الخميس 27 يونيو 2024

هيكل.. صاحب الظل الحاضر

فن14-10-2020 | 15:12

تعرّفت على محمد حسنين هيكل في بداية الستينيات، عندما رافق الرئيس جمال عبد الناصر في زيارته الهند، بهدف التنسيق وترسيخ سياسة عدم الانحياز الحميمة مع جواهر لال نهرو. آنذاك، كنت سفيراً لجامعة الدول العربية في الهند. أدركت، آنذاك، أن هيكل هو الصديق الأول والمستشار الأقرب للرئيس عبد الناصر.

بعد أربع سنوات، انتقلت من الهند إلى الأمانة العامة للجامعة في القاهرة، حيث كلفني الأمين العام للجامعة، عبد الخالق حسونة، بإنشاء إدارة للبحوث، تتولى صياغة قراءاتٍ موحدة للقضايا المطروحة، بهدف توحيد الرؤية. بعد حوالى أسبوعين، طلبت من هيكل ترك الجامعة، للالتحاق بفريق صحيفة الأهرام. وهكذا كان. ​

بقيت في "الأهرام" نيفاً وخمس سنوات. كانت "الأهرام"، في ذلك الوقت، جريدة واسعة الانتشار، أعطاها هيكل مكانة بمقالاته، خصوصاً التي تناولت تحليل أسباب هزيمة 1967، والتي تميزت بالدقة في التحليل ونقد الذات. قبيل تلك الحرب بأشهر، كنت أكتب عن تجربتي في الهند، ما زاد من توثيق الصداقة مع هيكل الذي كان يقدر العلاقة مع الهند، فصارت العلاقة حميمية أكثر فأكثر، إلى حدّ أنه عرفني على عدد كبير من ضيوفه الأجانب، مثل جان بول سارتر، وحتى أنه كان يصطحبني في زياراته. فمرة كنت مع أحمد الشقيري، وإذ بسائق الأستاذ هيكل يأتي ليبلغني بضرورة الاستعداد لسفرة مع هيكل، من غير إبلاغي الوجهة. ذهبت معه، وفي السيارة سألته إلى أين؟ قال ذاهبون إلى مطار ألماظة العسكري، من دون أن يفصح شيئاً عن وجهة السفر. صعدنا إلى الطائرة، وإذ بعبد الحكيم عامر وأنور السادات والملك سعود، الذي كان في القاهرة بعد تركه الحكم، وعدد من الوزراء. أقلعت الطائرة، وبعد ساعات حطت في مطار صنعاء. قصدنا مبنى الصاعقة الذي كان مقراً للقوات المصرية. لكنه طلب من مسؤول فتح بيت السفير المصري، ونزلنا فيه حوالى أربعة أيام. وكانت الزيارة للاتصال بزعماء القبائل. ​

كان هيكل يحرص على أن تكون "الأهرام" أكثر من صحيفة، وأقرب إلى مركز أبحاث خصص له الطابق السادس. كان يعتبرها أو يريدها أن تكون بمثابة موجهٍ، كرّس لها كل التزامه واهتمامه. وقد ثبت ذلك من قصة تعيينه وزير إعلام، وكنت، آنذاك، معه في منزله في برقاش، عندما اتصل الرئيس عبد الناصر به، وأبلغه بالتعيين. فحاول إقناع الرئيس بإعفائه من المنصب، لأنه ما كان يريد ترك "الأهرام". طمأنه الرئيس بأنه سيحتفظ برئاسة تحرير الجريدة. عاد إلى منزله في القاهرة، فاستهجن وجود الحرس أمام الباب، وهو "الجورنالجي" الذي كان يعتز بهذا اللقب، ولا يرغب في استبداله بمنصب وزاري. ولذلك، مارس مهمته الجديدة، من دون دخول مبنى الوزارة، ولا مكتبه فيها، واكتفى بإعداد فريق من الشخصيات الإعلامية لتسيير المهام الإعلامية، ولم يذهب مطلقاً إلى مبنى الوزارة. ​

ما أصعب الكتابة عنه. صعوبة تقارب الاستحالة. كان سيد الكلمة السهلة الممتنعة التي كان لها الوقع، والحرمة التي تتميز بمسؤولية الكلمة الملتزمة. وقد تجلى ذلك بعد مجيء السادات. عندما أخذ السادات قراره بطرد الخبراء السوفيات، حيث تمرد على خط الرئيس الجديد. وبالمناسبة، كنت قد كتبت، في حينه، مقالة في "الأهرام" بعنوان "لماذا؟"، أثارت النظام الذي أمر بعدم نشرها في الطبعة الصباحية. أدركت، آنذاك، أن التغيير الحاد قادم فكانت استقالتي إلى هيكل الذي تفهمها وغادرت إلى بيروت. في حينه رفض هيكل التوجه الجديد؛ خصوصاً بعد ذهاب الرئيس السادات إلى القدس المحتلة، الأمر الذي انتهى به إلى السجن الذي لم يهز عزيمته ووضوح التزامه القومي العربي، وحرصه على التراث الإيجابي لعبد الناصر. ​

محمد حسنين هيكل مجتهد من موقع الالتزام. كان تركيز سعيه، في الأساس، على جعل مفهوم العمل القومي العربي وممارسته يتناغمان مع الحداثة وقيم العصر وقوانين التطور في مفهوم (ومهام) الدولة القائمة على المؤسسات الدستورية. ومن هنا، كان دائم الاعتراض على الشطط في ممارسة الحكم. ولا شك في أننا سنفتقد غيابه، ولو أن ظل تراثه باق مرجعاً تحتاجه الأجيال القادمة.