حكايات الأديب الراحل صبرى موسى جمعها في كتاب يضُم أكثر من ثلاثين حكاية بين الأٌقصوصة والقصة القصيرة – مأخوذة من واقع الحياة – جاعلاً منها حكاية للضحكوأخري للبكاء
أَبْكَتني الحكاية – عند قراءتها و ظلَّ تأثيرُها لِساعاتٍ.. أتأمَّلُها لياليَ و أياما مُتألِّماً لمصير الشاب المسكين
عَجيبٌ أمْرَ هذا الرجُل الذي يَحْيا بلا قلب، فلم يردعْهُ هروب زوجته عن مُحاصرة الإبن الذي استهان بالموت بديلاً لحصارِ أبيهِ الخانق
من يُمارِسون الإرهابَ الأسود ويقتلون الأبرياء و يَنْشرون الفَزَعَ والدمارَ والأحزانْ.،هُمُ أَشَدُّ خطراً من الميكروب الذي يضربُ العالَمَ الآَنْ
دفعتني أجواء "فاجعة كورونا" التي تضرب العالم الآن، لإعادة قراءة حكايات الأديب الراحل صبرى موسى...جمعها في كتاب يضُم أكثر من "ثلاثين حكاية" بين الأٌقصوصة والقصة القصيرة – مأخوذة من واقع الحياة – جاعلاً منها "حكاية للضحك...وأخري للبكاء" وصفها بأنها "...حكايات دُنيوية مُزدحمة بالحوادث و المُفاجآت..."،وهل هُناك مُفاجأة أشد فزعاً من مُفاجأة "كورونا" التي داهمت البشر وهم في حال الاسترخاء والاطمئنان – لتجعلهم ينتفضون من هول الكارثة التي يواجهونها – ولا أدلَّ علي ذلك من تحوُّل شاشات الفضائيات إلي مآتم لتلقِّي العزاء في الضحايا...و سُرادقات لتتبُع أعداد المصابين التي تتزايد بين الحينِ والحين.
وإذا كان "كورونا" الفيروس قد وفد إلينا دون سابق إنذار – فإن هناك "كورونا" آخر يُقيم بيننا – كشف عنه أديبُنا الكبير – وإن كان علي هيئة "آدميين" نراهم من حولِنا – وقد تجرَّدوا من سجايا الخير والرحمة...لا يردعْهم قانون...أو وازع من ضميرْ – فلا يهتمونَ بغير ذواتهم – تجدهم في حكايات يتداخل فيها الضحك مع البكاء – تستدر الدموع من المآقي...وتُفجِّر الضحكات من الأعماق – ولأن صبرى موسى يُدرِك أن المصريين يواجهون المحن "بالسخرية والرِثاء – معاً" مثلما يُغالبون الفرح بالدموع – فقد تمكَّن "بروح الأديب" من الكشف عن هؤلاء لنتعرَّف علي نماذج من "كورونا العتيد" المُقيم بيننا...ورُبما كانت هي مَنْ استدعت قدوم "كورونا – كوفيد" الوافد إلينا من بعيد...ولِأنَ ما يُثيره من أَلَم لا يسمح بتقديم "حكاية للضحك"...فما علينا سوي تقديم "حكاية يغْلِب عليها البكاء"...اخترناها من عشرات الحكايات.
أعْطيَ الكاتب للحكاية عنوان "...أبداً...أبداً...مش مُمكن..." فهو لا يُصدِّق أن هُناك من ينتمي إلي بنى الإنسان كصاحب الحكاية...ولأنه يُدرِك أن مثله كثيرون – فلم يشأ أن يُعطي له اسماً..ورُبما رأى أنه لا يستحق أيَّاً من الأسماء – فقد أطلق عليه...السيد فُلان الفُلانى – هو رجل من رجال التعليم – تَدرَّج من مُدرِس إلي مُفتِش ليصل إلي مرتبة ناظر لإحدى المدارس الثانوية بالصعيد. وصفه كاتبنا أنه رجُل مستقيم، يتمتع ببنية قوية، "...لا يُدخِّن...لا يجلس على مقهى... لا يسهر...من البيت للمدرسة والعكس...وإذا هفَّهُ الكيف...احتسي كوباً من الشاى الخفيف...".
...عندما بدأ يُفكِر في الزواج بعد ترقيته من مُدرِّس إلي مُفتِّش، "...احتار أمام مجموعة من الصور مصحوبة بالأسماء والصفات...وتوصيات من أمه و خالته وعمته وعمه – لا يعرف أيَّاً منهنَّ يختار – بعد جولة من الزيارات والمُشاهدات والفحص...وقع اختياره على عائلة ذات حسب ونسب وفدادين..." في حفل الخطوبة قدَّم للفتاة قطعة ثقيلة من الذهب، ليُعرِّف أهلها أنه ميسور الحال...كانت زيارته لخطيبته أيام الجُمع وفي المُناسبات – وعندما كان يتجاذب معها أطراف الحديث، كانت كلماته لا تتعدى أُذنيها...و تخطَّئ الطريق إلي قلبها.
...قبل انتقال العروس إلى بيت الزوجية – سألت أُمها..."هو مقفِل كدا ليه؟..." أجابتها بقولها – يا ابنتي كل العرسان في البداية هكذا، وعندما تكونين في بيته سوف يُصبِح كل شيء علي ما يُرام...انتقلت إلي بيته، وحملت منه – لكن شيئاً لم يُصبِح علي ما يُرام – علي الإطلاق...فقد تبيِّن لها أنه مثل "قفل بلا مُفتاح"..."ولأنه رجل جاد – فالسينما عنده هزل...والغناء ميوعة...والراديو بِدعة...لا يُفْتَح إلَّا لسماع الأخبار،وأحاديث المسئولين في وزارة التعليم...أمَّا الخروج فإنه فضيحة...ومعرفة الناس لا يأتي من ورائها خير...لهذا فإن النوافذ المُطلَّة علي الشارع لا يجوز فتحها – كُل ذلك عنده يدخُل في باب الحرام...".
...غضبت الزوجة ورجعت إلى بيت أهلها – مرات...ومرات– في كُل مرَّة كانوا يُعيدونها...ولا يهتم أحد منهم أن هذا الزواج لا يصلُح للاستمرار...ورغم ذلك أنجب الزوجان ولداً – كَبُرَ الولد – بينما لم يتغير شيء علي الإطلاق...هربت الزوجة من البيت...حتى أن أهلها لا يعرفون طريقها.
مرت السنوات، ولا عمل للسيد "فُلان الفُلاني" سوى البحث عن زوجته،ومتابعة أخبار العلاوات، والاهتمام بالولد الوحيد – كَبُرَ الولد...ودخل الثانوي...ولا شاغل لحضرته – سوى مُحاصرة الولد الوحيد "الولد نام...الولد قعد...الولد قام...الولد خرج...الولد يذاكر مع مين...آمراً إيَّاه أن – ذاكِر فقط – ...مفيش سنيما...بلاش روايات – الموسيقى رجِس من عمل الشيطان..."...في احدى المرات دخل الأب علي الابن قبل اقتراب الامتحان...وَجَدَه يقرأ في رواية... ويستمِع إلى موسيقى شهر زاد – ثارت ثائرته – حطَّم الراديو...مزَّق الرواية...أغلق الغرفة عليه بالمفتاح وهو يَصيح...مفيش خروج إلا يوم الامتحان – في الصباح فتح السيد "فُلان الفُلاني" غرفة الولد ليُقدِّم له الطعام...وجد النافذة مفتوحة...هرب منها الولد...جنَّ جنونه – ظلَّ يبحث عنه...دون جدوى – في موعد الامتحان ذهب إلى المدرسة...حَضَرَ كل التلاميذ، إلا ولده الوحيد– انتهى الامتحان ولم يأت الولد.
ذات يوم قرأ في الجورنال "خبراً مُصوَّراً" عن جثة لشابٍ مجهول، وُجِدَت علي شاطئ النهر...أعاد التحديق في الصورة، شعر بهبوط في القلب...بعد ساعة كان "السيد فُلان الفُلاني" أمام "ضابط الشرطة" يُخبره أنه يعتقد أن الغريق المجهول ولده،...ذهب مع الضابط للتعرُّف إليه – أطلَّ على وجه ولده كان مزموم الفم – كأنه يشكو ما تعرَّض له من ظُلم– لم ينفجِر "السيد فُلان الفُلاني" في البكاء، إنما ظلَّ وجهه التمثالي الجامد على صلابته "...في لحظة وجيزة خاطفة – خُيِّل إليه – أن عِبئاً ثقيلاً غامضاً كان يجثُم علي عقله ثم انزاح عنه...بدأ يرى كل شيء بوضوح...وجد نفسه يُدخِّن و يسهر ويُقابل الناس ويضحك في وجه زوجته،... يخرُج معها إلى السينما والمُتنزهات،...و يُلاعِب ولده...ويُداعِبه...يختارله أسطوانات الموسيقى والروايات...يتعرَّف إلى أصدقائه ويُمازِحهم كأنه واحد منهم – وفجأة عاد ليُدرِك حقيقته...كئيباً فظيعاً وحيداً...بعد أن فزِعت منه كُل تلك الصور المضيئة – وولَّت هاربة –"التفت إلى وجه ولده البارد – وجدهُ يُحدِّق فيه – كأنه يتهمه..."، ارتجف "السيد فُلان الفُلاني" وهو يسحب الغطاء فوق وجه الولد – كأنما ينفي عن نفسه الاتهام...أدار ظهره له...وهو ينتفِض – قائلاً – للضابط "..لا...أبداً...مش مُمكن...ده مُشْ ابني.. لا أعرفه...".
...أَبْكَتني الحكاية – عند قراءتها – قرأتُها في دقائق – ظلَّ تأثيرُها لِساعاتٍ... أتأمَّلُها لياليَ و اياما – مُتألِّماً لمصير "الشاب المسكين" الذي حاصَرهُ أبوهُ حَيَّاً،....وتجاهلَهُ مَيِّتاً......عَجيبٌ أمْرَ هذا الرجُل الذي يَحْيا بلا قلب...لم يردعْهُ هروب زوجته – وقد أسْلمَها للضياع – عن مُحاصرة الابن الذي استهان بالموت بديلاً لحصارِ أبيهِ الخانق...وقد تَحوَّل إلى كابوسٍ يقبِضُ علي أنفاسِه،... ويُسْلِمهُ للانتحار......أليسَ "هذا الأب" أشبه ما يكون "بكورونا" الوافدْ الذي يُحاصِرُنا الآن؟؟؟!!!
... وإذا كان "أديبُنا الراحل" جمع حكاياته المُتفرِّقة في كتابٍ صدر منْذُ سنواتٍ طوالْ – و قدَّم لنا صورة "الأب مُتَحجِّرْ الفِكر والسلوك"...فإننا نُشاهد الآن "آباء و أُمهات"نَزَعَ الجهلُ الرحمةَ من قلوبهم – حتي أنهم يستمرئونَ تعذيب أطفالهم...أو يتركونهم لموبقات الشوارع و الطُرُقاتْ. ومثلُهُم كذلك كُل من يسْلُك سلوكاً شائِناً ضارَّاً بالناس و الوطن في زمن الوباءْ – "أَليسَ من يُمارِسون "الإرهابَ الأسود" يقتلون الأبرياء و يَنْشرون الفَزَعَ والدمارَ والأحزانْ...هُمُ أَشَدُّ خطراً من الميكروب الذي يضربُ العالَمَ الآَنْ...!!!؟؟؟..."فأينَ "قسوة كورونا" من خِسةِ هؤلاء؟؟؟!!! وقد تجرَّدوا من إنسانيتهم – فباتوا وكأنهم ميكروبات تُقيمُ بيننا...فلا أمْصالَ تقي من دناءَتِهِمْ وشرورهِمْ...!!! خلَّصنا الله من كلِ أنواع "الكورونات"..."المُقيم العنيدْ" منها...قبل "الوافدِ الجديدْ".