الثلاثاء 21 مايو 2024

سجون أخرى.. ألا يُعد النفي والاختباء والاختفاء سجوناً؟!

فن16-10-2020 | 10:09

يعود تاريخ السجون إلى العصور القديمة، وقد تصعب معرفة بدايتها أو نشأتها. فهى قديمة إلى درجة أنها قد ذكرت فى القرآن الكريم فى إشارة إلى سجن النبى يوسف عليه السلام، كما أن السجون وردت فى التوراة والعهد القديم على أنها كانت موجودة فى القدس منذ عصر النبى موسى عليه السلام وما قبل ذلك. ويعتقد كثير من المؤرخين بأن الفراعنة كانوا أول من توصل لفكرة السجون والحبس كوسيلة للتحفظ على المذنب حتى يتم الحكم بأمره.

أصل لزماننا. والسجون نوعان. نوع يحدد بل ويقمع حرية المسجون بأسوار وأبواب وأدوات أخرى كثيرة. وإن كانت سجون العصر الحديث يوضع فيها الإنسان بموجب حكم قضائى صادر من محكمة. أما سجون الزمن القديم حتى العصور الوسطى ومقدمات العصر الحديث. فكانت تتم بقرار أو فرمان أو إشارة من الحاكم. فلا سلطة غير سلطته. ولا صاحب قرار سواه.

السجن المعنوى حكاية أخرى. فليس كل من تراه يمشى فى الشارع حراً. هناك من يسجن نفسه بفكرة. ومن يسجنه الآخرين ويجلدونه وراء تصور يصرون عليه. ثم إن العصور الحديثة عرفت المنفى. ألا يعد المنفى سجناً بشكل من الأشكال؟ لأنه يقوم على فكرة إبعاد الإنسان عن وطنه. والإنسان الذى ارتبط بأرض وأهل وناس وذكريات. عندما تحرمه من كل هذا، ربما تكون قد حكمت عليه بالموت.

ثم إننا تستعبدنا فى الحياة عادات وتقاليد استعباداً يجعلنا يمكن أن نسميها سجوناً. لأنها تحدد للإنسان أطراً وخطوط حمراء لا يمكنه تجاوزها مهما كانت الظروف. وهذا ما يمكن أن يجعل منها سجناً. الغريب أن الإنسان عندما يمارس عبوديته تجاه هذه الأمور التى ربما يكون هو الذى غرسها فى نفسه. أو رسم لنفسه من خلالها أطراً لحياته. فإنه لا يشعر بالسجن. ولا يقر فى أى لحظة بأنه مسجون. على الرغم من أنه فعلاً وقولاً مسجون. وأنه هو السجان وصاحب السجن ومن بيده مفاتيح السجن.

ثم إن الاختباء والاختفاء القسرى الذى يضطر له الإنسان هروباً من سلطة تريد إلقاء القبض عليه. ألا يعد سجناً؟ المنفى عرفناه مع أحمد عرابى " ميلاده31 مارس 1841، هرية رزنة الشرقية، ووفاته 21 سبتمبر 1911 فى القاهرة. وهى نفس السنة التى ولد فيها نجيب محفوظ. عند عودة عرابى من المنفى جرى استقباله أسوأ استقبل من بعض رموز النخبة المصرية فى ذلك الوقت. وكتب شوقى قصيدته الشهيرة التى قال فيها:

صغار فى الذهاب وفى الإياب/ هذا كل شأنك يا عرابى.

حتى وفاته كانت محزنة. مع أن الوفاة حق. فكتب التاريخ تقول أنه بعد أن صلى صلاة الجمعة فى مسجد السيدة زينب. وأثناء عودته إلى منزله، بصق عليه أحد المارة ناعتاً إياه بأنه السبب فى الإحتلال الإنجليزى الذى كانت ترزح مصر تحت نيره فى ذلك الوقت.

حكاية عرابى تستحق التوقف أمامها. لأن المنفى فيها ربما كان أكثر قسوة من السجن. فبعد انكسار الثورة العرابية، نفى وزميله محمود سامى البارودى إلى سريلانكا سيلان سابقاً. حيث استقروا بمدينة كولمبو لمدة 7 سنوات. بعد ذلك نقل أحمد عرابى ومحمود سامى البارودى إلى مدينة كاندى بذريعة خلافات دبت بين رفاق الثورة. عاد أحمد عرابى من المنفى بعد عشرين عاماً وسبقه محمود سامى البارودى الذى عاد بعد 18 عاماً. من أجل إصابته بالعمى من شدة التعذيب وسوء صحته. لدى عودته من المنفى، أحضر أحمد عرابى شجرة المانجو إلى مصر لأول مرة.

والاختفاء الذى يساوى السجن تجربة مريرة عاشها خطيب الثورة العربية عبد الله النديم "ولد فى قرية طيبة 1842، ومات فى الأستانة 1896". وقد هرب بعد انكسار الثورة. قرأنا تفاصيل هروبه فى الرواية الجميلة التى كتبها محمد أبو المعاطى أبو النجا: العودة إلى المنفى. وصدرت فى جزأين عن روايات الهلال.

اختفى عبد الله النديم وسط الشعب المصرى. سنوات وسنوات. إلى أن وشى به أحد أهالى قرية لجأ إليها ليكمل الاختباء بها. ومن وشى بها يوشك أن يكون فرداً. لا يمت للمصريين بصلة. لأن المصريين مكنوه من الاختباء والاختفاء وتستروا عليه سنوات. مع علمهم بأنه مطلوب القبض عليه من قبل السلطة الإنجليزية المحتلة.

ورغم ضخامة المبلغ الذى رصدته السلطات لمن يدل على مكان عبد النديم. إلا أن المصريين جميعاً رفضوا إغراء المال. وكون واحد منهم ضعيف النفس.لا ينسحب ضعف نفسه على الآخرين من شعب مصر، الذين ابتلعوا عبد الله النديم وتستروا عليه ومكنوه أن يعيش حياته. وأن يكتب أعماله الأدبية أثناء الاختفاء. فقد ترك لنا سبعة آلاف من أبيات الشعر العربى وروايتين. كتبهما وهو مختبئ من سلطة تبحث عنه بكل الطرق الممكنة، وحتى غير الممكنة. نفى عبد الله النديم بعد أن حُبِس وأطلق سراحه. نفوه أول مرة إلى يافا. وإلى المرة الثانية إلى الأستانة التى بقى بها إلى أن لقى وجه ربه.

ومحمد فريد حكاية أخرى، قُدِّم للمحاكمة بسبب مقدمة كتبها لديوان شعر بعنوان "أثر الشعر فى تربية الأمم"، قال فيها: "لقد كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد القضاء على الشعر الحماسى، وحمل الشعراء بالعطايا والمنح على وضع قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء وابتعادهم عن كل ما يربى النفوس ويغرس فيها حب الحرية والاستقلال. كما كان من نتائج هذا الاستبداد خلو خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع، حتى أصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد فى الدنيا، والحض على الكسل وانتظار الرزق بلا سعى ولا عمل.

ذهب محمد فريد إلى أوروبا كي يُعد لمؤتمر لبحث المسألة المصرية بباريس، وأنفق عليه من جيبه الخاص كى يدعو إليه كبار معارضى الاستعمار من الساسة والنواب والزعماء، لإيصال صوت القضية المصرية إلى المحافل الدولية. نصحه أصدقاؤه بعدم العودة بسبب نية الحكومة محاكمته بدعوة ما كتبه كمقدمة للديوان الشعرى. ولكن إبنته فريدة ناشدته على العكس بالعودة، فى خطابها الذى مما جاء فيه:

- "لنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم. وأختم جوابى بالتوسل إليكم بإسم الوطنية والحرية التى تضحون بكل عزيز فى سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن.

حُكم على محمد فريد بالسجن ستة أشهر، قضاها جميعاً، ولدى خروجه من السجن كتب:

- مضى علىَّ ستة أشهر فى غيابات السجن، ولم أشعر أبداً بالضيق إلا عند اقتراب خروجى، لعلمى أنى خارج إلى سجن آخر، وهو سجن الأمة المصرية، الذى تحده سلطة الفرد. ويحرسه الاحتلال. أن أصبح مهدداً بقانون المطبوعات، ومحكمة الجنايات. محروماً من الضمانات التى منحها القانون العام للقتلة وقطاع الطرق.

سعد زغلول، قصة معروفة. "ميلاده يوليو 1857 قرية إبيانة مركز فوه كفر الشيخ – ووفاته 23/8/1927 بالقاهرة". وتستعد مصر الآن للاحتفال بمرور قرن من الزمان على أحداث ثورة 1919، التى كان بطلها سعد زغلول. وقد أطلقت شرارتها عندما تم القبض عليه ورفاقه الذين ذهبوا يطلبون إذناً من المندوب السامى البريطانى لكى يسافروا إلى باريس لعرض قضية مصر هناك.

وبدلاً من السماح لهم بالسفر. تم إلقاء القبض عليهم ونفيهم خارج البلاد. ولم يعودوا من المنفى إلا خلال أحداث ثورة 1919، التى اندلعت يوم الأحد 9 مارس 1919، واضطر الاحتلال البريطانى للإفراج عن سعد ورفاقه. لكن الثورة استمرت أحداثها رغم انتهاء نفى سعد زغلول وعودته. وظلت تندلع بين الحين والآخر حتى سنة 1922.