الأحد 19 مايو 2024

"سجن النسا" بين لطيفة الزيات ونوال السعداوي

فن15-10-2020 | 15:09

هناك مقولة شائعة تعلي من شأن الرجال على حساب النساء، وتقصر صفة "الجدعنة" عليهم، تقول  "السجن للرجالة" أو "السجن للجدعان"، وهذا ما نفاه التاريخ الحديث للحركة السياسية المصرية وغير المصرية، إذ وقفت النساء جنبا إلى جنب مع الرجال في كافة القضايا الوطنية التي ألّمت ببلادنا من قبل النصف الثاني من القرن العشرين، وشهد ذلك السجن كثيرا من النساء المناضلات في قضايا سياسية عديدة، ما يثبت أن السجن كذلك لـ "الجدعات"، عندما يتمردن ويثورن وينهضن لمواجهة أي ظلم واستبداد، ولم تكن السيدات إلا الثائرات المناضلات اللائي وقفن كثيرا في مواجهة الاستبداد السياسي قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وفى وجه الملك شخصيا، وأبدين بطولات كبيرة في فنون المقاومة، وحفرن أسماءهن بحروف من ذهب، منهن "فاطمة زكى وانجى أفلاطون وثريا شاكر وانتصار خطاب وثريا أدهم وأمينة رشيد ولطيفة الزيات" وغيرهن.

وفضّلت الحكومات المتعاقبة أن تجعل سجن النساء في القناطر الخيرية، ذلك البناء الشامخ الذى أنشأه والي مصر محمد علي، على مجرى النيل قبل أن ينشطر إلى فرعين، فرع دمياط إلى الشرق، وفرع رشيد إلى الغرب، وكانت القناطر مرتعا للأطفال كى ينتنزهوا ويلعبوا ويتنسموا الهواء اللطيف، وذلك في المناطق الشاسعة التي تحيط بالقناطر.

يقول د فخرى لبيب في كتابه "الشيوعيون وعبد الناصر"  .. " فى هذا المكان الذى أقيم للخير والمتعة، بنى سجنان، سجن للرجال أطلق عليه "إصلاحية الرجال"، وسجن النساء، يقع فى مواجهة السجن الأول... كان عنبر " د" هو سجن النساء، الدور الأرضي فيه لمن هن تحت التحقيق والمرضعات، والدور الثاني، كان لسجينات الآداب، والدور الثالث للجرائم الخفيفة، كالسرقة والنشل والاعتداء، وما شابه، والدور الرابع والأخير كان دور "المعلمات"، القاتلات وتاجرات المخدرات، وكان في ذلك السجن عدد من الآنسات المتهمات بالشيوعية تحت التحقيق، وكذلك دخلته الفنانة تحية كاريوكا في قضية سياسية".

كان سجن النسا، مجالا للذكريات والكتابات الأدبية والمسرحية والشعرية، وكتب كثير من الرجال مذكرات وروايات بديعة عن تجاربهم في السجن، منهم "طاهر عبد الحكيم، وفتحي عبد الفتاح، وإلهام سيف النصر، وسعد زهران، والفنان خالد حمزة، والكاتب صنع الله ابراهيم، والمهندس فوزى حبشي، والكاتب على الشوباشى" ، وغيرهم، وكتبت بعض نساء شهادات مطولة حول التجربة، منهن "انجى أفلاطون وانتصار خطاب وفريدة النقاش وصافيناز كاظم" وغيرهن، وهنا في هذا المقال حظينا بكتابات مفصلة للكاتبتين "د. لطيفة الزيات، ود نوال السعداوي".

في عام 1981، وصلت الأمور بين الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وبين خصومه السياسيين إلى ذروة الصدام، ولم يكن الصدام بين النخبة السياسية التي تتمثل في محمد حسنين هيكل ود عبد العظيم أبو العطا والبابا ود ميلاد حنا فحسب، بل شملت كل فئات المجتمع السياسية، والدينية، والثقافية، والعمالية، والفكرية، وكان السادات قد ضاق بالمعارضة كثيرا، ولم يستطع استيعابها كما كان يحدث في بعض الأحيان، ولم يكن أمامه كرأس للسلطة، إلا أن يبعدهم عن المشهد تماما، وكان هذا مثارا للدهشة، فقبض على أكثر من ألف وخمسمائة كاتب، ومثقف، وصحفي، وسياسي، في 5 سبتمبر عام 1981، ولهول ما حدث، عجّل هذا الأمر بأن يلقى الرئيس حتفه من أشد الخصوم الإرهابيين له، ويتم اغتياله بطريقة نكراء في يوم الاحتفال بالانتصار العظيم فى 6 أكتوبر.

لم يقتصر ذلك الصدام على المختلفين مع السادات من الرجال فقط، بل شمل الرجال والنساء من كل التيارات والمجالات والفئات، ومن بين المختلفات من النساء، كانت د. لطيفة الزيات التي قادت "اللجنة القومية ضد التطبيع مع إسرائيل"، وقامت تلك اللجنة بنشاط عارم في مواجهة سياسة السادات مع إسرائيل، وجدير بالذكر أن الزيات كان لها تاريخ نضالي عتيد منذ عقد الأربعينيات حتى الوقت الذى كانت تقود فيه اللجنة، وأصدرت اللجنة كراسة غير دورية عنوانها "المواجهة"، وكتبت ونشرت فيها الزيات سلسلة دراسات، ومقالات، وبيانات، أحدثت قلقا عارما للسلطة، وللسادات شخصيا، فكان لا بد أن تنال قدرا من غضبه الصارم، ويتم القبض عليها، وكذلك د. نوال السعداوي التي كانت محل سخط متعدد، من هذا السخط كان نضالها في مجال حقوق المرأة، لا بد أن يثير أي سلطة متحفظة، ولا أريد أن أقول "رجعية"، رغم الشعار الذى اتخذه السادات لدولته وهو "دولة العلم والإيمان"، وكانت الدكتورة نوال تقاتل من أجل كشف الزيف والتستر خلف الشعارات الدينية الزائفة، فخاضت نضالات شرسة عبر عديد من المقالات، والدراسات، والأبحاث والمؤتمرات في مصر وخارج مصر، ولذلك كان الغضب لا بد أن يشملها بجدارة.

وبعد الإفراج عن د. لطيفة الزيات، ود. نوال السعداوي، سجلتا سيرتي السجن كأجمل ما يكون، كتابة تعتبر من عيون أدب السجون، أصدرت د. لطيفة كتابها "أوراق شخصية .. حملة تفتيش"، وأصدرت د. نوال كتابا آخر وهو "مذكراتي في سجن النساء"، تقول لطيفة في أحد فصول الكتاب : " التجربة التي عشتها بالأمس أثناء حملة التفتيش تستدعى المزيد من التأمل والفهم، ضحكت من سلوكي الذى بدا غريبا بالأمس، وأضحكت معه الأخريات بالعنبر ليلا، ولكنى لا أضحك منه اليوم".

والذين يعرفون السجن - كما كتب محمود أمين العالم في مقال له عن كتاب د. لطيفة - ، يدركون جيدا ماذا تعنى حملة تفتيش، إنها لا تعنى فحسب البحث عن ممنوعات ومخبوءات لدى السجين، سواء بين محتويات زنزانته، أو في ملابسه، أو في جسده نفسه، بما قد يصل إلى العري أحيانا، بل هو يعني كذلك الجانب الآخر من العملية، أي محاولة السجين التحايل والتمويه لإخفاء الممنوعات إخفاء جيدا، بما قد يصل أحيانا إلى حد التحدي، والمقاومة، والعنف المتبادل بين المسجونين والسجانين، ويصل الصدام إلى حالات اشتباك بالأيدي أحيانا.

ومن ثم كانت النساء يبتكرن طرقا لإخفاء الأوراق والأقلام والكتب المهربة في مناطق شديدة المكر بالعنبر، أو الحمامات، أو في السقوف، حتى لا تقع بين أيدى السجانات الشرسات، وكانت السجينات يبذلن قصارى ما في جهودهن للمقاومة، تلك الجهود التي تصل إلى حد الإضراب بالفعل، وهنا تتولى عملية تنظيم الإضراب سجينات لديهن خبرة بأشكال المقاومة، ومنها بالطبع الإضراب، وسردت د. لطيفة وقائع الإضراب الذى نظمته السجينات في سجن القناطر، وهنا لا بد أن تتحالف كل السجينات من تيارات مختلفة ضد إدارة السجن الباطشة، فلا فرق بين شيوعيين، وقوميين، وإسلاميين في السجن، إلا إذا كانت هناك مواقف سياسية مهادنة تتخذها بعض التيارات، ومن ثم فلا بد من تحديد العناصر التي ستخوض الإضراب، ويتم اختيار دفعات لبداية الإضراب، وللأسف كانت إدارة السجن تعوّل على السجينات الإسلاميات في كسر الإضراب، لذلك تم تأخير السجينات من التيارات الإسلامية للدخول فى الإضراب، وهكذا نجحت عملية الإضراب بشكل كبير، قبل أن يتم الإفراج عن كل المعتقلين بعد الاغتيال المؤسف لرئيس البلاد.

وكما كتبت وسردت د. لطيفة ذكريات مؤلمة وحقيقية، كتبت د. نوال بأسلوبها العذب تجربتها ، وكتبت فى المقدمة "لأننى ولدت فى زمن عجيب يساق فيه الإنسان إلى السجن لأنه ولد بعقل يفكر، لأنه ولد بقلب يخفق للصدق والعدالة ، لأنه يكتب الشعر، والقصة، أو الرواية، لأنه نشر بحثا علميا أو أدبيا، أو مقالا ينادى فيه بالحرية، أو له ميول فلسفية".

لم يختلف كتاب د. نوال كثيرا، عن ما كتبته د. لطيفة، ولكننا نستطيع أن نتلمس ثمة اختلافات شكلية بين الكتابين، اختلافات فى التفاصيل، وفى الظروف الشخصية لكل منهما، ولكن السجن كان واحدا، وآلة المنع والمصادرة كانت واحدة، والاتهامات كانت شبه موحدة للجميع، وأدوات العقاب كانت مشتركة، والضغوط التى وقعت على جميع السيدات كانت شبه مُعترف بها من إدارة السجن التى تريد اعترافات واختراعات، حتى يتم تلفيق قضايا، ومن الرائع أن يتوحد صوت النساء جميعا ضد القمع، والمنع، والمصادرة، والاستبداد داخل السجن، حتى انتصرت كلمة العدالة التى أسرعت بالإفراج، ولا أعنى كلمة العدالة بالاغتيال الكريه من قبل الجماعات المتطرفة، ولكن كلمة العدالة التى توفرت فيما بعد فى الكتابات، والأدبيات التى ما زلنا نقرؤها هنا وهناك لكل من وقعن أسيرات فى سجن النسا البغيض.