السبت 21 سبتمبر 2024

في ظل الإمبريالية العالمية.. جدل الأصولية والحداثة حول علاقة الأدب العربي بالتكنولوجيا والتحول الرقمي

فن13-10-2020 | 22:35

شكَّل مستقبل السرد هاجسًا كبيرًا لدى المشاركين في مؤتمر الأدباء العرب التاسع في تونس خلال الفترة من 18 إلى 25 مارس 1973، والذي شاركت فيه وفود خمسة عشر بلدًا عربيًا، انطلقت تلك الهواجس من اضطلاع الأدباء العرب بمسؤوليتهم التاريخية تجاه بلدانهم في فترة زمنية عصيبة تميزت باستبسال الشعوب المقهورة وصمودها في مواجهة الإمبريالية العالمية بما تحمل من تطورات عميقة الأثر بعيدة المدى، والتي فرضت مسؤولية خطيرة على الأمة العربية جميعًا وعلى الأدب العربي بصفة خاصة، وهو الصوت المعبّر عن وجدانها والعامل الخلّاق الذي يسهم في إثراء ثقافتها كما يُشارك في صنع الحضارة الإنسانية. 


ومن المُسلّم به أن عالمنا العربي مر بأزمة مصيرية حادة، لعله لم يكن في أي وقت مضى أشد شعورًا بها منه في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تألبت عليه القوى الاستعمارية متحالفة مع إسرائيل عام 1956، وذلك لعرقلة ثورة الأمة العربية التي تحررت وكادت أن تتحرر بقية شعوبها من ربقة الحكم الأجنبي، كان التحدي الذي أعلنته القوات الثلاث المعادية رهانها بوقوع العرب من جديد في قبضتها لعجزهم عن تسيير المؤسسات الاقتصادية الكبرى الحيوية التي أقامها الاستعمار في بلادهم، ذلك العجز الراجع لقلة معارفهم العلمية بها، وضيق خبراتهم الفنية بأجهزتها، أو بعبارة أخرى لتأخرهم الكبير - الذي كان مقدرًا لهم من الاستعمار - في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وكان الرهان قائمًا على النموذج الأبرز وهو القدرة على تسيير الملاحة بقنال السويس. 


بالنظر إلى العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، على صعيد الإبداع الأدبي، نجد العديد من التحديات العظيمة التي واجهت الأديب وعرقلت ولوجه إلى عالم الرواية الرقمية أو الدخول إلى عالم التحول التكنولوجي إبداعيًا مثل "التراث، والمحيط السياسي، والاجتماعي للأدب، والإيمان بالقديم المتوارث، والخوف من مخاطر التجريب والتجديد". تُضاف إلى هذه القضايا وربما تأتي في مقدمتها، الإيمان الُمطلق بأن أكبر عمل يمكن أن يُثري تجربة الأديب العربي، ويفتح أمامه آفاقًا لا حدود لها في المستقبل هو تحقيق الوحدة العربية. 


عوّل أدباء ونُقاد "مؤتمر تونس" على عددٍ من القضايا، كان أهمها إفساح المجال أمام المبدعين من خلال توفير الحرية المطلقة لهم، معتبرين كل قيد على حرية الأديب مهما كان شكله، سواء على القول أو الرأي، أو الكتابة، أو التنقّل هو هدم للقيم التي تقوم على أساسها المطالب بإنتاج مساير لعصر ثورة التكنولوجيا والتحول الرقمي، وإذا كانت المطالبة بالحرية قضية قديمة فإنها في القرن العشرين – وما بعده - قضية مُلحّة وعاجلة وأكيدة، كما أنّ تفاعل الأديب مع قضايا عصره ومجتمعه – أدبيًا - في حاجة إلى مشاركة جميع العناصر الاجتماعية في الوطن العربي، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا في جو من التفاعل المعني بالديمقراطية. 


بالعودة قليلًا إلى ما قبل مؤتمر "تونس 1973" نجد ثَمَّةَ انقسام في الوطن العربي حول قبول التقنية التكنولوجية.

 كان هناك فريقان متناحران، الأول طالب بها لمواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في العالم الغربي، مؤكدًا على الحاجة إلى تعميم تجربة مثل تجربة الرياضيات المعاصرة – حينها - التي بدأت معظم بلداننا العربية بتطبيقها في بعض مناهجها التعليمية، وإلا ستبقى الرياضيات المعاصرة ترفًا فكريًا أو فوقيًا في مجتمع مازال يقتل المرأة غسلًا للعار. كذلك سيكون عقيمًا أو ضربًا من البطر الفكري الحديث عن آثر التكنولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين على الأدب العربي في الوقت الذي مازال أدبنا يشهد صراعات بين الشعر العمودي والشعر الحر، وما زال فقيرًا في عطاءاته النوعية التي باتت تُعتبر اليوم كلاسيكية كالرواية والمسرحية. بيد أنَّ نوافذنا الإبداعية مازالت مغلقة أو مواربة أمام المؤلفات العلمية العالمية الحديثة التي أخذت تتضاعف كل خمسة عشر عاما كما تفيد الإحصاءات، وباتت مواكبتها أمرًا يكاد يكون مستحيلا. 


الفريق الآخر، رفض التكنولوجيا ووصفها بأنها غير إنسانية، أو رفضها بدعوى أنها مستوردة؛ واعتمد أصحاب هذا التيار على هبوط الأخلاق في المجتمعات المتحضرة ويستشهدون أيضًا بضياع الشباب والأدباء والفنانين في هذه المجتمعات. كما يستشهدون بمقالات وأبحاث تُندّد بما وصلت إليه الحضارة الغربية من عنف ولا أخلاقية؛ كما يرون أن التقنية ستذهب بالإيمان وتفتح المجال أمام سيادة العقل وحده – وهذه كارثة – ناهيك عن التخوّف من أن يصبح الإنسان آلة كما في البلدان المتقدمة، حيث تحوّل الإنسان إلى شقي أكثر منه سعيدًا، إضافة إلى تخلّى الشعوب عن خصائصها القومية، وتوجهها نحو التفكير العالمي الذي يهم الإنسان أينما كان، إضافة إلى التخوف من أن يطغى العلم على الأدب وأن تطغى المادة على الروح. وفي الحقيقة الخطر الداهم والأكثر هولًا على الأدب ومريديه لا يتمثل في التكنولوجيا وأدواتها، تلك التي رأينا محاسنها ومساوئها بل يتمثل في التكنوقراطيين، وهم الذين يقل في اعتبارهم الالتفات إلى العامل البشري إزاء التطبيقات العلمية والتكنولوجية في اقتصاديات المجتمع، وما يتصل به من شؤون الحياة، إن هؤلاء التكنوقراطيين زادوا عالمنا وأدبنا المتأثر بتوجيههم وسلطتهم اضطرابًا نظرًا لتعظيمهم للآلة وعبادتهم للمال.


تصوّر النقاد والأدباء التأثير المستقبلي للتكنولوجيا على خلفية النزعة التي بزغت على صعيد الفنون التكنولوجية والتي اتخذت من التكنولوجيا والفن شعارًا لها، حيث سعت التكنولوجيا إلى تجاوز العمل اليدوي واقتحام ميادين جديدة ليس لها تاريخ استيتيكي. إنها محاولة للانطلاق بالفن من أطره الاستاتيكية إلى صيغ وأشكال أكثر ديناميكية وحركة، فإذا كان الفنان قبل اليوم يؤكد على العناصر التشكيلية وحدها، فإنه اليوم يطمح في ضوء الإمكانيات التكنولوجية العصرية في أن يستثمر عناصر أخرى، كالفراغ، والزمن، والحركة، وسيلجأ إلى استعمال مواد ووسائل تعبيرية جديدة يستعيرها من ترسانة العلم، كالضوء، والمادة، والأشعة، والذرة، والفضاء، وكل ما تتمخض عنه المبتكرات العلمية والصناعة الحديثة، وسيقتضي ذلك من الفنان أن يدخل المختبر والمصنع جنبًا إلى جنب مع العالم والمهندس والتكنولوجي، ويقترح القيام بالتجارب المختبرية أو يُشارك في الأبحاث العلمية، وهو ما يؤكد أن الثورة العلمية والتكنولوجية التي نحياها الآن لم تكن نقمة على الأدب، ولا هو بدوره نقمة عليها، وإنما مهد لها في الحقيقة الفكر والخيال الأدبي، وهي علاقة تبادلية يدلل عليها كتاب "موازين الشعر العربي باستعمال الأرقام الثنائية"، للدكتور محمد طارق الكاتب، وهو محاولة لاستخدام الألة الإلكترونية الحاسبة ونظامها الرياضي لمعرفة أوزان الشعر العربي. 


أعتقد أن المطالبة بضرورة التكوين العلمي للأديب وخضوعه للعقل الرياضي والتي عمد إليها "مؤتمر تونس 1973" هي مطالبة عادلة، على اعتباره الذي سيصف لنا المصنع والمخبز والطائرات والحافلات والدبابات والغواصات وسفن الفضاء وخارطة القمر في روايات وقصص ومسرحيات وأشعار، فالثقافة العلمية للأديب أصبح لا غنى عنها لأنها من مستلزمات هذا العهد الجديد وهو عهد الثورة التكنولوجية. 


بالنظر إلى المرجعيات والأسباب التي دفعت الأديب العربي لإقامة علاقة مع التكنولوجيا نجد أن الأمة العربية شهدت أحداثًا خطيرة من ثورات سياسية ضد الإمبريالية ونفوذ الاستعمار الأجنبي، خلال العقدين السابقين على انعقاد مؤتمر تونس 1973، كما مرت هذه الأمة بتجارب فاشلة للوحدة الشاملة، وهزائم متكررة على يد الصهاينة بالإضافة إلى محاولات داخلية للخروج من كابوس التخلف المتمثل في الاقطاع والأمية. وكل هذه الأحداث جعلت عددًا من المفكرين العرب وبعض الملاحظين الأجانب يحكمون على أن سبب فشلنا في الداخل والخارج هو التخلف التقني وشيوع الخرافات والتقاليد البالية بيننا وضعف الإيمان بالعلم. 


لذا طالب الأديب العربي بالإنتاج المساير لعصر ثورة التكنولوجيا والتي سينتج عنها فيما بعد ما يُعرف بالتحول الرقمي، حيث يرى الأديب العربي أن التقدم العلمي والتكنولوجي يأتي في مقدمة الشروط التي تقتضيها التحولات الاجتماعية في عصره، فهو يرى أن التكنولوجيا باتت لها الصدارة على الأيديولوجية، ويرى أيضًا أن التكنولوجيا تلعب دورًا خطيرًا في مصائر المجتمعات المعاصرة بل وفي مصير البشرية جمعاء، حيث كان للتخلف التكنولوجي دور كبير في نكسة يونيو 1976، لا سيما أننا نعيش في عصر لا يرحم التلكؤ والتخلف؛ والهدف من الترحيب بالتقدم العلمي هو الدعوة لإنقاذ الأمة من براثن التخلف والعمل على أن لا يكون الوطن العربي حقل تجارب علمية للغرب، ولكن مصنع إنتاج حضاري بأيدي أبنائه، إضافة إلى أن عصر العلم والتكنولوجيا الذي نحياه له الفضل في لحم شطري الأدب الشفاهي والمدون. 


وعلى الجانب الآخر، وبالنظر إلى عصر النهضة في أوروبا نجده أنتج رجالا أمثال ليوناردو دافنشي، وروجي باكون، وتأثر بهذه النهضة الطهطاوي، وحسن العطار، وغيرهما ممن أخذوا بالعلم الأوروبي ودعوا إلى تقليد الأوروبيين في اختراعاتهم للخروج من الظلام الذي كانت أمتهم تتخبط فيه، وقد استجاب لهم بعض المسؤولين مثل محمد علي في مصر والأمير عبدالقادر في الجزائر وخير الدين باشا في تونس، ولكن هؤلاء الدعاة لم يكونوا أدباء بالمعنى التقليدي، بل كانوا أساسًا رجال دين ثم تحولوا إلى دعاة تجديد؛ ورغم هذا لم يحتضن بعض الأدباء العرب قضايا أمتهم والتعبير عن آمالها في التقدم العلمي سوى في الفترة الواقعة بين الحربين العالمية الأولى والثانية، ولكن حتى هذه الفترة كان الأدباء يمثلون طبقة إقطاعية برجوازية أكثر مما كانوا يعكسون آمال الجماهير، ذلك أن الاستعمار التقليدي لم يسمح بالثقافة إلا لعدد محظوظ من العائلات الكبرى، ومن بين الأسباب التي ذُكرت في "مؤتمر تونس" على اعتبارها الدافع للأديب العربي لإقامة علاقة مع التكنولوجيا - أيضًا - الحرب على الشعوذة والخرافات، والقدرية والتواكل وغيرها من مظاهر التخلف، فقد تمكنت هذه العناصر الهدّامة من الأمة في القرون السابقة وأصبح الفرد العربي خلالها لا يؤمن بنفسه ولكن بقوى خارقة وغيبيات وميتافيزيقيات، وزاد الاستعمار الحديث هذه العناصر تمكينًا لأنها تساعد على الاستغلال المطلق لخيرات الشعب. 


وختامًا، لنا أن نتساءل، هل التكنولوجيا والرقمنة تُبشران بهذا الكم الهائل من التقدم للإنسانية، الإجابة أن الأمر يتوقف على الإنسان ذاته، وعلى قدرته في توظيف هذه التكنولوحيا توظيفًا يخدم مصالحه، ولا يهدد بفنائه، وفناء ما أورثه لنا أسلافنا من حضارة وتاريخ مادي نُقش على جدران المعابد وشُيد شامخًا في مواجهة الزمان، قبل أن نعرف التكنولوجيا والواقع الرقمي بآلاف السنين.