كتبت: نا زونج
ترجمة: إيناس التركي، بتصرف
يمكن للكتب أن تتنبأ بالمستقبل، وإن لم يتعمد مؤلفوها ذلك. في روايتها الأولى التي تحمل عنوان "انقطاع"، تُصَوِّرُ "لينج ما" فيروسًا يتسبب في إثارة الفوضى في العالم أجمع. يتم إبلاغ الكاتبة - التي تعمل في نيويورك في مجال النشر - أن الشركة التي تتعامل معها في "شين زين" في الصين سوف تغلق أبواب مطابعها، بعد اصابة 71% من العاملين بها. في الرواية، يُعَرَّف الفيروس باسم "حمى شين". أمّا في الحقيقة، فقد أصبحنا نعرف اسمه الآن.
شعرت بالرغبة في إعادة قراءة الرواية بعد تفشي فيروس كورونا، لكنني - بعد بضع صفحات - وجدت الواقعية التي في أحداثها لا تُطاق. توقفت لفترة عن قراءة أي شيء سوى الأخبار، وكانت جميعها مؤلمة بطريقة أو بأخرى. وبعدها، وسط الشعور بالارتباك والغضب، عُدت ثانية إلى قراءة الكتب، رغم أنها لم تعد تشبه تلك الكتب التي اعتدت الاستمتاع بها في الماضي.
في مثل أوقات الأزمات هذه، وبدافع من حاجتنا المُلحة للعثور على إجابات، نلجأ إلى الكتب بحثًا عن تشخيص للوضع. تفشي الوباء، والحظر الذي تلاه، أثَّرا على صناعة النشر في الصين بدرجة كبيرة. وقد أخبرني لوك، مؤسس دار نشر صغيرة متخصصة في بكين، عن الصعاب التي تواجهها المطابع بسبب الوباء. فالعمال يتشاركون النوم في السكن الخاص بالمصنع، على أَسِرَّة تُشبه تلك الموجودة في الثكنات العسكرية، ويعملون بقُرب بعضهم من بعض، ومن ثَمَّ صارت المصانع بحاجة لاتخاذ اجراءات سلامة إضافية لاحتواء الفيروس. اضطر العمال المغتربون، والعائدون من إجازات العام القمري الجديد، لأن يعزلوا أنفسهم لمدة 14 يومًا، وإلى جانب ذلك اضطرت المصانع إلى تخزين كميات كافية من الأقنعة الواقية، لتستوفي الشروط الحكومية التي تمكنها من العودة إلى العمل مرة أخرى.
الورق أيضًا بات يمثل مشكلة؛ حيث لا يمكن تخزين الورق لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، ففي العادة يتم توصيله قبل شهر من وقت الطباعة. والآن، في كل مرة تدخل فيها شاحنات التوصيل منطقة جديدة، يتوجب على السائق تجديد تصريح السفر الذي يحمله، كما يتوجب عليه الخضوع لقياس الحرارة. وكل هذه الإجراءات تتسبب في إبطاء العمل بصورة كبيرة. و بسبب كل هذا التأخير أخبرني لوك أنه لن يتمكن من إصدار العديد من الكتب التي كان ينوي إصدارها في شهر مارس في الموعد المقرر، بل ستتأخر حتى شهر يونيو، كما إن هناك واحدًا من تلك الكتب قد تم تأجيله لأجل غير مُسَمًّى.
قال: "الشركات الصغيرة بالذات، مثل شركتنا، مهددة بسبب الأزمة. في كل عام نختار بعناية أربعة أو خمسة كتب لنقوم بنشرها. ولا يمكننا تحمل خسارة المال". تأسست الدار في عام 2018، وقدمت سلسلة من الكتب المتخصصة في الفن والنقد الشعري، بما في ذلك كتاب "اليوت واينبرجر" الكلاسيكي الذي يحمل عنوان "تسع عشرة طريقة لتأمل وانج وي". وفي الصين، لا يمكن لغير دور النشر - المسجلة رسميًا - التقدم للحصول على رقم فهرسة، تصدره وتنظمه مكتبة أرشيف المنشورات الصينية، والتي تعد فرعا تابعًا لمركز معلومات إدارة الصحافة والنشر. ودور النشر الصغيرة، مثل تلك التي يمتلكها لوك، تتولى جميع خطوات العمل لنشر الكتاب. فهم يتولون شراء الحقوق، والاتفاق مع المترجمين ومصممي الأغلفة، والاتفاق مع المطابع. وعند تأجيل النشر، تقع معظم الأعباء المالية على عاتقهم هم.
سألت لوك: "كيف تتعامل مع الأمر برمته؟".
رد قائلًا: "نحاول الصمود وتحمل الأمر".
قبلها ببضعة أيام، في الرابع والعشرين من فبراير، انتشرت رسالة من سلسلة المكتبات الصينية "وان واي ستريت"، على واحدة من منصات التواصل الاجتماعي في الصين. تبدأ الرسالة كالتالي: "ما لم ينتهِ هذا الوباء، فلن تستطيع مكتباتنا الصمود لفترة أطول من هذا. كنا نخطط للاحتفال بالعيد الخامس عشر لتأسيس المكتبة في 2020، لكن العام بدأ بطريقة لم يتوقعها أحد".
عندما شارك الكاتب "زو زايوان" مع أصدقائه في افتتاح أول فرع من فروع "وان واي ستريت"، منذ خمسة عشر عامًا مضت، كان الأمر يُعّدُّ بمثابة السباحة ضد التيار، حيث كانت المكتبات تغلق أبوابها آنذاك. لكن "زو" كان يريدها أن تصبح مثل المكتبات الشهيرة في البلاد الأخرى، وأن تصير مكانًا عامًّا لتبادل الحوار الثقافي. وقد نجح في ذلك بالفعل، حيث قامت المكتبة عبر السنوات باستضافة أكثر من 500 حدث ثقافي، كما نظمت مسابقة أدبية خاصة بها، مما شجع العديد من المكتبات المستقلة الأخرى على الانتشار في أرجاء البلاد. كما إن المكتبة تصدر دورية ثقافية بعنوان "نحن نقرأ العالم"، وأسعفني الحظ بالعثور على عددها الأول عن طريق المصادفة ذات مرة في مكتبة الجامعة. والآن، صار الوباء - إلى حد كبير - يهدد المكتبة، التي لا تهدف إلى الربح المادي بصورة أساسية.
تبعًا للرسالة، فمن بين فروعها الخمسة في الصين، بقي واحد فقط مفتوحًا في الوقت الحالي، وحتى هذا الفرع لم يَعُدْ يستقبل سوى عُشْر العدد المعتاد من الزبائن الذين كان يستقبلهم في السابق. فمع بقاء الناس أسرى في منازلهم، لا تبيع المكتبة سوى 15 كتابًا في اليوم الواحد، حتى انخفضت عائدات شهر فبراير بنسبة 80% عن مثيلتها في العام السابق. وبعد استنفاد جميع أشكال الحملات الترويجية عبر الإنترنت من خلال الوسائل المختلفة، اتجهت المكتبة إلى تنظيم مختلف الحملات لجمع التبرعات من القراء، مقابل الهدايا أو كروت يتم استبدالها بالهدايا. قال زو: "يبدو الأمر شبيهًا بالبيع المُسبق للأعضاء قبل توافر البضائع". بدت نبرته هادئة على الطرف الآخر أثناء الاتصال. ففي كل الأحوال، نجحت "وان واي ستريت" في الحفاظ على اسمها، ولديها قاعدة واسعة من القراء عبر الإنترنت، يبلغ عددهم 20 مليون قارئ.
ويأتي نجاح "وان واي ستريت" بسبب عدم اعتمادها بصورة كلية على مبيعات الكتب، حيث ينافسهم فيها باعة الكتب عبر الإنترنت ويعرضونها بأسعار بخسة للغاية. وينتوي زو المُضِيَّ قُدُمًا في مشروعه. عندما سألته عن مستقبل المكتبات في الصين، رد قائلا: "علينا أن نعيد تخيل طبيعة عمل المكتبة. فيجب أن تكون المكتبات مصدرًا لإنتاج المعرفة، ومكانًا تلتقي فيه عواطف المرء المختلفة. علينا اللجوء إلى أساليب جديدة –سمعية وبصرية ومطبوعة - إلى جانب الدورات عبر الإنترنت، وفتح باب العضوية، لإنتاج حياة ثقافية واجتماعية".
وقد بدأت صناعة النشر في الصين تتدهور من قبل انتشار الوباء بفترة طويلة. بدا الأمر أشبه بالنبات الذابل الذي أحتفظ به على حافة نافذتي. فأنا أرعاه رعاية يومية، وأهتم بعملية الري، وأحاول القضاء على الفطريات التي تصيبه، وأمدُّه بما يحتاجه من عناصر وسماد من وقت لآخر، بالرغم من ذلك كله استمر يذبل ويذوي في صمت بطريقة غامضة.
كما تحدثت أيضًا مع لورا، التي تعمل في دار نشر كبيرة في بكين. في عام 2017 عندما كانت تعمل كمحررة مبتدئة، وكنت أنا حديثة العهد بالعمل في الترجمة، عملنا معًا على ترجمة مجموعة قصص أيرلندية قصيرة. هذه المجموعة كانت العمل الأدبي الأول الذي أتولى ترجمته من الإنجليزية إلى الصينية. ولأننا متقاربتان في العمر فقد صرنا أصدقاء، وظلننا على اتصال. فوجئت عندما علمت أنها تشعر بالتردد منذ نهاية العام الماضي، وأنها تفكر في الاستقالة من عملها، وترك العمل في مجال النشر بصورة نهائية.
سألتها: "لماذا؟".
أجابت قائلة: "لم تعد لديَّ الطاقة الكافية لذلك. فلم يَعُدْ للأمر تأثير كافٍ. يتحمل المرء الكثير من المشاق لنشر الكتاب، وعندما يصدر في نهاية الأمر لا يقرأه سوى عدد محدود للغاية. فلا يوجد عائد يُذكر من هذا العمل، سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية".
جميع العاملين في مجال النشر، الذين تبادلت معهم الحديث أخبروني بالشيء ذاته، فالصعوبات التي تواجههم لنشر الكتب تتزايد بدرجة كبيرة، خاصة الكتب الجيدة؛ لأن الناشرين مضطرون إلى إصدار الكثير من الكتب التي تروج للقيم الاشتراكية وسياسات الحزب الحاكم، التي لا أعرف تحديدًا من يقرأها. ومن جانب آخر، فإن الإجراءات المطلوبة للحصول على التصاريح الخاصة بالنشر محبطة للغاية؛ حيث إن مكتبة أرشيف المنشورات الصينية لا تحدد قواعد واضحة يمكن أن يلتزم المرء بها، أو حتى يحاول الالتفاف حولها. وكثيرًا ما يُفاجأ المرء بالحصول على الموافقة كما قد يُفاجأ بالرفض.
ومنذ خريف العام الماضي، بل حتى قبل ذلك، بدأ يتضح تدريجيًّا أن مؤلفات الكُتاب الأمريكيين سوف تُوَاجَه بالرفض. ولم يكن أحد يعرف يقينًا ما إذا كان الأمر مُتعلقًا بالحرب التجارية الدائرة أم لا. لكن هذه العقبة مثلت ضربة كبيرة للعديد من الناشرين. فنصف عدد الكتب على الأقل التي اشترت دار نشر لوك حقوقها كانت لكُتاب أمريكيين. والآن، يبدو أن الوباء قد يكون القشة الأخيرة التي ستقصم ظهر البعير، خاصة مع انتشار الأخبار بأن بعض المحررين تعرضوا لتخفيض رواتبهم.
قالت لارا: "يحاول الجميع اسكتشاف مدى الحدود الآمنة التي يمكنهم التحرك داخلها، وهكذا تبدأ الرقابة الذاتية: فهذا الكتاب من الصعب أن يَمُرّ، وذاك سيتعرض للرفض في الغالب... وفي نهاية المطاف لا يقترب أحد من الكُتُب المثيرة للجدل. فما الهدف من صناعة النشر – إذنْ - لو وصلنا إلى هذا الحال؟ كل ما حدث هو أننا اعتدنا الأمر أكثر وأكثر، حتى بات كل شيء يبدو أمرًا طبيعيًّا. لقد سبق أن عرفنا الثمن الذي يتعين علينا أن ندفعه في حالة القيام بثورة".
ومع هذا، في اجتماع نهاية العام في 2019، تم إخبارها - هي وزملاء العمل - أن عددًا أقل من الكتب سيحوز الموافقة في العام القادم.
قالت لارا ضاحكة: "فلتحزري كيف أحاول الحفاظ على هدوء أعصابي؟ لقد بدأت أتدرب على تحسين الخط. لكنني كلما كتبت أكثر ازداد غضبي. لا أعرف لماذا!".
عوضًا عن ذلك، لجأت إلى التسوق عبر الإنترنت. فمن السهل أن يستسلم المرء لحُمَّى الاستهلاك في الصين، والمدفوعة للشراء عبر الإنترنت. في البداية، أبدت صناعة الكتاب الحذر والتردد في الانضمام إلى هذه اللعبة. لكن الوباء الذي تفشى لم يترك لهم خيارًا آخر. فتبعًا لمسح قومي شمل 1021 مكتبة، بحلول الخامس من فبراير كانت 90.7% من المكتبات قد أغلقت أبوابها، وأعلنت أكثر من 99% من المكتبات أن عائداتها انخفضت عن المعتاد. وفي التاسع من مارس، انضم إلى "زو زايوان" خمسة آخرون من مُلَّاك المكتبات المستقلة في أول بث حي لهم - عبر الإنترنت - "للدفاع عن المكتبات المستقلة". ولم يتضح بَعْدُ ما إذا كانت مواقع التسوق الافتراضية – وهي العدو الذي صار صديقًا - ستساعد صناعة الكتاب بالفعل، أم لا.
لقد لاحظت أن كُلَّ المشاكل التي تحدثنا بشأنها لم تكن جديدة، إذْ كُنا نستشعرها في أوقات الرخاء، لكننا اخترنا أن نَغُضَّ الطرف عنها، حتى هدد الوباء المتفشي بدفع الصناعة - الهشة بالفعل - لتسقط عبر الهاوية، ولم يعد بوسعنا تجاهل الأمر. فمنذ عدة أيام، قررت أخيرًا أن أكشف عن جذور النبات الذي أقتنيه، واكتشفت أنها مصابة بالفعل كما توقعت. أزلت كل الجذور المتضررة، وأعدت زراعتها في تربة جديدة. من الواضح أن ما يتسبب في الموت البطيء لصناعة النشر في الصين شيء آخر غير الفيروس. وكما قال زو: "كل كارثة ما هي إلَّا لحظة سانحة للصدق؛ فهي تكشف كل مشاكلنا التي نعاني منها، وكيف يتعامل معها النظام والعاملون في ذلك المجال".
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020