حدث هذا منذ خمس سنوات فى سبتمبر 2014 ، عندما كنت رئيسا لقسم المحافظات
بجريدة الأهرام ، وطلبنى الزميل حمادة السعيد أحد محررى القسم من مكتب الجريدة فى " أسيوط " ..
وقال لى : ممكن أعرض عليك فكرة قضية مثيرة وخطيرة ، تكتب عنها وتتناولها هذا الأسبوع
فى صفحة القسم الجديدة " دوار الصراحة " ، وعلى فكرة هى منتشرة ولكن لا
أحد يعرف بها..
سألته مندهشا : أى قضية هذه التى تشبه
لعبة الألغاز التى كنا نلعبها فى أيام
طفولتنا ؟
قال الزميل : قضية أطفال الثأر
قلت محاولا من تقليل حماسه وإعجابه بجنون الفكرة : تقصد الأطفال الذين
يولدون إلى الدنيا يتامى ، وقد قتل آباؤهم فى جرائم ثأر .. أى إثارة وأى جديد فى ذلك ؟
رد زميلى : أعرف ذلك ، ولكننى أريدك أن تكتبها هذا الأسبوع قبل أن تفوح
رائحة أخبارها ونخسر الانفراد بها
فى استياء قلت متعجبا : لماذا ؟
رد الزميل : لأننا عثرنا على هؤلاء الأطفال ، وأوراق ثبوت وجودهم ستكون
بحوزتنا ، ولا أدرى إذا تأخرنا ستكون معنا
أم لأ ، ولا متى ستتوفر مرة أخرى؟
فقدت أعصابى لأول مرة منذ مرور عشر دقائق من المكالمة .. ورددت فى عصبية : لو سمحت ، نحن
هنا فى قسم عليه أن يتابع ما يحدث يوميا
فى 28 محافظة على مستوى الجمهورية
، ولست كبير قعدة على مصطبة نتسامر ونحكى ونتسلى ، أريد أفكارا جادة غير مكررة ، أخبارا
مدوية لا يسبقنا إليها أحد ، واليوم قبل غدٍ.
وفى صباح اليوم التالى.. ورغم أنى مازلت مستغربا ما سمعته من الزميل ، أبلغته رغيتى بالمجيء
إلى أسيوط هذا الأسبوع .. ويتبقى
اختيار المكان بالضبط الذى سيقام فيه " دوار الصراحة " واختيار الضيوف..
من يدرى لعل الصيد ثمين وفريد ، وعادة الأفكار الجيدة لا تأتى بقرار.
أجابنى الزميل متسائلا : إيه رأيك فى النخيلة مركز أبوتيج .. قرية أشهر
إمبراطورية لتجارة السلاح والمخدرات فى بر مصر ، وطبعا من لا يعرف النخيلة ،
يعرف فيلم الجزيرة.
وأنهيت المكالمة غير متحمس ، لا لأطفال الثأر ، ولا امبراطورية السلاح
والمخدرات ، وظل هذا حالي إلى أن باغتنى صوت للموسيقار
عبدالوهاب وهو يشدو بأغنيته الشهيرة " النهرالخالد ":
سمعتُ في شطكَ الجميلِ ** ما قالتْ الريحُ للنخيلِ
آه على سرك الرهيب ** وموجك التائه الغريب
يا نيل يا ساحر الغيوب
سبحانك ربى؟ يعنى هذه الأغنية لا
تذاع إلا وأنا فى هذه الحالة .. هم مسئولو
الإذاعة عرفوا بحكاية أن الدوار رايح النخيلة ، فارادوا أن يلهمونا بفكرة جديدة
ولا إيه .. ربما ولم لا .. يبدو أن الأقدار
تصنع الأفكار ؟ يبدوا أنها الفكرة، وفى هذا الزمان نادرا أن تضبط من هو متلبسا بمعرفة أن الذى نظم كلمات هذه القصيدة
ليخلدها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بصوته
، ولد يوم 2 يوليو 1910 بقرية
النخيلة مركز أبوتيج محافظة أسيوط ، تلقى بها تعليمه الأساسى والثانوى ، تلك القرية التى ظلمتها السينما والإعلام و لم
يعد الناس يعرفونها إلا بذكر اسم إمبراطور المخدرات عزت حنفى وشقيقه وآخرين.
في كوخ على ضفاف نيل قريته ،ووسط أنغام جنائزية ولد الشاعر،اخترقت
آيات القرآن صدره فحفظه قبل العاشرة من عمره،ولازمته العربية وعشق وزن الكلمات وصفا
وغزلًا،ولم يكتب سوى الشعر.
كان يرى أن الكلمات تتنزل عليه من وحي يقول «إن تسلفي الشعر
عني.. هكذا كنت أغنيه ومن روحي لروحي صلوات وتغنّي،يلهم الله.. فيمضي وتر الروح يغني»..
بين كلماته تشم رائحة الوطن يختلط بمياه النيل ، وروح صعيد مصر ممزوجة بروعة جمال
اللغة ..
كان يعود الى النيل فى كل شئ ،فها هو يقول إبان الاعتداء
الثلاثي الغادر علی مصر عام 1956م «أنا النيل مقبرة الغزاة،وعن النيل قال : «مسافر
زاده الخيال.. والسحر والعطر والظلال.. ظمآن والكأس في يديه.. والحب والفن والجمال..
والناس في حبه سكارى.. هاموا على أفقه الرحيب».
فبعد دراسته الجامعية بكلية دارالعلوم في القاهرة،تخرّج
الشاعر الكبير الراحل محمود حسن إسماعيل وهويحمل معه أوراق ديوانه الأول “أغاني الكوخ”،الذي
أصدره عام 1935،ليكون،وقتها،الشاعرالوحيد الذي نظم قصائد “النهر الخالد”ليخلدها لنا
الموسيقار محمدعبد الوهاب بصوته المتفرد، ذلك ضمن قصائد مغناة أخرى ،كـ “بغداد يا قلعة
السود”التي غنتها أم كلثوم،و”نداء الماضي”التي غناها عبدالحليم حافظ،وعدد من قصائده
محفوظًة بأصوات أعظم مطربي العالم العربي.
ويكتب شاعر الكوخ عن ديوانه الأول: «عشت القرية بروحي وجسدي،وديواني
يمثل إحساسي بالرفض لعالم القرية الذي يخيم علیه الرق والمسكنة والتجبر والمغايرة الشنيعة
بين إنسان وآخر في كل شيء».
المحزن أنه هنا في النخیلة وفي كل قریة تذهب إلیها فى أسيوط
، نادر أن يحدثك أحد عن الشاعر محمود حسن إسماعيل ، ولا عن دواوينه الــ14 ، أو
عمله مساعدا بالمجمع اللغوى للدكتور طه حسين، وحصوله على وسام الاستحقاق التونسى
من الحبيب بورقيبة وجائزة الدولة التشجيعية ووسام الجمهورية من الطبقة الثانية ،
ولا أحد أيضا سيتفوه بكلمة عن الشاعر محمد
يونس القاضى شيخ المؤلفين المصريين ، وصاحب كلمات
نشيد بلادى بلادى ومكتشف أم كلثوم
وعبد الوهاب ، أو الكاتب الصحفى والخبير
الاقتصادى المتميز سعيد سنبل رئيس تحریرجریدة الأخبار، وكذلك صاحب البرنامج الشهير " الكاميرا الخفية
" الفنان إبراهيم نصر الذى حالفه الحظ ويكاد يكون الوحيد الذى تم تكريمه من
بين هؤلاء الشعراء والمفكرين والكتاب ،فكل أجهزة الإعلام والسینما تجاهلت كل ذلك،وراحت
تحوله إلى رمز من رموز الخروج عن القانون
وستلاحقك فقط حكایة «فاطة بنت الأخضر»المرأة فائقة الجمال،التي
قتل أبوها وأخوها فی معركة النهر بین الخوارج وعلي بن أبي طالب .. فلما رآها «عبدالرحمن
بن ملجم»أخذت قلبه فخطبها .. فقالت له: لا أتزوجك حتى تثأر لي فقال: وماذا تریدین؟
قالت: ثلاثة آلاف عبد،أو قتل علي بن أبي طالب،فإن أصبته نفعك العیش معي .. فوافقها
وأصاب علي.
. ولكن مهما طال الزمن یظل البشر هم الذین یمنحون الأمكنة
قیمتها ورونقها،فكان الموقع المختار" لدوار الصراحة" في وسط الشارع وسط القریة
وأمام البیت الذي ولد به محمود حسن إسماعیل،
وعلیك أن تتصور التأثیر والمعنى ..
دعنى أعترف ..
لم أكن أنوي أن أكتب عن النخيلة،ولكن عندما طلب منى صديقى
وبلدياتى الرائع الأستاذ خالد ناجح رئيس التحرير،أن أشارك بصورة فريدة تلفت
انتباهى دائما ، كلما جاءت سيرة الصعيد والكلام عن ملفاته المتخمة بالأحزان
والتجاهل وتناقضاته ، تحمست ولم أجد إلا النخيلة نموذجا يصلح وفى هذا التوقيت
بالذات، وقبل أيام سألت صديقى المفكر والكاتب السياسي والمسرحى المعروف جمال أسعد
ابن مركز القوصية ، لماذا لا يكون فى النخيلة ملتقى للشعر الأفريقي ، ولماذا تكون فاعليات عام الشباب الأفريقى
قاصرة على أسوان ولا تستفيد بها محافظات الصعيد وتعم الفائدة ، فهل هناك مانع أن تشارك
جامعة أسيوط وبها قسم ناشط لدراسة الفرنسية وثقافة الفرانكفونية الذائعة الصيت فى
أفريقيا بأن تتبنى معنا تنظيم هذا الملتقى الشعرى هناك فى قرية النخيلة مسقط رأس
الشاعرين الكبيرين " محمود حسن إسماعيل ويونس القاضى " ونستبدل مسمى
" كابوس جزيرة عزت حنفى " بحلم
" قرية عمالقة الشعر "
فجأة قال لى أسعد : من يتخلّ عن مثل هذه الأفكار ودعمها لا
يحب مصر ولا يعشق الصعيد ولا يفكر فى همومه ولا مثقفيه نعم إن الشعر والفن وهذا
الملتقى سيكون أعظم وسيلة وقدرة على التعبير بأننا ننتمى إلى أفريقيا ، فى الشعر
سعادة ، وفيه هموم وألم ، وبدلا من أن تعبر عنه بالهتافات واللافتات والثرثرة الفارغة فى الفضائيات ، عبر عنه بفنك وأشعارك
على مستوى القارة.
أما الأبنودي،الذي كان يتلو قصائد محمود في شبابه،فقد
صدق عندما أهدى الشاعر محمود حسن إسماعيل
قصيدته “تفاحة آدم”في ذكرى ميلاده الـ 94 وقال :
كان الطريق واعر
ياعمنا الشاعر
دخلته حافيا بلا متاع
وتركته واضح بلا قناع
الرحلة في النار لا تتأجر ولا تتباع
والهم. تقيل واللا خفيف
40 عاما مرت على وفاته
،وفي يوم الشعر العالمي،اختارت الأقدار ضفاف النيل موقعا للاحتفال بذكرى الشاعرالكبير
محمود حسن إسماعيل ،في مدينة الشمس (الأقصر)،وكلماته في إحياء ذكرى وفاة حافظ إبراهيم
شاعر النيل،يقول: «إن الجنون بمصر أروعُ حكمةٍ.. يوحى بها شرع الوفاء ويأمرُ.. قم عاتب
الأوطان حافظُ هاتفا.. بهواه إن جنانها متحجّرُ.. شعرٌ إذا ينساهُ شعبُكَ جاحداً..
فالنيل في يوم الفخار سيذكرُ».