السبت 23 نوفمبر 2024

فن

محمد زهران يكتب: الذكاء الاصطناعي والتسعة الكبار

  • 15-10-2020 | 21:23

طباعة

بقلم دكتور محمد زهران

أستاذ علوم الكمبيوتر بجامعة نيويورك


في السنوات العشر الأخيرة انتشر مصطلح "الذكاء الاصطناعي" انتشار النار في الهشيم، وأصبح الكل يتكلم فيه ويُدلي بدلوه بعلم وبغير علم، وأصبحت الشركات والحكومات في العالم كله تريد إدخال تلك التكنولوجيا في كل شيء.

هناك عدة أشياء قد تكون مفاجئة لبعض القراء: أولًا، الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم الحاسبات، ظهر في خمسينيات القرن الماضي، فهو ليس وليد العقد الحالي. ثانيًا، الذكاء الاصطناعي لا يَصْلُحُ لكل شيء، بمعنى أنه ليس الحل السحري لكل المشكلات، وإنما هو نوع من التكنولوجيا وُجدت لتحل أنواعًا معينة من المشكلات. ثالثًا، هي تكنولوجيا اعتمدت أساسًا في البداية على طريقة شديدة التبسيط لعمل المخ البشري، ثم تطورت بعد ذلك لتصبح تكنولوجيا مختلفة، وازداد التباين بينها وبين المخ الإنساني، مع العلم أننا – إلى حدٍ كبير - لا نعلم كيفية عمل المخ البشري حتى الآن في كثير من عملياته.

لكن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في ازدياد مستمر، وهناك شركات كبيرة وصغيرة ومعامل أبحاث تعمل في تطوير تلك التكنولوجيا، وهنا نبدأ حديثنا عن كتاب "التسعة الكبار" من تأليف إيمي وب.


إيمي وب تُدَرِّسُ في كلية الأعمال (Business School) بجامعة نيويورك، وتخصصها عن المستقبليات والتنبؤ بتطور التكنولوجيات وتأثيرها على الشركات والحكومات والعالم ككل. 

صدر هذا الكتاب العام الماضي (2019)، وهو يتكلم عن أكبر تسع شركات تعمل على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: ست شركات في أمريكا وثلاثة في الصين.

الشركات الأمريكية هي: فيسبوك وجوجل وآي بي إم ومايكروسوفت وأمازون وآبل، والشركات الصينية هي: علي بابا وتنسنت وبايدو.


أقول – بصدق - إنني استمتعت جدًّا بقراءة هذا الكتاب، ورغم أنه مُوَجَّهٌ للعامة، لكنه لم يأتِ على حساب الدقة العلمية، وفي الوقت نفسه لم تأتِ الدقة العلمية على حساب الكتابة الشيقة، حيث يبدأ الكتاب بتاريخ نشأة علم الذكاء الاصطناعي، وكيف تطور؟ وكيف ضخّمت الصحافة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من قدرات الذكاء الاصطناعي، وما يمكن أن ينجزه في مختلف مجالات الحياة. وكان ذلك إيذانًا ببدء ربيع هذا العلم، حيث انهالت أموال التمويل من الحكومات ورجال الأعمال على الباحثين في المعامل والشركات التي تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي. 

مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بات واضحًا أن الوعود كانت مبالغًا فيها جدًا، وأن أغلبها كان فبركات صحفية، أو كما نقول بلغة اليوم "توابل صحفية". وهنا بدأ خريف هذا العلم، حيث نضبت أموال التمويل وقَلَّ الاهتمام بالذكاء الاصطناعي، واستمر هذا الخريف قرابة عقدين، حتى بدأ الربيع الثاني مع بدايات القرن الحادي والعشرين.


بعد هذه المقدمة التاريخية الجميلة، ينتقل الكتاب من الماضي إلى الحاضر، حيث يُلقي الضوء على الأبحاث الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي. إن ما نراه اليوم هو "ذكاء خاص"(special intelligence) للكمبيوتر، بمعنى وجود برنامج ذكي يلعب الشطرنج مثلًا، أو يشخص مرضًا ما، لكنه لا يستطيع فعل أي شيء آخر. وهذا بخلاف الذكاء العام (general intelligence) الذي يمتلكه البشر، حيث نكتسب خبرات ونستخدمها في مواقف مختلفة، وهو ما لم تصل إليه قدرات الذكاء الاصطناعي بعد.


عندما يُذكر الذكاء الاصطناعي في عصرنا هذا فغالبًا ما يُقصد به نوع معين من البرمجيات، يُسَمَّى بتعليم الآلة (machine learning)، وهو إعطاء الكمبيوتر أمثلة من مشكلة معينة وحلولها، فيتعلم الكمبيوتر تلك الأمثلة، وعندما يواجه مثالًا مختلفًا - لكن من نفس نوع المشكلة - فإنه يستطيع حلها. يشبه ذلك ما يحدث مع الطالب في المدرسة، حيث يتمرن في مادة الرياضيات مثلًا على نوع معين من المسائل، حتى إذا صادف في الامتحان مسألة شبيهة - لكن بأرقام مختلفة - سيستطيع حلها. ومن أمثلة تعليم الآلة أن نعطي الكمبيوتر صورًا كثيرةً لأشعة على الصدر، ومع كل صورة نعطيه معلومة إذا كان المريض صاحب الأشعة مصابًا بالسرطان مثلًا أم لا، بعد ذلك عندما تُعرض على الكمبيوتر أشعة مريض جديد سيستطيع - وبدقة عالية - تشخيص إذا ما كان هذا الشخص مريضًا بالسرطان.

هناك عدة أنواع أخرى من برمجيات تعليم الآلة، وما زالت تتطور، وإن كانت كلها تدور في فلك الذكاء الخاص وليس العام، فالكمبيوتر الذي تم تمرينه على تشخيص مرض السرطان لن يستطيع تشخيص الالتهاب الرئوي مثلًا.


بخصوص هذه المعلومات أو الأمثلة التي يتم بها تدريب أو تعليم الآلة، تثير الكاتبة نقطة هامة في هذا الكتاب بسؤال: من الذي يختارها؟ تلاحظ إيمي وب أن أغلب الباحثين من نفس النوع - وهو الرجل الأبيض – ومن ثَمَّ لا يوجد تنوع كبير في الفرق البحثية، وسيترتب على ذلك وجود تحيز كبير في الأمثلة. قد يكون مثال مريض السرطان ليس هو الأفضل لتوضيح تلك النقطة. لنأخذ مثالًا آخر: تدريب الكمبيوتر على التنبؤ إذا ما كان المتهم سيعود إلى السرقة مرة أخرى بعد الإفراج عنه أم لا، أو استخدام الكمبيوتر لتحديد مرتبات العاملين في الشركات وترقيتهم مثلًا. إذا كان هناك تحيز من المجموعة التي تدرب الكمبيوتر عن طريق الأمثلة فالنتائج لن تكون في صالح الرجل الأسود في مثال السرقة، وليست في صالح المرأة في مثال المرتب والترقية. 

المشكلة الأخرى التي أثارتها إيمي وب هي الصراع على أبحاث الذكاء الاصطناعي بين أمريكا والصين. الصين تتبنى استراتيجية متكاملة، فالشركات الصينية الثلاث الكبرى التي ذكرناها - من مجموعة التسعة الكبار في العالم - تخضع خضوعًا تامًّا للحكومة الصينية، وعندها أوامر تحدد أنواع الأبحاث التي تعمل عليها بحيث تتكامل نتائجها. بعكس الشركات الأمريكية التي تعيش في مجتمع رأسمالي حُرّ، وتُترك الشركات تتصارع فيما بينها تبعًا لاقتصاديات السوق، وهذه نقطة ليست في صالح أمريكا.

النقطة الأخرى التي ليست في صالح أمريكا هي توافر المعلومات التي تُستخدم كأمثلة لتعليم الآلة. ففي أمريكا هناك قيود على استخدام معلومات المواطنين - مثل المعلومات الطبية وما شابه - وذلك لحماية الخصوصية. هذه القيود لا توجد في الصين، مما يُعطي شركاتها الثلاث الكبرى معلومات ضخمة تمتلكها الحكومة عن مليار ونصف مليار شخص، تستعملها في تدريب برمجياتها. وحيث إن جودة برمجيات الذكاء الاصطناعي تأتي من جودة المعلومات المستخدمة في التدريب، فهذه نقطة أخرى في صالح الصين.

نقطة ثالثة أيضًا في صالح الصين، وهي إدخال تدريس الذكاء الاصطناعي إلى المدارس، وتدريب كوادر من المدرسين مؤهلين لتدريس هذا العالم للصغار، لم تصل أمريكا إلى ذلك بعد، أو على الأقل لا توجد استراتيجية مُوَحَّدَة للدولة في هذا المجال.

في النهاية، ترسم إيمي وب سيناريوهات للمستقبل في ضوء هذا الصراع بين أمريكا والصين، متمثلًا في الشركات التسع الكبار، وفي بعض هذه السيناريوهات تسيطر الصين على العالم، مما جعل الكاتبة الأمريكية تطلق تدق نواقيس الخطر.


والآن عزيزي القارئ ماذا تفضل؟ أن تفوز الصين أم أمريكا؟ هل يجب أن نكتفي في مصر بمقعد المتفرج؟ أم أننا نستطيع فعل شيء؟ أين اليابان من ذلك كله؟ وماذا عن أوربا؟ هذه الأسئلة لم تُطرح في كتاب إيمي وب، ولكني أطرحها الآن، ولعلنا نحاول الإجابة عنها في مقال آخر.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة