية، والأخبار التى أخذت تتزايد إلى مسامعه عن قرب هجوم العثمانيين على أراضى الدولة المملوكية من ناحية أخرى، فأخذ الغورى يستعد للمعركة القادمة، فاستدعى العسكر من ديوان الجيش، وأعد آلات الحرب، وأسرع بتحصين قلعة قايتباى بالإسكندرية، وعقد مجلسًا حربيًا لبحث الأمر على أمرائه، واستقروا على ضرورة إرسال حملة كبيرة إلى حلب استعدادا للطوارئ، على أن يكون السلطان الغورى بنفسه على رأس تلك الحملة.


خرج الغورى على رأس جيشه إلى الشام بعد أن أناب عنه فى السلطنة طومان باى، وكان أن دارت المعركة بمرج دابق، فحارب الغورى بشجاعة بالغة، حتى لقد فكر السلطان سليم العثمانى فى التقهقر لإعادة تنظيم صفوفه، وفى تلك اللحظة الحرجة كشف خايربك – نائب حلب – الخائن، النقاب عن وجهه، فأشاع بين صفوف الجند أن السلطان الغورى يأمرهم بعدم التقدم لحين صدور أوامر أخرى، ثم لم يلبث خاير بك أن انسحب من الميدان بعد أن أشاع أن السلطان الغورى خرّ قتيلا، وهكذا تفرقت صفوف المماليك وانهارت مقاومتهم، وعبثا حاول الغورى، بعد فوات الأوان، أن يوقف تيار الفرار، فصاح فى جنده المدبرين (يا أغاوات الشجاعة صبر ساعة)، وكان لهذه الصدمة وقعها فى قلب الشيخ، فطلب الغورى الماء ليشرب، ثم أغمى عليه وسقط ميتا من فوق فرسه، وقيل إن السلطان سليم قطع رأس الغورى وأرسله إلى إسطنبول، فى حين دُفنت جثته فى حلب.