الأربعاء 1 مايو 2024

موقع فيس بوك وخطورة التدخلات السياسية

تحقيقات13-10-2020 | 21:18

أحدثت ثورة الاتصالات الحديثة بما صاحبها من انتشار هائل لمواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها موقع "فيس بوك Facebook"، تأثيرات خطيرة على كافة مناحي الحياة؛ وخاصة ما يتعلق منها بعملية التدخلات السياسية، وتأثير ذلك على مفهوم الأمن القومي الذي أصبح يواجه تحديات وتهديدات جديدة وخطيرة متجاوزا نطاق التهديدات التقليدية، إلى مجالات أخرى تشمل الاستقرار السياسي، والاقتصادي، والانسجام الاجتماعي، والتدخل السياسي والتأثير علي الناخبين، وهنا تكمن خطورة هذا الموقع الأزرق الذي أصبح وسيلة الاتصال المؤثرة في الأحداث اليومية، فقد أتاح الفرصة للجميع لنقل أفكاره ومناقشة قضاياه السياسية والاجتماعية، متجاوزين بذلك حدود الدولة إلى فضاءات جديدة لا رقيب لها، ولحقت بهم الحكومات والمنظمات غير الحكومية والجماعات الإرهابية في استخدام "الفيس بوك" وغيره من أجل إيصال أفكارهم وتحقيق أهدافهم.


 فالفيس بوك ثروة معلوماتية عن ملايين الأشخاص، لتقديمه معلومات قد تبدو غير مهمة، كرؤية صور المستخدمين وهوياتهم ومعلومات أساسية عنهم ورصد توجهاتهم السياسية والاجتماعية، وحتى المشكلات التي يعانون منها شخصيا ومجتمعيا، فالمستخدم للفيسبوك قد يرى أن المعلومات التي يكتبها على حسابه الشخصي "تافهة" بالنسبة لأن تكون مطمعا لأحد، ولكن الحقيقة أن أي معلومة يتم ذكرها مهما كانت بسيطة أو شخصية تساعد أجهزة المخابرات والجماعات الإرهابية المعادية في الهجوم على الدول، وتستخدمها في التجنيد، والتخطيط، وتنفيذ أعمالها الإجرامية، ونشر أفكار التطرف والعنف والترويج لها واستقطاب عناصر جديدة وإمكانية نشر توترات وصراعات بين مكونات المجتمع الواحد وإثارة قضايا خلافية وتضخيمها، فالحرب لم تعد بالأسلحة التقليدية، ولكن حروب الجيل الرابع والخامس تركز على ضرب الدول من الداخل عن طريق التدخل والتأثير بأكبر قدر ممكن على مواطنين هذه الدولة أو تلك وتحريكهم ضد السلطة دفاعا عن قضية أو أخرى مع عمليات التضخيم التي تتم عبر اللجان الإلكترونية على الفيسبوك. 


 لذا أضحى تماسك المجتمع ومنع إثارة النزاعات الداخلية بين فئاته ومكوناته والحفاظ على هويته الثقافية، من أبرز مقومات الأمن الوطني للدول وهو ما يطرح في أحد أبعاده العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي وأمن المجتمع ذاته، خاصة مع تزايد أعداد المستخدمين بصورة كبيرة فموقع الفيسبوك الذي أسسه مارك زوكربيرج مع عدد من زملائه في 4 فبراير 2004 للتواصل مع طلاب جامعة هارفرد، وصل عام 2020 عدد المستخدمين به إلى 2.5 مليار مستخدم شهريا. 


ويمكن رصد إمكانية التدخل والتأثير عبر فيسبوك بنشر كل أنواع الإثارة والاستفزاز والتحفيز على العنف والقلاقل، والتأثير في الرأي العام وتوجيهه في بعض الأحيان وخاصة عند فئات الشباب وصغار السن الذين لا يملكون حصانة كافية ضد التأثير، ما قد ينتج عنه اغترابهم عن المجتمع وتباعد المسافات إلى درجة العداء أو القطيعة.


 ولا ينفصل عما سبق إمكانية زرع الشقاق بين مكونات المجتمع، فقد مكن الفيس بوك بعض الجماعات القائمة على روابط طائفية أو جماعات معادية للدولة في تعميق الشقاق بين مكونات المجتمع الواحد والدولة الواحدة.


ومن أشهر التدخلات السياسية لموقع فيسبوك في مسألة استلاب الوعي والتأثير على الناخبين ربما كانت فضيحة تسريب معلومات مستخدمي الفيسبوك إلى شركة تحليل المعلومات "كامبردج أناليتيكا" التي تفجرت في السنوات الأخيرة، فقد اعترف مارك زوكربيرج بخرق بيانات المستخدمين وبيع معلومات ما بين 50 مليون إلى 87 مليون مستخدم دون معرفتهم أو موافقتهم لصالح الشركة البريطانية وتم استخدام تلك المعلومات لصالح جهات أمريكية وبريطانية معينة في الانتخابات، واعترفت مؤسسة فيسبوك بأنها أتاحت معلومات عن مشتركيها لشركات مثل أمازون وياهو. وبخلاف هذه القضية، هناك قضايا متعلقة بتدخل جهات سياسية وموقع فيسبوك والشركات العاملة من خلفه في الانتخابات الغربية ومحاولة تغيير نتائجها وكان أشهر هذه القضايا شبهة تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، والتأثير في قرار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فقد اتهم البريطانيون قراصنة روس باستعمال حسابات فيسبوك للتحكم في تغيير آراء المواطنين ليصوتوا لصالح "بريكست"، وهو ما جعل الدول الكبرى تتبادل الاتهامات مع روسيا، حيث اعترف مسؤولي فيسبوك في جلسة استماع أمام لجنة المخابرات بالإخفاق مع الحملات الأجنبية الرامية إلى التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بسبب البطء في التحرك لمواجهة هذه التدخلات، وهو ما جعل اللجنة تؤكد أن فيسبوك قد ارتكبت أخطاء خطيرة سمحت للتدخلات الخارجية ولم يتحركوا بسرعة وفاعلية ضد الهجمات الصاخبة في الانتخابات، وهو ما يخشي أن يتكرر في نوفمبر 2020، ما جعل مؤسسة فيسبوك تنشئ ما سمته "غرفة حرب" لتأمين الموقع ضد هذه التدخلات.


ولم يقتصر التدخل في الانتخابات على ما عرف بالأخبار الكاذبة أو المغلوطة في الانتخابات الأمريكية فقط، فهناك تدخلات رصدت على التدخلات الصينية في تايوان وتم رصد تدخلات في الانتخابات في الهند والبرازيل والفلبين أيضا، وأحيانا يكون الاستغلال السياسي لـ"فيسبوك" من جهات سياسية معارضة داخل الدول نفسها، وتؤكد جهات أكاديمية أن مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة الفيس بوك كان وراء ارتفاع شعبية التوجهات اليمينية، في دول مثل الولايات المتحدة وأوروبا مؤخرا.


نوع آخر من التدخلات السياسية عن طريق "فيسبوك" ما يعرف بتدخلات الجماعات الإرهابية وهي الأكثر خطراً على الأمن القومي للدول، حيث تعددت الأمثلة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق استراتيجيات الجماعات الإرهابية وتوفير التسهيلات الخاصة بالتواصل بين أعضاءها، فالجيل الحالي من مقاتلي التنظيمات الإرهابية مثل "القاعدة"، و"داعش"، وغيرها، جيل مختلف، فهو نتاج ثقافة الإنترنت والتفاعل الإلكتروني في التعبئة والتحريض والتثقيف والتدريب وبث الأفلام المصورة والأخبار التي تروج لأفعالهم وأفكارهم، وأحداث السنوات الأخيرة في سوريا وليبيا والعراق خير دليل على كيف أن دعاة متشددين تمكنوا من استقطاب أعداد بمئات الآلاف من جنسيات متعددة للانخراط في تنظيماتهم عبر الفيسبوك وغيره، إضافة لاستخدام هذه المواقع في جمع التبرعات، وتحويل الأموال.


هنا يمكن القول إن استخدام موقع الفيسبوك أصبح أمرا واقعا لا مفر منه، لذا وجب تنظيم العلاقة والتنبيه لخطورته والعمل على مواجهة أثر التدخلات السياسية عبره، ولن يكون ذلك بغير الوعي والتعمق في المعالجات، فالعديد من الدول تلجأ إلى وضع تشريعات وضوابط لمراقبة نشاط المستخدمين أو الحد منه، وهو ما يضر بسمعة الدولة في تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان من المؤسسات الدولية. فالعديد من الدول لجأت إلى تطبيقات المنع الكلي أو الجزئي منها الصين وإيران وتركيا وكوريا الشمالية والسعودية وروسيا.


إلا أن البديل والذي تستخدمه الحكومة الأمريكية وعدد من الدول، هو الدخول إلى هذا الموقع عبر مجموعات متخصصة أو وضع عدد من مفاتيح العمل في خدمة أفكارها هي والعمل على مواجهة الآراء المعاكسة والاشتباك الفكري معها، ومحاوله تفكيك خطابها والرد عليه بالحجج والبراهين، فقد يرتفع منسوب الهجمات أحيانا إلى شن حملات منظمة على مواضيع محددة تتضمن التعبير بالكتابة والشعر والصور والفيديوهات ورسوم الكاريكاتير، فيما يعرف بـ"سوق الأفكار" على الإنترنت ويُطلق عليها أيضا تسميات أخرى كــ"الجيش الإلكتروني"، و"الذباب الإلكتروني"، و"عمال المطابخ السوداء"، وغيرها من المسميات التي تدل على المجهود الضخم المبذول في محاولة الحد من تأثير التدخلات السياسية عبر استخدام موقع الفيس بوك.


    Dr.Randa
    Dr.Radwa