الأربعاء 29 مايو 2024

"ألوانى".. والإيقاعات المتعددة لـ عفت بركات

فن16-10-2020 | 13:15

يقول برتر أندرسل: "إذا أردت أن تعرف مدى وضوح نظرية فاحكها للطفل"، وتقول مساروا إيبوكا: "علينا استعمال كل مخيلتنا لنرى العالم كما يراه الطفل" والكتابة الشعرية للأطفال هى أصعب أنواع الكتابة على الإطلاق، وهى القادرة على تحريك عقل ومخيلة الطفل، عبر لغة بسيطة مكثفة ومعبرة عن الفكرة التى يريد أن يوصلها الشاعر للطفل فى المرحلة العمرية التى يتوجه لها بالكتابة، مرتكزا على صور شعرية جميلة وناعمة، ذات إيقاع سريع، وجاذب لأذن ومخيلة الطفل المتلقى.

ويأتى ديوان "ألوانى" للشاعرة عفت بركات الصادر مؤخرا فى سلسلة "كتاب قطر الندى" وبرسوم رائعة للفنان: ناصر حامد، ليعبر عن عالم الطفل الثرى خير تعبير، بما يحمل من مقومات الايجادة والموهبة البادية والمنسربة بين قصائده.

"وعفت بركات" شاعرة وكاتبة للأطفال، اهتمت منذ سنوات بكل ما يمت لعالم الطفولة بصلة، فكتبت لهم الشعر والقصة والمسرح، وأقامت  لهم العديد من ورش الحكى والكتابة من خلال الرسوم، بل أخرجت لهم بعض التجارب المسرحية، وأجرت معهم بعض الحوارات من خلال مجلة قطر الندى، علاوة على دورها التربوى الذى تمارسه مع التلاميذ من خلال الفن والأدب فى المدرسة باعتبارها إحدى المعلمات بمدينة الإسكندرية، وقد أصدرت عفت العديد من الإصدارات الشعرية والقصصية للأطفال، منها:

وبداية من عنوان الديوان "ألوانى" وهو عنوان جاذب للطفل، يسهل حفظه وتذكره لأنه مكون من كلمة واحدة، وشعور الطفل بحميمية تجاهه لكونه يشعر أنها ألوانه الخاصة، ولأن الألوان من الأشياء التى تلتصق بالطفل منذ بواكير حياته حيث تجذب نظره وثير مشاعره ووجدانه، فتمثل له قيمة بصرية ومعنوية، فالعنوان فى قصيدة الطفل هو عتبة انتباهه للنص، وتكوين رأى مسبق عما سيأتى فى القصيدة من خلال ما استقرأه من العنوان.

يحتوى الديوان على تسع قصائد قصيرة ومتوسطة الطول، وهى: "أجمل كتب"، "فرشاتى"، "علبة ألوانى"، زهرتى"، "الطائرة الورقية"، "هس هس"، "حذائى"، "هاتفنا يرن"، "شهر الصوم"، وبنظرة سريعة على هذه العناوين، نجد أن معظمها من أدوات الطفل الشخصية التى يستخدمها فى حياته اليومية، علاوة على الحميمية التى تحدثها ياء النسب فى كل من "فرشاتى، علبة ألوانى، زهرتى، حذائى" وهى تنم عن أن هذه القصائد مكتوبة لأطفال المرحلة العمرية من (6: 9) سنوات، وهى مرحلة الخيال المنطلق.

أكثر ما يميز قصيدة الطفل هو الإيقاع، وهو فى الحقيقة ليس إيقاعا واحدا بل هو مجموعة إيقاعات، فمنها "إيقاع اللغة"، "إيقاع القافية"، "إيقاع التشكيل البصرى"، "إيقاع قصر النص"، "، "إيقاع التعدد الصوتى".. إلخ.

(1)           إيقاع اللغة:

ولكل مرحلة عمرية لها قاموس لغوى يناسبها، "فعلى مستوى المفردة يجب أن تكون واضحة رشيقة خفيفة الوقع، سهلة النطق، وفى متناول تأويل الطفل، ولايعنى الوضوح هنا مباشرة المعنى، بل يعنى الانسجام بين المفردة وحالة الطفل النفسية والاجتماعية، ومراعاة خبراته ومدى الطاقة الكامنة لديه على التأويل، إضافة إلى مسحة الجمال التى لا يمكن التخلى عنها فى مفردة الطفل لتحقيق متعة التلقى التى هى الهدف الأهم، الذى يوقع العلاقة بين النص والطفل"(1)،فتقول عفت:

فى مكتبتى أجمل كتب

يومى فيها أجمل عيد

إن يوما عنها أتغيب

أشعر أنى غير سعيد

وتقول أيضا:

فرشاتى حقا حمراء

تجعل أسنانى بيضاء

لا أستغنى عنها أبدا

كل صباح كل مساء

فالمفردات هنا فى متناول الطفل، ومن محيطة ومتعلقاته الشخصية، قريبة منه ومن روحه ومن استخداماته اليومية، فعندما يقضى يومه  فى المكتبة بين الكتب، يكون يومه أجمل عيد، وتغيب السعادة عنه إذا غاب عنها يوما، أما فرشاته الحمراء فهى تنظف أسنانه وتجعلها بيضاء ولا يستغنى عنها فى أى وقت، علاوة على بساطة المفردة وحميميتها.

وتقول أيضا:

طيارة بساعدى

صنعتها من الورق

ماذا هناك يا ترى

يلهيك عنا فى الأفق

تظهر هنا بساطة اللغة، ورشاقة المفردات وإيقاعها المتسارع، الذى يتناسب مع إيقاع وحركة الأطفال، والطائرة الورقية من أحب الأشياء إلى قلب ووجدان الطفل، يصنها بيديه، ثم يسعد بها حينما يطيرها فى الهواء.

(2)           إيقاع القافية:

أهمية القافية لا تقل عن أهمية الوزن والإيقاع الذى يحدث من تجاور الألفاظ، والموسيقى، وخاصة فى شعر الأطفال، وللقافية تشكيلات متعددة وحيل مختلفة يخترعها الشعراء لكسر الملل، ولجذب أذن ووجدان الطفل.

-         القافية البسيطة الموحدة:

وهذا الشكل يكون فى الشعر العمودى، كما فى الشعر الحديث، أما فى الشعر العمودى فهو الشكل المألوف فى تشكيله الصوتى والبصرى، أى أن القصيدة تلتزم قافية محددة من أول القصيدة إلى آخرها، كما هو الأمر عند الشعراء الأوائل، أمثال أحمد شوقى، ومحمد الهراوى، وإبراهيم العرب وغيرهم، وقد نجد ذلك أيضا لدى شعراء متأخرين فى العصر الحديث، ممن لا يزالون محافظين على هذا الشكل التقليدى للقافية فى أشعارهم للطفل، وهذا الشكل يؤدى إلى الرتابة والملل بالنسبة للطفل، وإن كانت غير مستخدمة الآن بكثرة.

-         القافية المركبة المتنوعة:

أما فى قصيدة التفعلية الحديثة، فتجد فيها تنويعات تقفوية، وشاعرتنا عفت بركات تكتب القصيدة التفعيلية، التى تتخذ شكل المربع الشعرى فى  معظم قصائد الديوان، وهو شكل محبب فى الكتابة الشعرية للأطفال، وذلك لانتظام موسيقاه،وجمال وقعها على الأذن، فتقول فى قصيدة "أجمل كتب":

مكتبتى فيها لوحاتى

كنجوم الليل معلقة

من يملك مثل رسوماتى؟

ألوانى الحلوة ساطعة

هنا استخدمت شكل الرباعية ذات القوافى المتواترة، بين (لوحاتى، رسوماتى) و(معلقة، ساطعة) لتحدث جرسا موسيقيا محببا، وإيقاعا حيا.

وتقول فى قصيدة :فرشاتى":

يا فرشاتى أشرق يوم

وأنت غارقة فى النوم

قومى قومى ودعى الكسلا

فالدنيا قد بدأت عملا

فى هذه القصيدة استخدمت الشاعرة تنويعة أخرى من القوافى حيث قسمت القصيدة إلى الشكل الرباعى ولكن التقفية جاءت ثنائية أى أن كل سطرين متتاليين اتفقا فى فافية واحدة، فأعطت موسيقى مختلفة وكسرت الرتابة وجذبت بإيقاعها أذن الطفل.

أما فى قصيدة "علبة ألوانى" التى أرى أنها أجمل قصائد الديوان،  فتستخدم الشاعرة حيلا تقفوية جديدة، حيث بدأت القصيدة برباعية عرجاء، أى تختلف القافية فى السطر الثالث فقط، بينما تتفق فى بقية السطور، فتقول فيها:

من أين تجيء الألوان

يا أصغر علبة ألوان؟

هل جاء المطر، فأعطاك

 ألوان الطيف الفتان؟

ورغم أنها استخدمت الثنائيات بعد ذلك طوال القصيدة، وحافظت على قافية "النون المكسورة" مثل:

أعطاك الأزرق فلأرسم

نهرا ينساب بوديانى

إلا أنها أنهت القصيدة برباعية ذات قافية عرجاء، إذن الشاعرة هنا أجادت فى التنويع بين القوافى وكسرت ملل المتلقى، فهى قصيدة رائعة من حيث المفردات والصور والنغم الموسيقى الراقى والممتع.

3- إيقاع التشكيل البصرى:

"يمكننا القول إن التشكيلات البصرية أدت دورا مهما فى تنوع القافية، وذلك عبر انسجام التشكيل الصوتى مع التشكيل البصرى، ما يجعل الطفل أكثر استجابة عبر حاستى السمع والبصر، للنص الشعرى، وتأويلاته، وموسيقاه"(2)،فالتشكيلات كما أسلفنا ونحن نتحدث عن القوافى انحصرت فى فن الرباعية بأشكالها المختلفة، والثنائيات الموحدة القافية داخل مقاطع رباعية، ولم تتخذ تشكيلات خارج هذا الإطار.

4- إيقاع قصر النص:

من مميزات قصيدة الطفل الناجحة والمتميزة أن تكون قصيرة ومكثفة، وذات لغة سهلة وبسيطة ومراعاة الوزن الخفيف والقوافى المتنوعة تأتى منسجمة مع قصر الوزن الشعرى المقدم للأطفال، خاصة مع المراحل المبكرة، وذلك كى يكون محفزا للطفل فى تعزيز حالة التلقى؛ لأن الطفل فى مرحلة الطفولة المبكرة إنما يتلقى النشيد سماعيا، ما يسهل عليه حفظه وترديده من دون أى عوائق"(3)، ومن ثم فاختيار الأوزان الخفيفة وصيغة التكرار تنسجم مع قصر النص، ومعظم قصائد هذا الديوان جاءت قصيرة وسهلة الحفظ، علاوة على أنها استخدمت صيغة التكرار فى بعض القصائد، ففى قصيدة "هس.. هس"، بدأت القصيدة كالآتى:

هس هس هس هس

هس هس هس هس

فليصمت كل الأصحاب

ولنتأمل خيط الشص

هنا كررت لفظة "هس" ثمانى مرات فى سطرين متتاليين فى بداية القصيدة، و"هس" هى لفظة تستخدم مع الأطفال الصغار حينما نطلب منهم أن يكفوا عن الضجيج، ثم أنهت المقطع الأول بــ "ولنتأمل خيط الشص"، ثم كررت كلمة "الشص" لتكون خاتمة كل المقاطع الخمسة مع تنوع صياغة السطر الشعرى، لتكون كالتالى: "تعلق بهدوء فى الشص"، "جائعة علقت بالشص"، "يوما.. وأراك بالشص"، "فالكبرى علقت بالشص"، ثم عادت وبدأت المقطع الآخير بـ "هس هس هس هس"  على سطرين متتاليين ثمانى مرات مثلما بدأت بها القصيدة، وصيغة التكرار هذه جعلت النص منسجما مع خصائص الطفولة المبكرة، ومع خصائص التلقى الشفهى والسمعى مما يقرب النص من الطفل، ويسهل عليه حفظه وترديده والتغنى به.

5- إيقاع التعدد الصوتى:

"وهو شكل من أشكال الإيقاعات المتكررة، والتى أدعوها بالإيقاعات المرافقة، أعنى بالإيقاعات المرافقة تلك الأصوات التى يستخدمها الشاعر فى القصيدة، والتى تشكل أحيانا ضبطا موسيقيا، أو خلفية موسيقية للنص، وهى من الابتكارات الشعرية الجميلة فى قصيدة الأطفال، غير أنها ليست واجبة الوجود، وإنما وجودها يضفى على القصيدة متعة مختلفة واستجابة رائعة من قبل الطفل"(4)، ومن هذه الأصوات محاكاة أصوات الحيوانات والطيور مع ضرورة أن تكون هذه الأصوات موظفة لكى تؤدى دورا تربويا أو جماليا، وهناك أصوات مختلفة كأصوات الجمادات التى نضفى عليها جمالا حينما نحاكيها ونقدمها فى قصائد للأطفال، كما أوضحنا من قبل فى تكرار كلمة "هس"، كما نرى أن الشاعرة "عفت بركات" استخدمت هذه التيمة فى التكرار الصوتى لبعض الجمادات، مثل: صوت التليفون فى قصيدة "هاتفنا يرن" حيث تبدأ القصيدة، هكذا:

رن... رن... رن

رن... رن... رن

من يطلبنا الهاتف رن؟

كما تكرر هذا الصوت كفواصل بين المقاطع فى سطرين متتالين، ثم تبدأ به المقطع الأخير، وتنهى به القصيدة كما بدأت به، وهذا الصوت مألوف وحميم لدى الأطفال، وفى قصيدة "شهر الصوم" تستخدم صوت الطبلة التى يحملها المسحراتى طوال شهر رمضان الكريم ويجوب بها الشوارع لكى يصحى الناس لتناول السحور، فتبدأ القصيدة، هكذا:

طم.. طم.. طم

طم.. طم.. طم

مرحى مرحى يا أصحاب

هل علينا شهر الصوم

وهذا الصوت حميم جدا ومألوف لدى الأطفال الصغار، "وإن التكرار بكل أنواعه وأشكاله يسهم فى شد الطفل، وتسهيل تلقيه للقصيدة، ويعمل على ترسيخ الفكرة، أو القيمة التربوية والتعليمية، فى ذهن الطفل، سواء من خلال التأكيد على جملة معينة تكرر كلازمة استهلالية أو ختامية أو من خلال كلمة محددة، وتكرارها لأهميتها وارتباطها بموضوع القصيدة" (5)، وقد استخدم هذه التقنية من قبل العديد من الشعراء المصريين والعرب، كالشاعر السورى سليمان العيسى، وفاروق سلوم من العراق، وأحمد زرزور من مصر.

وفى نهاية هذه القراءة لا يسعنا إلا أن نبارك للشاعرة المبدعة "عفت بركات" على هذا الديوان المتميز والذى يحمل كل أوجه التفوق فى شعر الأطفال.