الخميس 13 يونيو 2024

نسيم الحرية من قلب السجن.. مبدعون في الزنزانة

فن16-10-2020 | 09:50

عذرا فقد يصدمك هذا الرأي.. فإن الإبداع الأصيل تزيده أسوار السجن عمقا، وقد يجد المبدع في الزنزانة الضيقة متسعا لا يجده في براح الحياة.

لن ندخل في مجادلات حول معاني وتعريفات الحرية، ولكن الأفضل من البحث عن تعريف للحرية، أن تمارسها كما تشعر بها في ظل مسئوليتك التى تكونها بنفسك لتحولها من مرحلة العبث، إلى قيمة عملية يمكن أن تطلق عليها "الإبداع"،تجدك فيها موصولا بنفسك، فتخرج بقيمة تشعرك بالاعتزاز بفعلك، ولعل مثل هذا العمل الحر لا تهيئ له الحياة اليومية بكل تكاليفها السخيفة الأجواء المناسبة، فتجدك طالبا العزلة عن ما حولك، ليختمر في يقينك ما أردت أن تخرجه بإبداعك.

إذن فالحرية بدايتها تكمن هناك في الشعور الباطني لديك، وتلح في الخروج في العملية الإبداعية في أجواء خاصة نعتبرها بمثابة الحاضنة للفعل الإبداعي، وهي العزلة التى قد تأتي طوعا بالإرادة الحرة، أو تأتى كرها بالإجبار على العزلة.

والعزلة القهرية تتعدد أشكالها، فيمكن أن تكون مرضا بدنيا، أو معاناة نفسية، أو غربة مكانية، أو حضارية، وتشكل تحديا للإرادة الحرة، فتستفز فيها الرغبة في الإبداع للتعبير عن التجربة.

كما تتبدى العزلة القهرية في السجن - وهو ألد أعداء الحرية - لأنه عملية قهر من فعل الإنسان، وهو عزلة جبرية تشعر السجين بأنه يخضع لقاعدة مفروضة عليه فرضًا وبصرامة، وإجبار، لتغيير السلوك، أو المعتقد، وجزاء لفعل ما صدر رآه المجتمع مخالفا لقواعد سلوكه، ومعتقداته، وهو في كل الأحوال عقوبة بدنية يرى الإنسان فيها نفسه مقيد الحركة خاضعا لأوامر سلطة السجن.

لكن هل يخنق السجن الحرية ؟!

قد يبدو السؤال غريبا بل مضحكا، ذلك لأننا لدينا اعتقادًا مسبقًا بأن السجن نقيض الحرية، لماذا؟ ..

هل لأن السجن تقييد للحرية ؟!

بالطبع، فتقييد الحرية قتل لها، ولذا فلا يصلح السجن إلا أن يكون نقيضا لها،غير أنك لو أمعنت النظر في هذين المعنيين "النقيض والقيد" ستجد هناك فارقا كبيرا، فالنقيض هو النفي، إنما القيد هو التحدي، وهذا هو الاختبار الحقيقي للحرية في السجن.

فلو حقق السجن الغرض منه بقتل الحرية بنفيها أو الإجبار على الكفر بها داخل الإنسان، فحينئذ قد سقط هذا الإنسان في الاختبار، وفقد حريته، وحقق ما أُريد به في السجن، أما لو كان قيدا، فهو اختبار للإرادة الإنسانية المنفذة للحرية بالتغلب على القيد بالإبداع.

"حرية السجين وقيد السجان"

تأمل معي هذا المثل الذي ضربه فيلسوف الحرية جان بول سارتر "1905- 1980" عن "السجين الحر" داخل زنزانته بينما يقف السجان أمام الباب لحراسته.. أيهما حر؟!

هناك في داخل الزنزانة يجد السجين نفسه مستسلما لمصيره بين أربعة جدران، ونافذة ضيقة، وباب موصد، لكن هذا الاستسلام للمصير قد أزاح عنه القلق، فلم يعد هناك ثمة ما يخاف عليه، فهو في زنزانته الأكثر أمنا، بل والأكثر حرية، فالسجان هو المقيد الحركة في بضع خطوات خارج الزنزانة، والسجين هو شغله الشاغل والذي استولى على كل اهتمامه فأصبح همة الأكبر الذي جعله لا يفكر في شيء سوى حاسته.

أما السجين نفسه فلا يكاد يهتم بأمر السجان ولا يشغل نفسه به، فيصير أكثر حرية منه، بل يتحول ضيق الزنزانة إلى براح لا نهائي عندما يطلق خياله الذي تفرغ لمهمة الإبداع، حينئذ سيكسب السجين التحدى ويصير حرا بممارسة عملية فعل الحرية في حراسة السجان.

تلك الممارسة العملية إبداع السجين لأن الإبداع الحر لا تقف دونه أسوار، ولا يوقفه قيد، فالأسوار جُعلت لتقييد الحركة الجسدية، ولكنها لم تستطع أي سلطة أن تخترع سجنا للأفكار.

وبالطبع لن يتسع المقام هنا لسرد أسماء المبدعين، لكننا لم نجد السجن وقف أمام المبدع الحقيقي، فالأفكار تتفرخ في السجن وما تلبث أن تشب فتطير خارج أسواره إلى أقصى البراح.

لعل أشهر سجين تاريخي هو نبي الله يوسف بن يعقوب، فلم يمنعه السجن الذي ارتجاه هربا من إغراء مجتمع الخطيئة "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"  من أن يبلغ دعوته إلى التوحيد "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ".

لم تقف أسوار السجن حائلا دون أن يقضي بعلمه في قصة تأويل رؤييّ الفتيين، كذلك لم يقف السجن وحكم الإعدام أمام أفكار سقراط أشهر الفلاسفة في كل العصور، وبقي سقراط وأفكاره ذكرا خالدا في سماء الفكر والإبداع.

شهد السجن وفاة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بينما عاش فقهه حتى يومنا هذا حرا طليقا، والسجن لم يقف حائلا دون بلوغ دعوة الإمام أحمد بن حنبل في مواجهة محاولة فرض فكرة خلق القرآن التى تبناها الخليفة المأمون.

ومساجين التاريخ الإسلامي الذين قُيدت حركتهم الجسدية،  "ابن سينا والبيروني وابن تيمية وابن القيم والمتنبي وأبو فراس الحمداني"، خرجت أفكارهم على اختلاف مشاربهم وتنوعها، لتنتشر ويكون لهم أتباع، وذاعت إبداعات الشعراء الذين تعرضوا للسجن، بل منهم من أبدع أفضل إنتاجه الفكري والأدبي داخل، أو بسبب، أو بعد السجن.

فإذن قفزنا فوق العصور والأماكن نجد الفرنسي فولتير السجين بأمر السلطات الملكية يكتب في سجنه رائعته المسماة بـ"الهنرياد" التى يؤرخ بها كفاتحة لعهد التنوير الفرنسي.

وفي زنزانته كتب سرفانتس الإسباني "دون كيشوت" لتخرج من بين أسوار السجن كواحدة من لآلئ الأدب العالمي.

كانت تجربة السجن كذلك في حياة البندقي "ماركو بولو والإنجليزي "دانيل ديفو"، والأديب الإيرلندي أوسكار وايلد، أبدع أعمالا في سجنه اعتبرها النقاد من دُرَر أعماله وخاصة "رقصة السجان"؛ ثم سارتر الذي قدما به هذا المقال، كانت له تجربة في السجن في الأعوام الأولى للحرب العالمية الثانية، وكان سارتر يمارس حياته في السجن، ويقرأ، ويكتب، ويبدع ويلعب الملاكمة، ويستمتع بوقته حتى تم الإفراج عنه.

أما إذا انتقلنا إلى الهند فسنجد زعيمها رمز السلام والحرية المهاتما غاندي الذي عانى السجن على يد الاحتلال البريطاني مرتين في جنوب أفريقيا وفي الهند، كذلك تلميذه ومكمل رحلة كفاحه جواهر لال نهرو الذي أبدع في سجنه الطويل "عشر سنوات" وتبادل الرسائل مع ابنته أنديرا في سلسلة من أشهر مراسلات التاريخ، كما كتب كتابه الشهير "نظرة على تاريخ العالم"

ولعل كلمات نهرو تؤيد ما نذهب إليه إذ كتب يوما في السجن "إن لحياة السجن فوائد لأنها تهيئ جزءا من الراحة والعزلة، فمنذ اثني عشر عاما حينما بدأت مع عدد كبير من المواطنين والمواطنات الحجّ إلى السجون، نمت عندي عادة كتابة الملاحظات حول الكتب التي اقرؤها، وتكاثرت هذه الملاحظات، وكانت أكبر عون لي يوم شرعت في أن أكتب".

"فرصة ذهبية للسجن"

وهناك رأي للعقاد ذكره لرواد صالونه الشهير حسب رواية أنيس منصور، بأن السجن يعتبر فرصة ليلتقط الكاتب أنفاسه ويخلد إلى الراحة من روتين الحياة اليومية، وهو انقطاع يحتاج إليه الإنسان عامة، والمبدع خاصة، والعقاد يمثل ذلك بما يحدث للإنسان أحيانا عندما يتمرد عليه جسمه ليسلمه للمرض كي يرغمه على الراحة حتى حين.

والعقاد له تجربة فريدة وشهيرة في السجن في عام 1930 بعد الحكم عليه بالسجن 9 أشهر

لبثت في السجن تسعة أشــــــــهر    وها أنا ذا في ساحة الخلد أولد

ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا       وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد

وما أقعدت لي ظلمة السجن عزمة     ففي كل ليل حين يغشاك مرقد

وما غيبتني ظلمة السجن عن سني    من الرأي يتلو فرقدا منه فرقد

عداتي وصحبي لا اختلاف عليهما    سيعهد في كل كما كان يعـهد

تلك أبيات في مطلع قصيدة أنشدها أمام قبر سعد زغلول عقب خروجه من السجن، وما كان لمفكر عملاق مثل العقاد أن يفوت فرصة فلا يكتب عن تجربته في السجن، فألف كتابه عنها بعنوان "عالم السدود والقيود" وجاء في مقدمته: "هذه الصفحات خلاصة ما رأيته وأحسسته، وفكرت فيه يوم كنت أنزل "عالم السدود والقيود"، وأشعر ذلك الشعور وأنظر إلى العالم من ورائه ذلك النظر، لست أعنى بها أن تكون قصة، وأن كانت تشبه القصة فى سرد حوادث ووصف شخوص، ولست أعنى بها أن تكون بحثا فى الإصلاح الاجتماعى وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لى من وجوه ذلك الإصلاح، ولست أعنى بها أن تكون رحلة، وان كانت الرحلة فى كل شيء".

وذكر الكاتب محمد التابعي أن على باشا ماهر وزير الحقانية آنذاك زار العقاد في سجنه فاستقبله بكل تجاهل حتى أنه لم يعتدل من رقدته على سريره عندما ولج الوزير إلى زنزانته، بل وضع في وجه الوزير ساقا على ساق، فقال علي ماهر تعليقا على ما حدث كلمة لعلها تلخص موقف المبدع عندما يكون حرا داخل سجنه : "سيستمر ثابتاً على مبادئه ولم يزده السجن إلا صلابة وقوة ونضالا".

إنه موقف حر من كاتب حر كان أفضل موضع لإثبات الحرية هو السجن.

"اسجنوا الفاجومي"

"يا نسيم السجن ميل ع العتب و ارمي السلام

زهر النوار وعشش في الزنازين... الحمام

من سكون السجن صوتي.. نبض قلبي من تابوتي

بيقولولك يا حبيبتي

كلمتي من بطن حوتي".

وربما لو تأملنا حال بعض مشاهير الأدب الذين جربوا السجن، نجد أنهم يحملون حنينا على أيام السجن، ولعل أشهرهم كان شاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم الذي نال شهرته بسبب جرأة أشعاره المزدوجة الطلقات في اللغة، والموضوع، فتم سجنه في كل العهود ودخل الزنازين مرارا حتى صارت أحلى ذكريات عمره في السجون، لكنه حول تجاربه مع السجون إلى عقد ماسي من الأشعار التى ذاعت في طول وعرض مصر، بل وتجاوزتها إلى العالم العربي، خاصة مع رفيق رحلة عمره الشيخ إمام الذي شاركه أيضا تجربة السجن عدة مرات.

بل يمكن أن نعتبر تجربة نجم الدليل الدامغ على أن الحرية يمكن أن تتحقق وراء جدران السجن، ويمكن أن تتحول ذكريات الزنزانة إلى تجارب إبداعية، وخطى نجم أولى خطواته نحو الشهرة من داخل سجنه في الستينيات، حيث ألقى قصائده على مسرح السجن، وكتب في مجلة الحائط حتى نال إعجاب الجميع وهو في داخل السجن، وذلك بعد أن قيض الله له ضابطا مثقفا عاشقا للأدب، والشعر، هو الرائد سمير قلادة، الذي شجعه على الشعر، وزوده بالأوراق، والأقلام، ليكتب أشعاره ثم نقل الرائد سمير بنفسه القصائد ليكتبها على الآلة الكاتبة، بل واستأذن اللواء إبراهيم عزت مدير سجن "قرة ميدان" ليرسل بمجموعة القصائد إلى وزارة الثقافة، فسمح باشتراك نجم في مسابقة "الكتاب الأول" التى تنظمها الوزارة وصدر ديوان نجم بعنوان "صور من الحياة والسجن" وكتبت الكاتبة الكبيرة د. سهير القلماوي مقدمة الديوان الذي تصدره إهداء من الفاجومي أحمد فؤاد نجم إلى الضابط ..

"فنان وتعطف ع الفنان

ولك أيادٍ ومآثر

ولك حكاية في كل مكان

يا صورة من عبد الناصر"

هذا مع أن الفاجومي قد قضى سنوات عديدة في السجن على فترات متقطعة في عهد عبد الناصر، لكن لم يحُل ذلك دون حب نجم لعبد الناصر تمسكا بالمبدأ لأنه آمن بما آمن به عبد الناصر، تماما كما لم يحُل السجن بينه وبين حرية إبداعه، ذلك لأن الإبداع الأصيل لا يكون بدون قيود، بل يكون رغم القيود.

قلنا إنه يصعب الحصر، وما نذكره هنا من أسماء السجناء الأحرار المبدعين، وما ذكرناه، أمثلة فقط من الذين حولوا السجن إلى تجربة عظيمة، وتسلقت الحرية الأسوار عبر سُلّم الإبداع.