الأحد 16 يونيو 2024

نحو مفهوم للعُزلة الكورونيالية

أخرى15-10-2020 | 17:31

الغلافُ الذهبيُّ راقدٌ في تراخٍ أمامي، على مكتبي منذ ثلاثة أشهر، قفزت حروفه أمام عينيَّ واضحة وزاعقة: "مائة عام من العُزلة". تُرَى؟! هل واجهت "ماكوندو" في عزلتها، وأشباهُها من الشعوب التي نطلق عليها من مفهومنا السلطوي صفة البدائية (الشعوب، ولا أعرف هي بدائية لأي جنس؟)، أقول: هل واجهت هذه الشعوب تلك الأوبئة كما واجهناها نحن؟.


من الواضح أن الكورونيالية قد كشفت كل الأقنعة التي ألصقناها على وجوهنا، مُدَّعِين أننا مررنا بعصر الصيد والزراعة والصناعة والمعرفة، وهو ما أثار في ذهني التساؤل عن جدوى هذه التقسيمات في ظل انكشاف كل النظم (التي قيل إنها متقدمة)، ليس الانكشاف فقط، بل السقوط المدوِّي لدول ورؤساء حكومات ومؤسسات تتمتع بهالات ذات طبيعة كورونيالية أيضًا، إلى الحد الذي يمكن أن ندعي فيه تلاشي مصطلحات الإنسانية والعدالة والمساواة والأخلاق، ناهيك عن السقوط العلمي والسياسي، فمن بين أكثر من 200 دولة في العالم الجغرافي - الذي نعرفه - لم تنجُ دولة واحدة مما حدث!، ولكننا في الوقت نفسه لا يمكننا - حتى الآن - التأكد مما حدث لتلك الشعوب التي نَصِفُهَا بأنها بدائية!.


يشير مفهوم العُزلة الاجتماعية إلى نوع من العزلة "اللا إرادية"، والغياب المبني على نِيَّة ثابتة هدفها التباعد والانغلاق الاجتماعي. وعادةً ما ينجم ذلك عن الأمراض ذات الطبيعة النفسية، نظرًا لغياب توقع السلوك المفاجئ الذي قد يرتكبه الشخص المعزول، وإن امتدت مؤخرًا إلى أمراض ذات طبيعة عضوية مثل أمراض المناعة والقلب.


منذ عامين، أنشأت بريطانيا وزارة خاصة، هدفها مواجهة ظاهرة اجتماعية، تتعلّق بوجود 8 مليون بريطاني في عمر الخامسة والثلاثين عامًا، اختاروا العزلة والوحدة بشكل إراديّ وقسريّ حتى على الذات، ووصل الأمر إلى القول بأنه "نوع من الوباء الصامت". هذه الوزارة ما زالت تعمل على مواجهة هذه الظاهرة الاجتماعية المرضية، ولكننا لم نَرَ أي دولة تُنشئ وزارة مؤقتة - منفصلةً عن وزارة الصحة - لمكافحة الكورونيالية خصّيصًا، رغم أن الأمر منذ أربعة شهور تقريبًا، وعلى مستوى كوزموبوليتاني، تحول إلى عُزلة لا إرادية، ربما لم تشهدها البشرية من قبل. 


لقد سقطت كل أحجار الدومينو، كل النظم الاقتصادية والسياسية سقطت، وأعلنت فشلها في مواجهة كائن مجهري، رغم رسائله العديدة التي تركها للبشرية خلال السنوت الأربع الماضية. ولكن البشرية، التي صَنَّفَتْ نفسها ككائنٍ طبقيٍّ معرفيٍّ، يمكنه مواجهة أي خطر محتمل، تلك البشرية خسرت المواجهة منذ الجولة الأولى. وكانت مؤشرات هذا السقوط جَلِيَّةً ومتعدّدةً: عجز النظم الصحية، وعدد الوفيات المتنامي، والإصابات المتلاحقة، إلى الدرجة التي سقطت فيها العلوم الطبية ذاتها. 


جديرٌ بالذكر أن كثيرًا من الباحثين تناولوا هذا الجانب باعتبار أن مفهوم الحرية الاقتصادية ليس بالضرورة مُعادلًا لمفاهيم متعلقة بالحرية السياسية والمساواة، وبالتالي غياب المساواة الصحية. ولعل أوضح مثال على ذلك، وهو في الوقت نفسه أكثر ما يدعو إلى السخرية، أن لاعب كرة القدم البرتغالي المشهور - كريستيانو رونالدو - هرب هو وعائلته بطائرته إلى جزيرة منعزلة، هربًا من جائحة الكورونيالية، وهو ما يثير ويطرح عشرات الأسئلة ذات الطبيعة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية – مجتمعةً - عن جدوى كرة القدم في مواجهة العلوم الطبية، وهو ما يعني، ببساطة ودون الحاجة لاستنتاجات كثيرة، أن تَوَجُّهات البشرية في مجملها خاطئة، وأن كل النظم ذات الطبيعة الاجتماعية لم تستطع أن تواجه هذا القاتل الاجتماعي المتسلسل، ذا الطبيعة المجهرية!. 


هنا أعود إلى "ماكوندو" جابرييل جارسيا ماركيز، ماكوندو التي اختارت عُزلتها عن العالم، هي الوحيدة التي نجت، ربما لأنه لم يكن لديها أي كتابات عن الفيروسات التاجية، ولا معلومات عنها. نجت بفضل مناعتها البدائية، وهو ما يجعلني أسخر بشدة من تلك التصنيفات التي ركزت على مفهوم واحد اسمه الحضارة، وتناست أن هناك العديد من المفاهيم الثقافية والتاريخية التي تجعلنا جميعًا - في نظر الشعوب البدائية - أكثر بدائيةً منهم!.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020