تمتد علاقتي مع الراحل محمد حسنين هيكل فترة زمنية تزيد على نصف قرن
(54 سنة)، حيث التقيت به لأول مرة في القاهرة أواخر العام 1962، وكنت في زيارة
للقاهرة لدراسة التحول الاشتراكي في مصر، بعد صدور القرارات الاشتراكية وميثاق
العمل الوطني، قادماً من سوريا قبلها، بعد دراسة القرارات الاشتراكية التي صدرت
فيها أثناء وحدة مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة، تمهيداً لِما كنتُ أنوي
القيام به في الاتجاه نفسه في العراق، وهو ما تم في ما بعد في تموز العام 1964.
وكان الانسجام بيننا كبيراً منذ ذلك اللقاء، ومن خلاله تعرفت على
المرحوم عزيز صدقي وزير الصناعة، وقائد عملية تصنيع مصر حينئذ، والذي أذهلني عند
زيارتي له لأول مرة في مكتبه، أنه وبرغم عظم مسؤولياته، لم تكن على مكتبه حتى ورقة
واحدة! ومن خلال هيكل أيضاً استطعت الاطلاع على كل ما كنت أريده مثل مركز الأبحاث
الاقتصادية في رئاسة الجمهورية الذي كانت دراساته وراء كثير من تلك التحولات
الاشتراكية في مصر، وبخاصة في مجال التجارة الخارجية والداخلية ومشاركة العمال في
الإدارة والأرباح.
ومن خلال المرحوم هيكل، مُهِّدت لي ولأول مرة مقابلة الرئيس جمال عبد
الناصر، وكان لي نقاش معه حول تلك التحولات وما جاء في الميثاق حول مصطلح
«الاشتراكية العلمية» وعما إذا كان يعني به المفهوم الماركسي للاشتراكية، حيث نفى
ذلك، وقام بعدها وفي احتفال «يوم العلم» في مصر بتوضيح ما يقصده بالاشتراكية
العلمية، وكان أرسل لي قبل ذلك خبراً مع أديب الجادر بأنه سيوضح ذلك في خطابه في
«يوم العلم».
واستمرت علاقتي الحميمة مع هيكل من دون انقطاع، وزادت وثوقاً، إلى
الحد الذي كنت قد علمتُ منه، وهو سرّ أُعلن عنه الآن ولأول مرة، عن «حرب أكتوبر
1973»، وقبل وقوعها، حيث قمتُ عندها، بالاشتراك في التمهيد لمساهمة الجيش العراقي
في المعركة (يُضاف إلى مساهمة سرب طائراته «الهوكر هنتر» البريطانية طويلة المدى
والذي كان موجوداً في القاهرة، والذي لعب دوراً منذ اليوم الأول من «حرب أكتوبر»
في الغارات الجوية على إسرائيل في سيناء وفقد معظم طائراته فيها). وحيث أن قسماً
كبيراً منه كان مشغولاً في الحرب مع الأكراد في العراق، قمت بالاتصال بالمرحوم
الملا مصطفى البرزاني، من خلال وزيره حينئذ المرحوم محمد محمود عبد الرحمن (سامي)،
ومن دون علم الحكومة العراقية، لإعلان هدنة مع الجيش العراقي في حال قيام الحرب مع
إسرائيل، ولتمكين العراق من المشاركة بجيشه في تلك الحرب، وهو ما تم فعلاً. حيث
أرسل العراق قسماً من جيشه إلى سوريا، حين كانت دمشق مهددة بالسقوط، واضطرت
الدبابات العراقية في طريقها إلى دمشق أن تسير على الجنازير لعدم توفر ناقلات
دبابات لديها، وما أن وصلت القطعات العراقية دمشق حتى دخلت مباشرة في المعركة ومن
دون استراحة كما كانت تقضي به التقاليد العسكرية.
وبرغم أننا كنا ننتهي في معظم لقاءاتنا، وبعد تبادل المعلومات ووجهات
النظر، إلى الاقتناع عموماً والاتفاق حول وجهات النظر، إلا أن هذه اللقاءات لم تكن
تخلو أحياناً من خلافات في وجهة نظر كل منا. وكان منها موضوع موقفه من القيادات
الناصرية في أحداث أيار 1971، حيث «كان الحب مفقودا» بينه وبين تلك القيادات،
ومسألة قيام وتشكيل حزب ناصري في مصر. فلم أكن راضياً عن موقفه من القضية الأولى،
وكان ذلك موضع عتاب استمر بيننا برغم أنه لم يؤثر على علاقتنا الودية، والذي خفف
منه تغير موقفه من السادات و «خريف الغضب»، كما أنه ظل يحتفظ، استثناءً، بتواصل
وبعلاقة مودة واحترام مع الناصري محمد فايق.
أما حول الحزب الناصري، وبرغم أننا كنا مختلفين ابتداء، لكني أسارع
بالقول إنه كان على حق في ما كان يراه، وكان أكثر معرفة وعمقاً بواقع «التيار
الناصري» في مصر منّي. فقد كان يرى أن الظروف الموضوعية للتيار لن تُمكِّن من قيام
حزب ناصري يستطيع أن يمثل ويستوعب ويحافظ على إنجازات عبد الناصر وأن يستكمل
المسيرة على ضوئها، وأن الحزب سيكون أصغر من التيار الناصري، وأن كثيرين يمكن أن
يكونوا في التيار ولكنهم لا يصلحون للعمل الحزبي، وأن الحزب لن يعكس حجم التيار
الناصري الواسع في مصر. وكانت الأيام والأحداث التالية وما حدث للحزب الناصري وما
آل إليه شاهداً على صواب نظرته.
لقد تعلمتُ واستفدتُ من الأخ هيكل الكثير. لقد كان النافذة التي يطل
العرب من خلالها سياسياً على العالم، وكانت تلك الإطلالة مما ساعد البعض منا، وأنا
منهم، على العيش في عصرنا ومحاولة اللحاق به. كان وجود هيكل في القاهرة أحد
الدوافع المهمة لزيارتي إياها، وأشعر بغيابه. والمثل يقول: «مَن خَلَّف ما مات»،
وقد خَلَّف لنا هيكل الكثير من الفكر السياسي بعد مماته، والذي سيبقيه حيّاً معنا.