عندما
شرفت برئاسة تحرير مجلة الهلال العريقة منتصف أغسطس 2012 كان الإخوان قد بدأوا "عام الرمادة" بعد أن سيطروا على حكم مصر منذ شهرين .. فتعمدت أن أؤكد لهم بأننى ومعى مجلة الهلال سنقف دوماً على الشاطئ الآخر منهم.. وذلك من خلال العديد من أعداد المجلة.. حيث جاء عدد سبتمبر عددى الأول بغلاف كبير للزعيم جمال عبدالناصر.. وعنوان ضخم "باقة شوق للزعيم" .. بينما جاء عدد أكتوبر عن انتصارنا العظيم "أكتوبر .. أبطال وشهداء".. وتحول عدد نوفمبر إلى صفعة على وجه الجماعة "سيناء من البطولة إلى الإرهاب".. وجاء عدد ديسمبر عن الأستاذ "هيكل مفكراً وأديباً"
والحقيقة أن هذا العدد تحديداً كان على قمة أولوياتى منذ اليوم الأول لوجودى فى الهلال.. حيث بادرت بالاتصال بمكتب الأستاذ.. وأبلغت
السيدة جيهان عطية مديرة المكتب بسبب الاتصال.. فأوصلتنى بالأستاذ.. فشرحت له فى كلمات قليلة رغبتنا فى تقديم عدد خاص من مجلة الهلال رائدة الصحافة الثقافية فى الوطن العربى - عن الجانب الثقافى والفكرى فى شخصيته.. ولم يبد الأستاذ موافقة أو رفضا على الفكرة.. ولكنه حدد لنا موعداً بعد أيام قليلة .. ورغم رؤيتى للأستاذ مرات كثيرة فى مناسبات مختلفة إلا أن هذه المرة كانت الأولى التى ألتقيه فيها وجهاً لوجه وفى مكتبه الخاص على كورنيش النيل العظيم
وبعد الترحيب سألنى عن فكرتى.. فأعدت عليه ما ذكرته من قبل عن تقديم عدد خاص من الهلال عن الجانب الثقافى والفكرى فى شخصيته.. فسألنى وهل هذا بمناسبة عيد ميلادى "كنا فى بداية شهر سبتمبر وهو شهر ميلاد الأستاذ".. فأجبت بالنفى، مؤكدا على أن الجانب الثقافى والفكرى لديه توارى كثيرا لصالح الجانب الصحفى والسياسى.. ففاجأنى قائلا ولكني لا أحب كتابات الرثاء.. فرددت ولكننى أخطط لتقديم موضوعات نابضة وحيوية يستفيد منها القارئ.. خاصة
وأنها ستتناول جوانب غير مطروقة لدى الأستاذ.. فسألنى ومن سيكتب معك فذكرت له مجموعة من أسماء المجموعة الأقرب له .. فكانت مفاجأته الأكبر أن هؤلاء قد كتبوا كثيراً وربما لا يكون لديهم الجديد.. فرددت سريعاً إننى لا أعتمد على اسم الكاتب بقدر اعتمادي على قدرة
هذا الكاتب
على تناول الموضوع الذى سنكلفه به.. ثم قلت بشىء من الثقة والدعابة
وعلى أية حال لدينا تصميم على مفاجأة حضرتك.. فرد مبتسماً.. وإيه الموضوعات اللى عندك يا سيدى.. فقلت الذائقة الشعرية عند هيكل.. فسأل ومن سيكتب هذا الموضوع فقلت د. جابر عصفور، ثم أضفت ولدينا أيضا الروافد العربية والأجنبية فى ثقافة هيكل.. فسأل ومن سيكتب هذا الموضوع.. ورددت الإعلامى الكبير عبدالوهاب قتاية.. وواصلت سرد الموضوعات وكتابها.. "هيكل وثائق تمشى على قدمين" للدكتور عاصم الدسوقى - "هيكل عابر الحدود" الإعلامى محمد الخولي.. "الجورنالجى" الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد.. "عشرون عاماً فى مدرسة الأستاذ" الكاتب الكبير صلاح منتصر.. "فى رحاب المعلم الكبير" الكاتب الكبير منير عامر".. اختراقات
فى سور هيكل العظيم" الكاتبة الكبيرة سناء البيسى.. "هيكل مفكراً" د. مصطفى الفقى "هيكل مثقفاً وروائياً" الكاتب والروائى يوسف القعيد
وعند هذا الحد قال الأستاذ مبتسماً ابتسامة رضا وتشجيع "الموضوع بالشكل ده حقيقى مختلف".. ووافق على الفور على أن نبدأ فى إعداد هذا العدد الخاص عن كل ما يتعلق بالثقافة والفكر لديه.. وبعد موافقته قلت له بالطبع سيسبق كل هذا حوار طويل معكم.. فابتسم وكأنه كان يعلم أن الهدف الأساسي من الزيارة ومن هذا العدد الخاص.. هو ذلك الحوار الذى يجب أن يكون مختلفاً.. ووافق على إجراء الحوار.. على أن نبدأ فى نفس الموعد الأسبوع القادم..
واستثمرت الجلسة مع الأستاذ طوال الوقت المحدد لنا فى مناقشات حول الكثير من الموضوعات، وقد توقف الأستاذ عند جملة رددتها أكثر من مرة وهى "تلاقح الأفكار".. حيث قال مداعباً "هى الجملة حلوة بس المعنى يعنى"، فقلت ولكن الأفكار تتلاقح يا أستاذنا وتتوالد أيضاً -فأقرني
على ذلك- وانتهت هذه الجلسة التعارفية .. والتى لم أنزعج أبداً أنها كانت جلسة تقييمية حيث أراد الأستاذ هيكل أن يتعرف وعن قرب على الفكرة- وهى فكرة جديدة وغير مسبوقة أن يتم تقديم عدد خاص من مجلة ثقافية متخصصة عنه - وأن
يتعرف أيضاً على صاحب الفكرة ومدى قدرته على تنفيذ فكرته بالشكل الذى يرضى عنه الأستاذ..وبعد أسبوع.. وكانت كل المواعيد فى العاشرة صباح يوم السبت.. كنا فى مكتب الأستاذ لإجراء الحوار.. والحقيقة أن التحاور مع هيكل متعة ذهنية رائعة - ولكنه يستلزم الكثير من الحيطة والحذر.. فالرجل لديه قدرة عجيبة على الاسترسال فى حديث مملوء بالجاذبية والإبهار.. وقد تستغرقه فكرة فرعية فيسترسل فى الحديث عنها.. ولذلك يتطلب التحاور مع الأستاذ هيكل قمة التركيز واليقظة
وقد قررت ألا أقاطعة أثناء الحديث.. أسأل السؤال.. وأتلقى الإجابة بكل تقريعاتها وإذا وجدت أن إحدى النقاط لم تأخذ حقها من الشرح والإيضاح أوجه الأستاذ بلطف إلى ضرورة استكمال هذه النقطة.. وبدأ الحوار بالسؤال عن الجذور الثقافية والمعرفية التى بدأت من بيت جده لأنه فى حى الحسين حيث منطقة مولده ، فأكد على أن أهم وأول الروافد هو القرآن الكريم.. ثم القراءة المتنوعة فى مكتبة جده وإعجابه بالسير الشعبية.. وخاصة سيرة الظاهر بيبرس- وكشف الأستاذ عن سر ذهابه لدراسة التجارة المتوسطة .. وغم أن أشقاءه الأصفر ذهبوا إلى الجامعة.. وكان السر فى إصرار والده أن يعمل معه بالتجارة.. ورغم ذلك ذهب الأستاذ إلى الجامعة الأمريكية لدراسة الآداب وتغيير المسار إلى الصحافة.. التى رفض
والده عمله بها بينما شجعته والدته.. وأكد الأستاذ على أن تغطية الحروب مسألة شديدة الأهمية لأى صحفى يبحث عن التميز والتفرد
وقدم الأستاذ إحدى قواعده الذهبية لتميز الكتابة الصحفية حيث قال (لا رأى إلا على قاعدة خبر) وأن
دور الصحفى تنوير المجتمع.. وأن يجعله قادراً على متابعة الأحداث ثم شرح الأستاذ تفاصيل لقاءه العاصف بالضابط جمال عبدالناصر فى منطقة الفلوجة أثناء حرب فلسطين.. ذلك اللقاء الذى تحول إلى صداقة بعد ذلك، بيننا
الكثير من المشتركات.. وتحديدا المعرفة المشتركة.. وهذه المعرفة فى جوهرها ثقافة.. حيث كان عبدالناصر قارئا نهما ومثقفاً واسع الثقافة.. ومن مفاجأت الحوار أيضا أن عبدالناصر عندما وضع أفكار كتابه المهم ) فلسفة الثورة( دفع به الأستاذ
فتحى رضوان لصياغته الصياغة النهائية.. والتى لم تعجب عبدالناصر.. فدفع بتلك الأفكار إلى الأستاذ هيكل.. ليقدم الصياغة التى صدر بها الكتاب.. ومن هنا تعمقت العلاقة بين الزعيم والصحفى النابه، وإن كان الأستاذ يؤكد على أن ) الإنسانية( هى التي ربطت بينهما (لا تستطيع أن تحدد في هذه العلاقة من ساهم بماذا وكيف كانت هذه المساهمة ؟..
فالعلاقات الإنسانية التى تنطلق من الصداقة تقوم على الحوار المستمر).. وقال أيضا عن علاقته بالزعيم (علاقتنا تطورت إلى صداقة حقيقية.. وفى الصداقات الحقيقية يجب ألا تعجزك الموضوعات.. ولا
يرهقك الصمت)
ومن الأجزاء المهمة فى هذا الحوار حديث الأستاذ عن العلاقة بين الثقافة والسياسة (لا توجد
سياسة بدون ثقافة، وإذا فصلت السياسة عن الثقافة تحولت إلى سلطة.. حيث لا فرق بين قائد شعب وخفير أمن).. (الثقافة مثل السياسة إذا لم تكن لصالح الإنسان فلا قيمة لها(.. وهذه الرؤية المستنيرة للثقافة هى التى جعلت الأستاذ يصر على ضم كبار الأدباء والمفكرين إلى الأهرام.. ليجلسوا فى الدور السادس.. والأهم إصراره على وجود كل التيارات الفكرية فى الأسماء الكبيرة التى يختارها.
وعند هذا الحد انتهى الوقت المحدد لنا.. والأستاذ دوماً لديه قائمة مواعيد (بالثانية).. فقلت له يا أستاذنا أمامنا على الأقل نصف الحوار فوافق على أن نستكمل فى الأسبوع القادم فى نفس الموعد.
فى منطقة ما بين السياسة والثقافة بدأت علاقة الصداقة بين هيكل وعبدالناصر وفى ذات المنطقة تقريباً بدأت علاقات الأستاذية والتتلمذ بين الأستاذ محمد التابعى ومحمد حسنين هيكل والذى قال أستاذه التابعى أسلوبه ساحر اعتمد على السر ]والحكاية
ليضع بصمته الخاصة على لغة الصحافة.. وأكد على أن المهنية هى سر النجاح.. وكشف الأستاذ تفاصيل مغامرته برئاسة تحرير الأهرام.. حيث كانت الجريدة تعانى من خسائر فادحة.. فاتفق مع أصحابها عندما عرضوا عليه تولى المسؤلية أن يتقاضى سنوياً خمسة آلاف جنيه.. إضافه إلى 2.5% من الأرباح.. والطريف أن هيكل أتى بتوفيق الحكيم ليتقاضى نفس الراتب (خمسة آلاف جنيه).. ليجلس يومياً فى مطعم الأهرام يتناول الغداء على حساب المؤسسة).. وحوله خمسة أو ستة من الشباب لينقل إليهم خبراته وثقافاته وليتعلموا منه.. وأكد الأستاذ على أن الثقافة هى الظهير الحقيقى للسياسة.. وتستطيع بتضافرها مع تلك السياسة أن تحقق الانتشار المطلوب لأى إصدار صحفى.. وعن إشاعة محاولة اعتقال نجيب محفوظ أكد الأستاذ على أن ذلك خرافة أولا لثقة عبد الناصر فيه.. وثانيا لأن دوره كرئيس تحرير يتطلب حماية الجريدة وكل كتابها.
تحول الأهرام على يد الأستاذ هيكل إلى جسر حقيقى بين الثقافة المصرية والثقافات الأخرى.. حيث قام بدعوة الكثير من الرموز الفكرية والعسكرية مثل جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسى الكبير.. ووزير الثقافة الفرنسى الأشهر أندريه مالرو والتى كانت تجربته مع الرئيس ديجول.. تشبه إلى حد كبير تجربة هيكل مع عبد الناصر.. كما دعا الأهرام المناضل الكبير جيفارا وسجلوا معه 17 ساعة كاملة.. ودعا أيضاً القائد الإنجليزى الكبير مونتجمرى بطل معارك الحرب العالمية الثانية ضد هتلر.
كانت أخطر مناطق الحوار منطقة الحديث عن سيطرة جماعة الإخوان على الحكم فى مصر.. وعدائهم المعروف للثقافة والفكر.. حيث أكد الأستاذ أن الأزمة الحقيقية مع الإخوان تكمن فى غياب (جمال
الحوار(.. وأنهم
دعاة تقليد وقولبة وغير قادرين على إفراز مبدع حقيقى.. ويرفضون الاختلاف.
من مفاجأت هذا الحوار اعتراف الأستاذ بأنه (شاعر فاشل(.. وأنه قد كتب العديد من الأشعار فى مقتبل حياته.. جمعها فى كراسة ضاعت فى زحمة أوراقه.. وكشف الأستاذ عن سر تعلقه بكل من الشاعرين الكبيرين المتنبى وشوقى.. فى أنهما أكثر الشعراء تناولاً للسياسة.. وأنهى الأستاذ حواره معنا بحكمة شديدة الأهمية حيث قال (إذا لم نتجاسر ونفكر ونبدع فلن يكون أمامنا إلا التراجع(..
أعتقد أن إجراء الحوار كان الحلقة الأسهل فى عملية تقديمه إلى القارئ.. حيث احتاجت) كتابة الحوار) إلى جهد كبير فى تقديم وتأخير بعض الفقرات.. للحفاظ على السياق العام للحوار.. ثم كانت المهمة الأصعب فى كتابة مقدمة لهذا الحوار المهم.. وهل تكون عن الأستاذ .. أم عن المناخ العام الخانق بسبب الإخوان فى ذلك الوقت.. فقررت أن تجمع المقدمة بين الأمرين وجاء فيها) الوطن كله صار على المحك.. الثقافة والفكر تحديداً فى مهب الريح - جحافل التضييق والقولبة تزأر فى عنف وكراهية.. المشهد شديد القتامة والريبة. الأمر إذا يحتاج إلى (حكيم (نستقطر
من كلماته (روشتة الخلاص) و (نورا) يتقدمنا لاقتحام ذلك النفق المظلم الذى استطال بأكثر مما يجب.. والأمر أيضاً يحتاج إلى) مرجعية( نعود
إليها لنبحث لديها عن (بوصلة الاتجاه))
. وبعد أن أصبح الحوار مكتملاً قررت أن أرسله للأستاذ.. وللحقيقة فهو لم يطلب ذلك وقد فوجئ به عندما عرضته عليه.. وبعد أن قرأه لم يطلب حزف أو تغيير أى كلمة اللهم إلا كلمه واحدة.. فقد سألنى) هل من المهم أن تذكر عبارة دبلوم التجارة).. فقلت له على الفور نغيرها إلى (دراسة التجارة والأرقام).. ثم سألت الأستاذ هيكل هل تفضل أن ينشر الحوار فى الهلال فقط.. أم من الأفضل أن نرسله لكل الجرائد والمجلات.. فأجاب إجابة أذهلتنى حيث قال (هذا حوارك وأنت حرٌ فيه).. وعلى الفور قررت إرسال الحوار كاملاً إلى وكالة أبناء الشرق الأوسط.. لينشروه كاملاً وليرسلوه إلى كل الجرائد ووسائل الإعلام.. وكنت حريصاً حيث أرسلت لهم الحوار قبل نشره فى الهلال بأربع وعشرين ساعة فقط.. حتى لا يسبقنا أحد فى النشر .. وقد نشرت كل الجرائد مقتطفات من هذا الحوار المهم - كما نشرته جريدة الخليج الإمارتية كاملاً.. وبعد أربع وعشرين ساعة فقط من نزول الهلال إلى الأسواق.. تلقيت مكالمة تليفونية من الأستاذ يشيد فيها بهذا العدد الخاص من مجلة الهلال العريقة.. ويشكرنى ومعى كل فريق العمل على هذا الجهد المحترم.. وأشاد بكل الموضوعات التى حواها عدد الهلال.. وأشاد أيضاً باختيار مجموعة الكتاب الذين ساهموا معنا فى إخراج هذا العدد الخاص
. وخلال هذه المكالمة التليفونية.. أستأذنت الأستاذ فى تقديم هذا الحوار من خلال) كتاب( يضم إلى جوار الحوار مجموعة من القصائد الشعرية التى يردد كثيراً من أبياتها فى حواراته المختلفة فوافق ورحب.. ليخرج كتاب (هيكل
مفكراً وأديباً( عن
سلسلة كتاب الهلال .
وللحقيقة والتاريخ فإن العدد الخاص الذى أصدرناه من الهلال عن الأستاذ هيكل فى ديسمبر 2012 حقق أعلى معدلات التوزيع .. حيث ضاعفنا الكمية المطبوعة.. ومازال هذا العدد مطلوباً حتى الآن.. خاصة بعد وفاة الأستاذ رحمه الله .. حيث تصادف أن يكون حوارنا هو الحوار الأخير الذى يحوى كل أراء ورؤى الأستاذ عن الفكر والثقافة.