الأربعاء 26 يونيو 2024

التفاعلية الرقمية موضوعًا فلسفيًّا

تحقيقات13-10-2020 | 21:50

لم يعد مصطلح التفاعلية (Interactive) غريبًا على آذاننا، فقد بتنا نتداوله في سياقات عدة: ثقافية واجتماعية واقتصادية، بل وعلمية كنتيجة لاحتشاد السموات بالأقمار الصناعية، لما لها من قدرة على ربط شبكات البيانات الرقمية ببعضها البعض، لتضعنا في مواجهة مجتمع واحد ومتفاعل يُطلق عليه عالم (القرية الواحدة)، ومن خلال شبكة رقمية موحدة ( الإنترنت) يمكننا أن نتواصل بواسطتها مع أي شخص آخر في أي مكان، مهما كانت جنسيته أو عقيدته أو شأنه الوظيفي، حتى ولو كان الرئيس (ترامب) على سبيل المثال، حيث يمكننا أن نطلع أولا بأول على قراراته وأفكاره بل وهواجسه الشخصية لتصبح موضوعًا للعالم كله عبر ردود أفعال متباينة ومتقاطعة في آن. 


إن المثال السابق، الذي يمكن أن يحققه أي شخص وهو مضجع على سريره بلا عناء يذكر، يعني أن العالم أصبح حاضرا بين يديه هنا والآن.  يبدو هذا مثيرا لقلق بعض المفكرين بشأن العلوم والمعارف والقيم  الإنسانية التي درج عليها البشر. عندما يصبح كل شيء متاحا في فضاء عام  تسوده ثقافات شعبوية لم تنضج بما يكفي، إذ إن انفتاحا معلوماتيا على هذا النحو، أتاح لأي شخص أن يدلي بدلوه في شأن ما قد يكون على قدر كبير من الأهمية والتعقيد السياسي أو العلمي أو غير ذلك، ليضع أوزاره على الفضاء العام. إنها ممارسات تهدد  تقاليد المعرفة (الإبستمولوجيا) التي دأبت على توثيق نفسها من خلال إجراءات منهجية منضبطة ومحسوبة بدقة، بما يعني أن العلم الذي نعتبره قدس أقداس العقل البشري، أصبح مهددا بحالة واسعة من الفوضى قد تصل إلى حد التضارب والتناقض، ولعل جائحة الكورونا التي مازلنا نعيش فصولها، بدت مجالا لاختبار فوضى الواقع الافتراضي على الشبكة العنكبوتية، عندما أخذتها في اتجاهات بعيدة عن العلم بعضها ديني وبعضها سياسي، بل وبعضها ملتبس بتراثات شعبية، فضلا عن سيل من الإشاعات أفضت إلى حالات من المبالغة أو الاستهانة في شأن موضوع على غاية من الخطورة والعلمية في آنٍ واحد.


 إن آثار التفاعلية لم تعد تقتصر على العلاقات البشرية فحسب، بل تنسحب إلى الأفكار والخبرات والمعارف والفنون والآداب وطرائق التعبير عنها، بل والعلوم التي ارتبطت دائما بالتخصص الدقيق لتصبح متاحة بين أيادي العامة، معرضة لمدخلات تهددها بالتفكك. غير أن هذه النظرة المتشائمة لمستقبل المعرفة تحت وطأة التفاعلية، لا تعبر عن واقعها بدقة، ففي سياق آخر، أتاح تطور وسائط الاتصال فرصة التفاعل بين المعارف والفنون والعلوم المختلفة. فعلى سبيل المثال: لم يعد من الممكن دراسة تاريخ التطور البشري من دون الجمع بين علوم عديدة طالما كانت متباعدة ومقتصرة على نفسها كعلم الجينات والأنثربولوجيا، بل وعلم الحفريات الملحق بالجيولوجيا بهدف التحقق من التطور والتفاعل الذي حدث لهياكل الكائنات المختلفة، ونوعية البيئات التي تعيش فيها، كما أن علم النفس الحديث يفتح الآن نوافذ عديدة على مثل هذه العلوم المختلفة حتى لم يعد من الممكن عزله عن دراسات البرمجة العصبية التي تحكم سلوك الإنسان منذ مولده، بل إنه ينفتح على علوم لم تكن معرّفة على نحو تجريبي منضبط، كعلم الروحانيات الذي طالما ارتبط بالميتافيزيقيا، واتسم بكثير من الموروثات الشعبية لكنه الآن يرفل في فضاء أقرب إلى العلمية، بعد تفاعله مع علوم الدماغ وآلية عمل الموصلات العصبية، بهدف التحكم فيها، وتعديل مسارات الطاقة الروحية للإنسان من خلال السيطرة على البرامج العصبية وموصلاتها، لتصبح الروحانيات مدخلًا من مداخل علم النفس. نتيجة لذلك أن اتسع أفق العلم الواحد، لمداخل عديدة ذات صلة ترابطية بالعلم نفسه من ذلك ممارسات الإنياجرام وبرامج التنمية البشرية، اللتان ترطبتان  بعلم النفس السلوكي.


ما سبق الإشارة إليه، قد يحقق نوعا من السيولة بين العلوم والمعارف المختلفة، وهو مؤشر مقلق بل ومخلخل لتاريخ العلم من وجهة نظر البعض، لكنه في الحقيقة يسعى لطرح أفق جديد لتعريف العلمية، قائم على آلية عابرة للمناهجية، تضمن قدرًا من التفاعل بين العلوم المختلفة عبر روابط لتبدو كمحاكاة لآلية عمل العقل البشري نفسه.


 فالبناء الفكري في الدماغ ينتج عبر ملايين من الإشارات الكهربية والموصلات الكيميائية الحاملة لها، تلك التي تتكامل عبر مصفوفة واحدة وكلية في نهاية الأمر. وإذا وضعنا في الاعتبار أن العقل الآلي (الحاسوب) هو نفسه محاكاة للعقل البشري، سنصل إلى تصور إيجابي متفائل، مفاده أن التفاعلية ليست مجرد قفزة في الفراغ على نحو نكوصي مهدد للعلمية، بقدر ما هي نقلة نوعية في تطور المعرفة البشرية. 


نحن على عتبات مستقبل للمعرفة متجاوز لمركزية التخصص العلمي التي أخذت بها الأكاديميات العلمية منذ نشأتها. وهو الأمر الذي أدى إلى عزلة العلوم عن بعضها البعض، وتفتيتها من داخلها، وانحصار مباحثها على الجزئي والتجريبي، مما أدى بالضرورة إلى بطء تطورها.


خلاصة الأمر، أن التفاعل بين العلوم المختلفة يضاعف فاعليتها بالضرورة. ألا يذكرنا هذا بالمقولة النظرية للجشتالطيين: " الكل أكبر من مجموع أجزائه" وهي على الرغم من انطلاقها في فضاء فلسفي نظري، إلا أنها ذات قابلية للتطبيق المعملي كشأن أي مقولة علمية. فنواة + نواة= 2 نواة. لكن دمج نواة بنواة أخرى قد ساوى قنبلة نووية.


بهذه الصورة التقريبية المبسطة يمكن تخيل مستقبل المعرفة في ظل التفاعلية ووسائطها الرقمية، كونها قفزة تطورية واسعة في تاريخ البشر، لكن هذا لا ينفي هواجس البشر وقلقهم تجاه مستقبل العالم، وتجاه ماضية أيضا، إذ إن السيولة المعرفية يمكنها أن تطال التاريخ أيضا وليس الحاضر فحسب لتكتسب بعدًا زمكانيا يدفعنا إلى مراجعة الكثير مما استقر في الماضي، وهنا يأتي سؤال: ومنذ متى لم يكن الإنسان قلقا بشأن المستقبل؟


يبدو لي أنه قلق غريزي ملازم للبرمجة النفسية للإنسان على نحو ما ترمز إليه أسطورة البطل الشمسي، ذلك الذي كانت تعتريه المخاوف عند غروب الشمس لئلا تعود من جديد، لكن هذا لم يمنعه من مواصلة رحلة العبور إليها في الصباح، في محاولة للإمساك بها، لتكون بين يديه ليل نهار. وجدير بالملاحظة أن الشمس كما نار برومثيوس كانت رمزا للمعرفة. إن شغف الإنسان بالمعرفة ملازم لغريزة بقاء النوع، فأن تعرف أكثر يعنى أنك أكثر أمنا. ومهما كان قلق الإنسان تجاه المجهول، فهو لا يمكنه مقاومة فضوله في إدراك كنه ذلك المجهول، وفض غموضه.


إن العقل البشري بطبيعته مؤهل للتفكير التفاعلي، وأن ما نعيشه الآن ليس سوى حقبة زمنية جديدة من حقب التاريخ البشري. الواقع أن السعي البشري إلى التفاعل أقدم من زمننا هذا بكثير، حتى يمكننا القول إن التفاعل سلوك بشري مرجعه غريزة البقاء كما أسلفنا. ربما منذ أعربت حواء عن رغبتها في أن يشاركها آدم أكل التفاحة التي فعّلت شهوتيهما للحياة. أو منذ أن قررت أنثى (الهوموسبيانس) أن تتقاسم طعامها مع أطفالها، ثم مع إناث أخريات يشاركنها نفس المشاعر العاطفية تجاه أطفالهن كطريقة أكثر ضمانا لحفظ النوع الإنساني، والتطلع إلى مستقبله.


وبفضل هذه الممارسات الغريزية أدرك البشر أهمية التفاعل لتطور الحياة البشرية عبر أنظمة تعاونية محدودة من المقايضة في الطعام والآمن والعمل، كانت بمثابة تمثيلات أولية لمفهوم الاجتماع الذي يبدو الآن شديد التأثر بممكنات التفاعل التكنولوجي على مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبحنا –كما يقال - نعيش عالم القرية الواحدة.


 وليس من قبيل المصادفة، أن يأتي هذا الانتشار الهائل لفيروس كوفيد19مرافقا لثورة الاتصالات، ليفعل شيئا فريدا لم نعرفه من قبل، وعلى درجة كبيرة من الأهمية على الرغم من رمزيته، إذ بات العالم كله متعلقا بحلم واحد، ممثلا في التوصل إلى علاج أو فاكسين يخلص البشرية من عدو واحد قادر على أن يطوف العالم كشبح هاملت. 


في ظني، أن رمزية الحلم البشري الواحد ذات دلالة بليغة، أفضت إلى التفكير لما سوف يكون عليه العالم بعد كورونا، وعلى نحو أكثر واقعية وإلحاحا من تنبؤات المحللين السياسيين بأن العالم سوف يتغير بعد أحداث برجي التجارة العالمي. بما يعني أن الواقع في ظل الثورة الرقمية، وضع شروطا جديدة لصورة الواقع وأساليب العيش فيه، شروط تدعونا للتفكير في قضايا ورؤى تنبثق من الفضاء الإنساني العام، وليس من استراتيجيات مصنوعة وممنهجة. شروط تسعى للتخلص من سياسات احتكار القرار لصالح فئة أو نخبة مهما كان شأنها. 


 قد يبدو هذا تحولا كبيرا في تاريخ العالم، ولكنه لا يبتعد في فلسفته كثيرا عن فرضية التشارك التي توصل إليها إنسان (الهوموسبيانس ) لخلق نظام قبليّ يضمن له البقاء في مواجة عاديات الطبيعة الشرسة. 


إن الرؤية الفلسفية لأمر الجائحة، تدعونا للتفكير على نحو يسلم بالواقع الذي فرضته تكنولوجيا الاتصال التي جعلت كل شيء يحدث هنا والآن. بحيث لم تشمل مجالات الاتصال فحسب، بل مجالات الاقتصاد والتعليم والعمل التي اكتسبت طبيعة دولية، كنتيجة لتداول المعرفة الرقمية، إنه واقع ينذر بأن زمن الأوبئة المحلية قد انتهي لنبدأ زمن الجوائح.


 كما أن استعراض التاريخ البشري للتفاعل –على نحو ما قدمنا – يدعونا لتأمل الواقع واستشراف المستقبل على نحو فلسفي، والذي سيكون قريبا جدا بفضل شمولية المعطيات الرقمية وقدرتها على التحكم في كل أداءات الحياة الإنسانية، وقد يتطلب ذلك النظر إلى هذا المستقبل بحذر، غير أن هذا الحذر لا ينبغي أن يعيقنا عن التفكير في القدرات الهائلة التي تتيحها إمكانات الرقمية للبشر، ومدى أثرها وفاعليتها في الوجود الإنساني، مع اعتبار حتمية وصول المستقبل إلينا بأسرع مما نظن. إذ إن طرائق التداول الرقمي تتنامي في سرعتها عبر ما يعرف بالأجيال الرقمية، التي لا تضاعف إمكانات الواقع فحسب، بل يمكنها أن تتفوق على إمكانات العقل البشري نفسه.


إن الرقمنة التي شملت العلوم والآداب والفنون والثقافة، فرضت واقعا جديدا متسما بتفاعلية فائقة القدرة، ومن ثم، فهي في حاجة إلى التفكير عبر مناهجية جديدة غير تلك التي درجنا عليها في الماضي القريب. مناهجية تضع في اعتبارها فاعليات التعدد والتجاور البشري، وما يستدعيه ذلك من هدم الحواجز ليس الجغرافية فحسب، بل والعرقية والدينية والثقافية.. إلخ.


 يعني هذا أن الرقمية لم تعد مجرد مجموعة من الأدوات والوسائط التقنية، بل هي أسلوب حياة، وطريقة لضمان تحقق الوجود البشري، في سياق واقع أكثر سيولة، وحراك أكثر شعبوية، حتى لتبدو بعض الأسئلة الوجودية القديمة من قبيل سؤال الهوية، في موضع اختبار صعب، يدعونا إلى معاودة النظر فيها.


وظني أن هذا الأمر سيفرض نفسه على المثقفين والأكاديميين والسياسيين مهما طال الوقت أو قصر،غير أنه سيكون محفزا لتغيرات فادحة في خريطة المعرفة العالمية، حيث يمكنها أن تتحرر من احتكارية دول أو مؤسسات بعينها أو شخصيات كبيرة الشأن. ومن ثم سيعطى هذا الفرصة للجميع على نحو متساوٍ أن يسهموا في تشكيل معارف المستقبل؛ لأننا في الوقاع نبدأ تاريخا معرفيا جديدا مفارقا لتاريخ الكتابة، تماما كما كانت الكتابة بداية لتاريخ معرفي مفارق لتاريخ  الشفاهة.