الأربعاء 22 مايو 2024

الهُوية المصرية عند قدماء المصريين

فن11-10-2020 | 22:05

كانت الهُوية المصرية عند المصريين القدماء ثابتة لم تتغير، فكان الإنسان المصري القديم ذا شخصية ثابتة في جميع مناحي الحياة في الفكر والاعتقاد والإيمان بالبعث والخلود، والعمل ومظاهر الحياة اليومية، فكان الباعث الديني المكون الرئيسي للهُوية المصرية في مصر القديمة ومصدر ثباتها، وتتشكل هذه الهُوية منذ مولده، ونجدها تظهر في اختيار أسماء الأبناء وتقرير مصائرهم وارتباط تلك الأسماء بالمعبودات والرموز الدينية، ومثالاً على ذلك تلك القصة الشهيرة في الأدب المصري القديم المسماة "الأمير المسحور"، عندما جاءت الحتحورات السبع - من الآلهة التي تقف مع الأم وترعاها في فترة الحمل والولادة - لتقرير مصير ابن الملك ومستقبله، وتنبأت له الحتحورات بالوفاة في المستقبل، وآمن الابن بهذه النبوءة، وطلب من أبيه الملك الرحيل طالما أنه محكوم عليه بالموت، وبالفعل سافر إلى سوريا، ويوضح ذلك ثبات الفكر الديني والهُوية المصرية من منطلق الباعث الديني.


وظل الاعتقاد الديني هو المسيطر على الهُوية المصرية عبر العصور المختلفة لمصر القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى نهاية العصر المتأخر، وهناك العديد من النماذج التي تدل على ذلك بدءًا من وجود الرموز الدينية على فَخّار الحضارات القديمة، واتخاذ تلك الرموز على طول الحضارة المصرية على جدران المعابد والمقابر.


تشكلت الهُوية المصرية القديمة باعتقاد المصري القديم بالبعث والخلود والعودة للحياة في العالم الآخر، فنجده يسعى جاهدًا في حياته على إتمام مقبرته وهو حي على الأرض، فنجد في أحد نصوص الأفراد من عصر الدولة القديمة يقول "لقد عملت على بناء مقبرة الملك ووالده وأكملت بناءها على أكمل وجه، وبنيتها في مكان بعيد فلم يرنيِ أحد ولم يسمعني أحد"، ودل ذلك على استمرار البناء وإكمال أعمال المقبرة، فعندما تُوُفي الملك استكمل ابنه الأعمال فيها من مناظر ونقوش.


ترتبط هذه الفكرة الدينية بتشكيل الهُوية المصرية حتى في زخرفته للمقابر بمناظر نصوص كتاب الموتى والمحاسبة والمحاكمة في العالم الآخر، وليس أدل على ذلك الثبات في تلك الهوية من وجود منظر المحاكمة والميزان في كل مقابر الأفراد والملوك على مر التاريخ المصري القديم، ويزيد عليها مناظر رحلة المتوفى إلى العالم الآخر وصعوده إلى السماء ووصوله إلى " الأيارو " وهى حقول الجنة، ويزين تلك المناظر بكتب الكهوف والبوابات وكتاب "الأمدوات" - ما هو موجود في العالم الآخر -  ليوضح الصعوبات التي تواجهه وصولا للجنة، وبالطبع كلها معتقدات ثابتة راسخة شكلت تلك الهوية المصرية، بل ويتبعها أيضا بمناظر الحياة اليومية من رعي، وصيد، وزراعة، وصناعة، وغيرها، وكلها صورة ثابتة في كل المقابر المصرية، بل أضاف عليها أيضا تقسيم مناظر انقسام اليوم في العالم الآخر من خلال مناظر ساعات الليل والنهار التي كان يقضيها المتوفى هناك.


فشكل المعتقد الديني العامل الرئيسي في تكوين هذه الهُوية المصرية القديمة، فعمل الإنسان المصري القديم على إرضاء المعبودات بشتى الطرق لكي تحفظ له حياته في العالم الآخر ويتيمّن بأسمائها وينسب نفسه إليها.

وعندما جاء أمنحوتب الرابع (إخناتون) وحاول الخروج عن هذه الهُوية الدينية الثابتة للشخصية المصرية وجد صعوبة شديدة في تغيير مسار هذه الهوية الثابتة وانتهت ديانته بموته.


وتنوعت محاور هذه الهُوية المصرية القديمة الثابتة في إطار المعتقدات الدينية في أشكال مختلفة، فقد كان محور العمل من المقدسات الواجبة في تلك الهوية وتظهر منذ الصغر، فنجد الصبي يرافق والده في حرفته وينقل والده خبراته إليه، وفى بعض الأحيان كان هذا المشهد وراثيًا، فلدينا نماذج كثيرة عن احتراف الأبناء مهن الآباء، فنجد من عصر الدولة الحديثة مثلا وظيفة " مغنيات المعبود" الخاصة بالمعبود آمون في المعابد والاحتفالات الدينية، وكان معظم أفراد العائلة الواحدة يعملون في نفس المهنة، مما يدل على توارثها داخل العائلة الواحدة، وينطبق ذلك على كل المهن الأخرى، وهذا النموذج موجود حتى الآن في عصرنا الحالي.


وكان العمل في خدمة الملك معتقدًا دينيًا راسخًا ثابتا في تشكيل الهُوية المصرية، إيمانًا من المصري القديم بأن من يخدم الملك في الحياة الدنيا سوف يرافقه في الآخرة، وهذا المعتقد يدحض تلك المقولة الشهيرة التي تداولها بعض العلماء بأن "بناء الأهرامات تم بالسُخرة"، فلقد ردت البرديات الأصلية في زمانها عند المصري القديم على هذه المقولة والتي تختص بتوثيق أحوال العمال في بناء الأهرامات لتثبت عكس ذلك، فلقد تناولت يوميات العمال وتسجيل نشاطهم اليومي ذلك الجانب الإنساني، فنجد أنه يكتب سبب غياب العامل أنه كان مريضا، أو غاب لمرض زوجته، فلقد عالجت فترة بناء الأهرامات مشكلة اقتصادية مهمة، ألا وهي البطالة التي كانت تحدث سنويًا إثر الفيضان، فكان العامل والفلاح المصري القديم يذهب بإرادته للعمل في بناء الأهرامات وخدمة الملك، وكان ذلك  لمعتقدين ثابتين في الهُوية المصرية القديمة، أولهما المعتقد الديني، كما أشرنا سابقاً، أنه بالانخراط في ذلك العمل سوف يرافق الملك في الآخرة، وثانيهما المعتقد الاقتصادي، لأن الملك سيوفر له قوت يومه ولأسرته جزاء العمل في بناء الهرم، وبذلك حل مشكلة البطالة في مواسم الفيضان.


محور آخر تشكلت فيه الهُوية المصرية في تكوين شخصية الموظف المصري داخل المجتمع في مصر القديمة، فكان الإلحاح على أن يكون الابن كاتباً من الرواسخ في هذه الهُوية، فالعديد من النصوص الأدبية المصرية القديمة نجدها تحث على أن يكون كاتبا من أجل أن تفتح له خزائن الملك وينعم بحياة رغدة، تصبح فيها يده ليّنة نَعِمة عن باقي الحرف الأخرى، وعرضت هذه البرديات المزايا المتعددة لكون الشخص كاتباً، بل وفى الكتاب المعروف "هجو المهن" في مصر القديمة نجده يوضح الفرق بين وظيفة الكاتب والجندي والمزايا العديدة التي يحصل عليها الكاتب.


وتنطبق هذه الحال في تكوين هُوية المصري القديم في باقي المهن والحرف الأخرى، فوُجدت مؤسسة في مصر القديمة كانت تسمى " بر – عنخ ""بيت الحياة "، وهى عبارة عن دار كانت تلحق بالمعابد المصرية القديمة، وتوازي في عصرنا الحالي مرحلة التعليم العالي، أي الجامعة، فكان يتعلم فيها المصري القديم جميع جوانب الحياة العلمية من طب، وفلك، وعلوم، وهندسة، وغيرها من العلوم التي شكلت تلك الهُوية المصرية الثابتة، ومثال ذلك في عصرنا الحالي، فجامعة عين شمس تتخذ هذا المسمى " بر – عنخ " في شعارها الرسمي للدلالة على مرحلة الجامعة والتعليم العالي وثبات الهوية المصرية منذ القدم، فنجد في شعارها داخل المسلة كتبًا بالخط الهيروغليفى " بر – عنخ –ايونو" أي "بيت الحياة عين شمس"، بمعنى جامعة عين شمس.


وكانت الهُوية المصرية ثابتة أيضا في تصوير قواعد الفن المصري القديم، فنجد عمارة المعابد والمقابر ثابتة على خطوة واحدة بدءًا من بناء الصرح وصولاً إلى قدس الأقداس، وهو أقدس مكان في المعبد الذى يوضع فيه تمثال المعبود، وثبات الشعائر الدينية اليومية التي تقدم لخدمة هذا التمثال، وتسجيل أخبار الحروب على جدران المعابد وتسجيل مناظر الأعمال اليومية من الرواسخ الأساسية في هُوية المصري القديم.


وجدنا هذه الهُوية المصرية القديمة في العمل بقواعد المراسم والبروتوكولات، وتجلى ذلك في مناظر أعمال الملك اليومية واستقبال رجال القصر والوفود والشعوب وكيف كانت الصفوف تشكل في المناظر بدقة بدءًا من الملك حتى كبار الموظفين وأفراد الشعب، هذه الهوية المصرية لم تقف عند حدود البلاد، بل خرجت إلى حدود مصر للخارج، فأثرت هذه الهُوية على مجريات الأمور في الشرق الأدنى القديم، وكانت الرهبة من الملك المصرى القديم تصل بمسامعها إلى البلاد المجاورة، فكانت الوفود تأتى إلى مصر لتقديم الجزية لنيل رضاء الملك المصرى القديم، وليس أدل على ذلك من هذا النص الذى يعود لعهد الملك تحتمس الثالث الذى يقول " المجيء في سلام بواسطة أهل كريت – اليونان – والشعوب التي في وسط البحر عندما سمعوا بانتصاراته على جميع البلدان وهم حاملون الهدايا من أجل أن ينعموا بنسيم الحياة وأن ينالوا رضاءه.