الخميس 28 نوفمبر 2024

فن

لماذا المذكرات.. ولماذا المخفية؟.. من كتاب هيكل المذكرات المخفية لـ"محمد الباز"

  • 16-10-2020 | 14:22

طباعة

كان من السهل على أن أكتب قصة حياة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، مستندا على مصادر عدة، وساعتها كانت الرواية التى بين يديك ستكون مسئوليتى وحدى، لكننى رأيت أن أفتش تحت جلد الأستاذ، أتتبع كل ما كتبه فى كتبه ومقالاته، وكل ما قاله فى حواراته على مدى سنوات عمره المديدة، ومنها أنسج الرواية التى اختار هيكل أن يرويها عن نفسه بنفسه.... وبذلك يكون هو مسئولا عنها.

التجربة لم تكن سهلة – لابد أن أعترف بذلك – ولن أبالغ إذا تعاملت معها على أنها تجربة بحثية خاصة جدا، اقتطعت من أجلها ساعات طويلة، مدركا أن ما قاله الأستاذ هيكل عن حياته المهنية والسياسية يستحق أن نسعى خلفه، لأن فيه من الزخم ما يفيد أجيالا كثيرة قادمة فى مجال الصحافة وما يحيط بها.

كان صعبا على أن أحصى كل ما كتبه الأستاذ هيكل وكل ما كتب عنها، خاصة أن رحلته طويلة طويلة، بدأت فى الصحافة من العام 1942 واستمرت حتى العام 2016، لم ينقطع خلالها عن العمل والكتابة والكلام، لكن لابد أن أعترف بالجميل للأستاذ خالد عبد الهادى الذى وقع فى عشق الأستاذ هيكل مبكرا، فنذر نفسه للحفاظ على تراثه، فجمع كل ما يمس هيكل من قريب أو بعيد.

حاول خالد عبد الهادى أن يضع الأستاذ هيكل بين قوسين من خلال كتابه " هيكل... لمحات إنسانية"  الذى صدر عن مؤسسة الأهرام، وهو الكتاب الذى دون فيه عناوين لكل ما كتب هيكل وكل ما كتب عنه فى كل المصادر العربية والأجنبية، وهو ما استفدت منه حيث أخذت من كتابه دليلا، قادنى إلى مصادر كثيرة، وتواصلت معه شخصيا، ولم يتأخر فى الإجابة عن أى سؤال.

خالد عبد الهادى يمكن أن يكون كلمة السر بعد ذلك فى أى دراسة أو عمل بحثى عن هيكل، وإن كنت أتمنى أن يعيد النظر فى كتابه إذا أقدم على طبعة ثانية منه، فهو يحتاج إلى إعادة ترتيب وإضافات يملكها دون غيره... أو يدخل بما لديه عن هيكل إلى مساحات جديدة من النشر عبر الوسائط المختلفة.

يمكن أن نستريح لما يعتقده البعض من أن الأساذ هيكل وزع سيرته الذاتية عبر نوافذ نشر محددة، ويمكن أن نمسك ب:

أولا: مقاله الذى نشره فى الأهرام فى 11 فبراير 1972 واختار له عنوان " علامات على الطريق" حيث أشار إلى بداياته الصحفية وتفكيره لأول مرة فى إعتزال العمل الصحفى اليومى والتفرغ لتسجيل ما رآه خلال رحلته الصحفية.

ثانيا: كتابه " بين الصحافة والسياسة" وهو الكتاب الذى صدر فى العام 1984 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، وتوصيفه الموجز أنه يتعرض بعلاقة السياسة بالصحافة فى مصر فى الفترة الممتدة من انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى أواسط عقد الثمانينات فى القرن العشرين... لكن الحقيقة أن الكتاب الذى سرد فيه هيكل قصة دخوله الصحافة وتطور خطواته بها... كان هدفه الرئيسى أن يروى قصته مع مصطفى أمين وموقفه من قضية التجسس التى حوكم مصطفى بسببها وسجن لما يقرب من 9 سنوات.

ثالثا: حوار مطول بين سناء البيسى وهيكل نشر فى مجلة نصف الدنيا على أربع حلقات فى يونيو 1992، وكشف فيه لأول مرة تفاصيل حياته الأولى بين عائلته... وأشار كذلك إلى والديه وأقاربه وزوجته.

رابعا: حوار مطول بين مفيد فوزى وهيكل نشر فى نصف الدنيا فى يونيو 2000 وصدرت بعدذلك فى كتاب عنوانه " هيكل الآخر" عن الهيئة العامة للكتاب فى العام 2003، ثم صدرت طبعة خاصة منه عن الكتاب الذهبى الذى يصدر عن مؤسسة روز اليوسف.

خامسا: كتاب يوسف القعيد " محمد حسنين هيكل يتذكر... عبد الناصر والمثقفون والثقافة" وهو الكتاب الذى صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى العام 2013، وسجل فيها جانبا من سيرته بين السياسة والثقافة.

الحقيقة أن هيكل بدأ ومبكرا جدا فى إيداع سيرته لدى من يحيطون به، ولعل كتاب" بصراحة عن عبد الناصر" وهو عبارة عن حوار مطول بين هيكل وجميل مطر وصدر فى العام 1975 من أوائل الكتب التى مارس فيها هيكل هوايته فى أن يحكى قصته ويروى حياته.

فعل ذلك أكثر من مرة عبر حواراته المطولة التى ضمتها كتب مهمة بعد ذلك، منها كتاب عادل حمودة الذى صدر الجزء الأول منه بعنوان" هيكل... الحياة الحرب الحب" وكان مخصصا للحديث عن علاقته بعبد الناصر، ونوه عن الجزء الثانى منه، بجملة واضحة" الكتاب الثانى... هو والسادات ومبارك"... وفى الجزء الأول حكى هيكل لعادل حمودة كثيرا من حياته، وكان من بين ما جاء فى هذا الكتاب حكايات تنشر لأول مرة عن هيكل.

المفارقة أن الجزء الثانى " هو والسادات ومبارك" لم يصدر، فقد تفرقت السبل بين عادل حموده وهيكل، وبدلا من أن يصدر الكتاب، صدر كتاب آخر فى العام 2014 هو " خريف هيكل... أسطورة شاخت فى موقعها"... وأعتقد أن قصة الخلاف التى قادت عادل إلى إصدار هذا الكتاب تستحق أن تروى... لكن لا المكان مكانها ولا الزمان أيضا.

ما وجدته أن هيكل كان يضع نفسه نصب عينيه فى كل ما يكتبه، ولذلك كان سهلا على أن أعثر على قصته فى كل سطر كتبه، وكان سهلا أن أعثر على حكاياته بين سطور كتبه وسطور حوارته، لكن الصعوبة كانت فى البحث عن بناء لهذه المذكرات.

لو كتبها هو بنفسه لأختار لها اسما يروق له، ولأختار لها ترتيبا يناسبه، ولأختار بناء مهنيا يستريح إليه، ثم أنه كان سيستقر على رواية واحدة لكل حدث، فمن سمات كتابات الأستاذ أنك يمكن أن تجد أكثر من رواية لحدث واحد، وهو ما جعلنى أميل إلى الرواية التى تملك القدر الأكبر من التفاصيل، وأستبعد الروايات التى تبدو لى أنه يستدعيها الذاكرة دون أن يعتمد على أوراقه ووثائقه.

لقد قابلت روايات كثيرة يحكيها كثيرون عن الأستاذ، ويكون هو طرفا فيها، يضعون على لسانه كلاما كثيرا، يمكننى أن أنسج منه واحدة من حكاياته، لكننى كنت أستبعد هذه الروايات جميعها، فقد قررت أن تكون الرواية الكاملة التى أنسبها إليها هى روايته سواء تلك التى جاءت فى كتبه أو فى حواراته.

لو استسلمت لكل ما قاله هيكل وكان طرفا فيها، لكان من الأفضل أن أتركه لكم كما ترك نفسه بين الكتب والحوارات وهو كثير ومتشعب ومتشابك، لكننى انحزت فقط  إلى ما يقوله ويدلنا على شخصيته الذاتية والمهنية.

أعترف لكم أننى عانيت كثيرا وأنا أبحث عن الأستاذ، خاصة عندما يتحدث عن نفسه بإعتباره محور الكون... كنت أترك الأوراق وأبتعد قليلا، ثم أعود إليه بعد أن أكون قد تخلصت من سطوته على، وهى طريقة أفادتنى كثيرا.

يمكنك الآن أن تقرأ ما تركه لنا الأستاذ هيكل.

هى وديعته التى كان يعرف أن هناك من سيأتى ليجمعها ويجعل منها كتابا كاملا... ولم يكن يخش من ذلك، لأنه ترك حياته كما أراد.

عندما تقرأ تذكر فقط أنك أمام ثلاث محطات.

الأولى هى المذكرات... وأعتقد أن الأستاذ هيكل لو جلس إلى مكتبه وكتب مذكراته ما كان ليخرج عما دونته هنا، كان يمكنه أن يحذف قليلا أو يضيف قليلا، لكن ما لدينا هنا قلب ما حدث له، وأعتقد أنه كاف لنفهم كيف أصبح هيكل على ما هو عليه، وكيف مضى تاركا وراءه كل هذا التراث.

الثانية هى المخفية... قد تقول أننا لم نكتشف شيئا جديدا عن هيكل، فقد قال كل شئ، وهو ما أقره تماما، لكن هذه المذكرات كانت مخبوءة وسط حكاياته عن الآخرين، عن الأحداث التى عاشها، وهو يتحدث فى مقدمات كتبه عن حكاياتها... وفى حواراته التى كان يعيد فيها تركيب العالم بعد أن يفككه.

لقد صنفت ما قاله هيكل فى ملفات... وبعد أن استقرت الملفات فى يدى، كنت أن دمجت ملفات فرعية فى ملفات رئيسية أكبر بعد أن حذفت منها المعاد والمكرر وهو كثير، فقد اعتاد الأستاذ أن يروى حكاياته أكثر من مرة وبأكثر من طريقة، وبعد أن استقرت الملفات الرئيسية أمامى، أعدت تركيبها مرة أخرى لتكون نسيجا واحدا لا يشذ منه شيئا.

لن يكون غريبا أن تجد حكاية يرويها هيكل فى منتصف السبعينات، ثم تجده يكملها بعد أكثر من عشرين عاما، وكان على أن أقوم بعملية طى للمسافات حتى تقترب الحكايات من بعضها.

الثالثة وهى ساحر الصحافة العربية... هذا التوصيف " الساحر" ينطبق على هيكل تماما، بل يكاد يكون هو التوصيف الأدق لتفسير ظاهرته، فلم يكون الأستاذ صحفيا يخضع للمعايير التقليدية التى نتعامل بها فى حياتنا السياسية أو المهنية، بل كان ابن أقداره وصانعها... تلك الأقدار التى جعلته يصيغ الأحداث كما يرى هو، ويصنف البشر على طريقته، حتى أصبح هو المرجعية العليا فى حياتنا.

قد تكون سنوات عمره خدمته... بل لن أكون مبالغا إذا قلت أن أسطورة هيكل قامت على سنوات عمره المديدة بأكثر من أى شئ آخر.

لقد ولد الأستاذ فى سبتمبر 1923، وتوفى فى فبراير 2016، وتخيل مثلا لو أن الأستاذ قادت أقداره إلى أن يودع الحياة وهو فى الستين من عمره أو حتى فى السبعين، وقتها كان سيذهب دون أن ينتج كل هذا الإنتاج من الكتب والأحاديث والمشاركة فى الأحداث الكبرى.... وقتها كان سيظل صحفيا مهما لكنه بلا أساطير ولا حكايات عظيمة.

كان موهوبا ما فى ذلك شك.

كان ذكيا يشهد له الجميع بذلك.

كان مجتهدا لا يستطيع أحد أن يتنكر لذلك.

لكنه كان قبل ذلك وبعده كان ابن الحظ الكبير... ولولا ما قسمه الله له من عمر لكان واحدا من كبارنا فى الصحافة دون أن يكون كبيرهم أو أعظمهم أو أهمهم.

قد يكون لدى الكثير الذى يمكننى أن أقوله عن الأستاذ... لكن ليس هنا مكانه ولا وقته ولا سياقه... نحن الآن فى رحابه، وهو وحده من الآن الذى سيتحدث. 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة