الأربعاء 3 يوليو 2024

الأستاذ يقودنى إلى سيرته الذاتية.. من كتاب هيكل المذكرات المخفية لـ"محمد الباز"

فن15-10-2020 | 15:41

[ كان يوما من أيام صيف العام 2005.

الفصل الخانق لا يزال فى بدايته، يتوعد القاهرة المزدحمة بمزيد من الضيق والتوتر، ويحبس الأنفاس استعدادا لإنتخابات رئاسية يتنافس فيها عشرة مرشحون، النتيجة كانت محسومة ومحددة سلفا، لكننا تركنا أنفسنا للعبة سياسية، نتفاعل مع أحداثها ونسجل أهدافا فى بعضنا البعض من باب التسلية انتظارا لكلمة المخرج الأخيرة بإيقاف التصوير.

وقفت أمام الأستاذ محمد حسنين هيكل، بعد مقابلة كان مقررا لها عشرين دقيقة فقط، فطالت لأكثر من سبعين دقيقة.

 قال لى: سمعت منك وسمعت منى... لكنك لم تخبرنى بسبب الزيارة؟

لم يكن فى ذهنى شيئا محددا، فزيارة الأستاذ الكبير والجلوس إليه والإستماع له، سبب كاف جدا لطلب اللقاء والإلحاح عليه.

وقتها كنت أكتب فى جريدة العربى التى يرأس تحريرها الكاتب الكبير عبد الله السناوى، على المقهى الشعبى الذى يواجه الجريدة ويجمعنى به لدقائق وأنا أسلمه مقالى الأسبوعى، قلت له: ممكن تساعدنى أقابل الأستاذ هيكل؟

تفحصنى السناوى بنظرته التى لم تكن عابرة كعادة نظراته دائما.

 لم يرد، قاد الحديث إلى الوجهة التى يريدها: كلم مكتبه ولو يعرفك سيحدد لك موعدا.

ثقتى فى حسن نيته جعلتنى أتعامل مع ما قاله بجدية، كان التحدى واضحا، حصلت منه على رقم تليفون مكتب هيكل، فوجئت بمديرة مكتبه بعد أن سمعت اسمى ترحب بى محتفية وسائلة عن حملة صحفية كنت قد فجرتها كشفت فيها كيف زلت قدم أحد الدعاة فى فضيحة أخلاقية.

سألتنى عن سبب المقابلة.

قلت لها: مقابلة الأستاذ فى حد ذاتها سبب... وسبب كاف جدا، أخبريه أننى أريد مقابلته فقط.

بعد عشر دقائق، وجدت رقم مكتب هيكل على هاتفى المحمول، وقبل أن أتحدث جاءنى صوته: أهلا يا محمد... أمورك استقرت ولا لسه؟

الأستاذ لا يعرفنى فقط، ولكن يعرف أيضا أنى خارج من تجربة صحفية عاصفة، فقبل ما يقرب من شهرين كنت قد ودعت جريدة" الغد" التى تحملت مشقة إصدارها ورئيس الحزب الذى تصدر عنه فى السجن، ولما خرج لم نتفق وودعت داره غير مأسوف عليها ولا عليه.

لم ينتظر منى ردا.

كان يمارس معى لعبته المفضلة، فهو مخبر الصحافة المصرية المصرية الأول، الذى يبحث عن الأخبار وما وراءها، خمنت أنه فى الدقائق العشر التى فصلت بين حديثى مع مديرة مكتبه وحديثى معه، سأل وعرف وقدر أننى أستحق أن أنال فرصة مقابلته والجلوس إليه.

الثانية عشر ظهرا كان يجب أن أكون داخل مكتبه... تأخرت دقائق قليلة بسبب زحام أمام الأسانسير، وجدت رقم المكتب يظهر على شاشة المحمول، وبلا مقدمات سمعت من يقول: تأخرت عن موعد الأستاذ ثلاث دقائق: أين أنت؟

لم يشفع لى إلا أننى كنت أضع يدى على جرس الباب.

مباشرة دخلت عليه مكتبه... جلست على كرسى أمامه... قرأت كثيرا عن هذه الجلسة ممن سبق وقابلوه، يضع لضيفه كرسىيا أمامه، يجلسه فى مواجهته، وكأنه يريد أن يحصل منه على اعترافات تفصيلية.

قال لى: هذه هى المرة الأولى... سوف أسمع منك... وفى المرة القادمة يمكننى أن أتحدث.  

لم يحدث شئ من هذا، كان الأستاذ هو من تحدث معظم الوقت، ولم أحاول أن أقل شيئا، فقد كنت أمام فرصة تاريخية ليس للاستماع المباشر منه، ولكن لتأمله وهو يتحدث، لإقتحام عينيه وهو يحاول أن يقنعك بما يريد.

لقد ظل هيكل محتفظا بحيويته حتى الأيام الأخيرة من حياته التى ختمها وهو يحمل على كتفيه ثلاثة وتسعين عاما... فما بالكم بحيويته عندما كان لا يزال فى الثانية والسبعين؟

دون أن أسأله لماذا حدد لى موعدا بهذه السرعة، أنا الذى لم أفصح عن سبب طلب مقابلته.

 قال: أنا أعرف جيل الآباء فى المهنة، هؤلاء الذين عملوا إلى جوارى فى الأهرام، وهؤلاء الجميع يعرفونهم ( أشار إلى مكرم محمد أحمد وإبراهيم نافع وفهمى هويدى وسلامة أحمد سلامة).

 وأعرف كذلك جيل الأبناء بالنسبة لى، وهؤلاء يقودون الصحافة المصرية الآن ومعظمهم يديرون صحف حزبية وخاصة ناجحة ( وأشار إلى عادل حموده ومصطفى بكرى وعبد الله السناوى).

وأضاف: لكننى لا أعرف شيئا عمن أعتبرهم جيل الأحفاد وأنت منهم... وأعتقد أننى يمكن أن أسمع منك عن جيلك فى المهنة لتكتمل عندى الصورة.

فكر هيكل كما قال لى أن يقابل أعداد من الأحفاد عبر ندوات أو لقاءات موسعة – لم يكن دشن مؤسسته الصحفية بعد – لكنه استبعد الفكرة حتى لا يقول أحد – بتعبيره هو – أنه يريد أن يصادر مستقبل المهنة لحسابه، كما قالوا قبل ذلك أنه صادر تاريخها لصالحه وحده.

سألت الأستاذ قبل أن أتحدث عن جيلى الآباء والأبناء ورأيه فى تجربتهم.

 ابتسم قليلا، وقال: سأعتبر هذا أول اختبار لك... سأقول لك كل شئ، وبصراحة، احتفظ بما سأقوله، لا تنشره أبدا ما دمت موجودا، وبعده يمكنك أن تتصرف فيه.

سمعت من هيكل ما لا يسر كثيرون ممن عملوا فى المهنة وكانوا من حراسها الأمناء، ولم أتحدث به أو عنه... وأعتقد أننى لن أفعل.

فجأة قفزت فى خاطرى فكرة فلم أقاومها، طرحتها عليه دون مقدمات أيضا.

سألته:  ماذا لو أن الأقدار لم تحكم بالصدام الكبير بينك وبين الرئيس السادات فى بدايات العام 1974، وتحملك وقتها وظللت فى الأهرام رئيسا لتحريرها حتى اغتياله، وبعدها استراح لك مبارك فأبقاك على عرش الأهرام ولم يفرط فيما تمثله له من سند إعلامى ومستشار سياسى.

 هل كان يمكن لك أن تبقى فى منصب رئيس التحرير كل هذا العمر... ما الذى كان سيتغير فى مسيرة حياتك؟

تعاملت مع سؤالى على أنه مجرد استفسار عادى ينتهى بمجرد وضع علامة استفهام فى نهايته، لم أتوقع أبدا أن يثير كل هذا الإنزعاج الذى بدا على ملامح الأستاذ مستبدا وموترا ومقلقا.

قال: أعوذ بالله.. لماذا خطر على بالك هذا الخاطر الشرير؟ ... أى شيطان ألقى فى خاطرك بهذه الفكرة.؟ إنه جنون أن تفكر بهذه الطريقة.

استراحت ملامح وجه الأستاذ قليلا، بدا لى أنه تخلص من انزعاجه.

عاد ليتحدث، قال: أعتقد أن الأقدار كانت رحيمة بى جدا، عندما اصطدمت بالرئيس السادات، كان يمكن بالفعل أن يمتد بى العمر فى الأهرام رئيسا للتحرير أو على الأقل كاتبا بها، ووقتها كانت الأقدار ستحرمنى من كثير مما قمت به.

نظر الأستاذ إلى يساره، وأشار إلى أحد عشر كتابا كتبها باللغة الإنجليزية وقال: أنا أعتز بهذه الكتب جدا... ولا أدرى لو كان العمر امتد بى فى الأهرام هل كنت سأتمكن من إنجازها أم لا؟

عاد إليه انزعاجه مرة أخرى، كانت الفكرة فيما يبدو مرعبة بالنسبة له.

صمت قليلا، ثم كرر كلمته: أعوذ بالله... كيف طاوعك قلبك أن ترسم لى هذه الصورة البشعة؟... انظر إلى رؤساء التحرير الحاليين، الذين استغنى النظام عن خدماتهم – كان النظام وقتها قد أعفى إبراهيم نافع من الأهرام، وإبراهيم سعدة من أخبار اليوم، وسمير رجب من الجمهورية، ومكرم محمد أحمد من دارالهلال – لم يخرجوا الا بالدم.

وبحسم وكأنه ينهى هذا الكابوس الذى وجد نفسه فى مواجهته، قال:  لا..لا ..لا.. أعتقد أن الأقدار كانت رحيمة بى جدا فلم تضعنى فى هذا الاختبار.

بعد حديث طال، كان لابد أن يحصل على ما يريد؟

يعرف هو أن سعى الصحفيين إليه غاية فى حد ذاتها... ما أنجزه جعل اللقاء به إنجازا فى حد ذاته،.

سألنى... فقلت ما كنت أتمناه: عندى فكرة يا أستاذ.

 أنصت دون أن يسأل ما هى، فواصلت حديثى.

 قلت له: أريد أن أكتب قصتك الإنسانية مع رؤساء مصر الذين عاصرتهم، لقد كتبت كثيرا عن سيرتك السياسية معهم وأشرت على استحياء وربما على عجل لما جمع بينك وبينهم إنسانيا، أريد الصورة الكاملة... ما لم تقله أو تكتبه عنهم.

لم يرفض الأستاذ هيكل الفكرة، ولكنه سألنى سؤالا – توقعته ولكن ليس بنفس الدرجة من الحدة: ولماذا أحكى لك أنت بالذات هذه القصة؟

لم تكن لدى إجابة جاهزة.

 وجدتنى أقول له: بحكم السن – وقتها كنت قد تجاوزت الثلاثين بقليل - لو ترفقت بى الأقدار وأمدت فى عمرى، فإننى سأكتب على الأقل لأربعة أو خمسة أجيال، أى أن هذه السيرة ستكون حاضرة من خلالى لأجيال قادمة، وأعتقد أنك مهتم بأن تظل مع الأجيال القادمة.

شعرت من تعبيرات وجهه ورد فعله أنه استراح لمنطقى.

قال على الفور: أنا موافق من حيث المبدأ،  لدى بعض الارتباطات والسفريات، وبعدها يمكن أن نبدأ فى التسجيل مباشرة.

قبل أن أودعه، قال لى: هل قرأت الحوار الذى أجراه معى الأستاذ مفيد فوزى فى مجلة " نصف الدنيا"؟

وقبل أن أجيب أضاف: الحوارات صدرت فى كتاب منذ عامين تقريبا، لو قرأت ما قلته جيدا يمكن أن تجد فيه بداية الخيط لما تريده.

لم أكن قرأت حوار الأستاذ هيكل مع الأستاذ مفيد فوزى وقتها، رغم أننى كانت قد تصفحت الحوارات عندما نشرت، وأقتنيت الكتاب الذى صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وكان عنوانه" هيكل الآخر... إبحار فى عقل وقلب محمد حسنين هيكل"... ولم أجد فيما أشار إليه هيكل ما يغرينى، فقد كنت أنتظره هو دون سواه.

فى العام 2007 وفى واحدة من دورات مؤسسة هيكل للصحافة كنت مدعوا إلى حفل أقامة للمتدربين فى نادى العاصمة بجاردن سيتى، عندما كنت أصافحه كان يقف بيننا الكاتب الكبير هانى شكر الله، وقتها كنت طرفا فى معركة صحفية صاخبة، قال له شكر الله: محمد قالب الدنيا الأيام دى.

ابتسم وقال: على فكرة احنا جينا الدنيا عشان نقلبها مش نعدلها.

فى العام 2010 كنت أجلس معه فى بيته الريفى ببرقاش لما يزيد على خمس ساعات.

كانت مؤسسة الأهرام قد أقامت احتفالا كبيرا بمناسبة مرور 135 سنة على صدور الأهرام، ولم توجه له دعوة هو الذى أعاد الروح للأهرام وكان سببا مباشرا من أسباب مجدها المستمر والذى لا ينقطع.

فى اجتماع مجلس التحرير بجريدة الفجر، اقترحت أن أكتب قصة هيكل فى الأهرام، وهى القصة التى بدأت فى العام 1957 وانتهت فى العام 1974، التقط الأستاذ عادل حموده الخيط، وقال لى: ولماذا لا نسمع القصة من الأستاذ نفسه؟

تواصل عادل حموده مع هيكل، ويبدو أنه كان ينتظر من يخترق جدار الصمت فى قصته مع الأهرام، حدد لنا موعدا فى اليوم التالى مباشرة.

كان لهيكل شرط واحد، وافق على أن يحكى لنا القصة لكن على أن نكتبها دون أن ننسبها إليه.

يومها سخر هيكل من سؤالى الأول.

قلت له: كيف حدث التحول الكبير على يديك يا أستاذ... أعرف أنك كنت تحلم بأن تتحول الصحف إلى مؤسسات كبرى، وليس مجرد صحف يملكها أفراد يتصرفون فيها كما يشاءون دون أن يحاسبهم أو يراجعهم أحد... هل أخذت قرارك بالخروج من أخبار اليوم إلى الأهرام حتى تحقق هذا الحلم؟

نظر لى وإبتسامته المميزة تملأ وجهه كله، وقال ما لم أكن أتخيله على الإطلاق: شوف... التاريخ ده مسكين جدا... لأنه فى الغالب أسير رواياتنا... أنا عارف إنك قرات الكلام ده... لكن الحقيقة إن السبب اللى كان وراء خروجى من أخبار اليوم إلى الأهرام، لم يكن له علاقة بما قلته... كان سببا شخصيا وخاصا جدا.

رجوته أن يحكى، تمنع قليلا، ثم تحدث لكن بشرط اعتبره هو امتحانا ثانيا لى، قال: ما سأقوله لك لا يصلح للنشر لا فى حياتى ولا بعدها.

حكى هيكل السبب الحقيقى لخروجه من أخبار اليوم، وهو سبب قد يعتبره البعض مخجلا فى الحقيقة، لكن للأسف الشديد كانت هذه هى الحقيقة التى بوعدى له لن يكون لها نصيب من التدوين على ورق.

ذكرته بما أتفقنا عليه من خمس سنوات، حاول أن يجمع أطراف الحديث الذى كان، ثم فاجأنى بقوله: لو قرات حوارى مع الأستاذ مفيد فوزى ستجد بداية الطريق... يبدو أنك لم تقرأ الحوار حتى الآن.

بعد سنوات من هذه الجلسة التى لا تزال أسرارها أسيرة أوراقى وذاكرتى - فمن الصعب أن أنشر ما قيل فيها، تحديدا فى الأوقات التى كان يتركنا فيها الأستاذ عادل حموده للرد على تليفون ما أو لدخول الحمام – وعندما قررت أن أنسج سيرة الأستاذ الذاتية قررت أن أبدا بقراءة حواره الكامل مع مفيد فوزى.

كان الأستاذ صادقا تماما فيما قاله.

تأملت كلماته، أعدت قراءتها أكثر من مرة.

 إنه يقول لمفيد فوزى: طاف بذهنى خاطر أن أكتب سيرتى الذاتية، ولكن تقديرى أن السيرة الشخصية يجب أن تكون خاتمة مشوار، وما دمت تتحرك فأنت عرضة لأشياء كثيرة قد تضاف وربما تحذف، ومن يكتب سيرته الذاتية يجد نفسه ربما يغير وقائع أو يعيد النظر فيها بحكمة لم تكن موجودة وقت وقوع الحوادث، وأنا أتصور أن كل إنسان – فى سيرته الذاتية – يعيد على نحو أو آخر اختراع نفسه من جديد، ليس على الصورة التى كانت، وإنما على الصورة الملائمة، والأمر يحتاج إلى شجاعة لقول الحقيقة مجردة.

ويعترف الأستاذ هيكل: لم أكتب مذكراتى لأنى لا أريد أن أقع فى محظور وقع فيه غيرى، فإذا به يعيد اختراع نفسه من جديد، ولقد رأيت البعض يخترع أشياء لا علاقة له بها، ولكنه رسم لنفسه صورة بالزيت، وعملية الرسم هى لعبة الخيال والألوان حرة فوق مساحة الورق.

حتى الآن لم أعثر على السر فيما قاله هيكل، كنت أشعر أنه يريدنى أن أصل إلى نقطة محددة، وقد حدث هذا عندما قابلت هذه الفقرة.

 يقول: أنا لست متأكدا أن أحدا منا بقادر على مواجهة الناس بالحقيقة كاملة غير منقوصة، لأننا بشر، ومن هنا تندهش لو قلت لك: إننى أترك حياتى للآخرين، لماذا؟ لأن من يعملون فى العمل الصحفى بالتحديد، كل مواقفهم وكل أعمالهم وكل آرائهم وكل مشاكلهم وكل تطورات حياتهم ومراحلها موجودة ومسجلة على ورق، وهذه مهمة آخرين يستطيعون المتابعة والحكم.

أعدت الحديث الذى دار بيننا ما بين عامى 2005 و2010، تأكدت أن هيكل كان يضعنى أمام الفكرة، فهو لن يتحدث بشكل مباشر عن حياته، لأنه بالفعل فعل ذلك عبر كتبه والحوارات التى أجريت معه والرسائل التى بعث بها لأصدقاء وربما خصوم أيضا، وما على إلا أن أعيش بين أوراقه وكتبه... وحتما سأصل إلى ما أريد.

قررت أن أبدأ الرحلة... وأعتقد أنها أسفرت عن نتائج مهمة، ووجدتنى أشكر الأستاذ لأنه كان يدلنى على نفسه دون أن أنتبه.